سقوط قرطبة.. بصمة سوداء في تاريخ الحضارة الإسلامية

الجمعة 29/يونيو/2018 - 03:15 م
طباعة سقوط قرطبة.. بصمة هناء قنديل
 
بقدوم شهر يونيو من كل عام تستدعي ذاكرة التاريخ حدثًا يتشح بـ«السواد»، غيَّرَ كثيرًا في لُحمة الحضارة الإسلامية، التي ملأت الدنيا نورًا لأكثر من 10 قرون، ففي التاسع والعشرين من يونيو 1236 ميلادية، سقطت حاضرة «قرطبة»، حاضنة الحضارة الإسلامية في أوروبا، ورمز تطور وشموخ المسلمين التاريخي، التي ضمت أكبر مساجد العالم.
قرطبة» منارة العلم التي أضاءت قارة أوروبا شرقًا وغربًا، عبر 10 آلاف دار تحيط بها الحدائق الغناء، ونوافير المياه، واحدة من أكثر مدن العالم اتساعًا بفضل نشاطها التجاري، ونظامها العمراني الفريد؛ الأمر الذي أبقاها عاصمة الدولة الإسلامية في الغرب لمدة تجاوزت 500 عام، ورغم سقوطها فإن ما تركته من نهضة تجارية وتراث ثقافي وعمراني ما زال شامخا يشهد على ما أسدته للدنيا من مكارم حتى اليوم.

وخلال فترة حكم الدولة الأموية للأندلس (662- 750م، ثاني خلافة في تاريخ الإسلام، وأكبر دولة في تاريخه)، وعاصمتها «قرطبة» تم التوسع في التعليم الذي جعل العامة يجيدون مهارات القراءة والكتابة، ضمن نهضة ثقافية واسعة، ضمت علوم الرياضيات والفلك والكيمياء، ونبغ إبان عصرها الزاهى، عشرات العلماء العرب، مثل: «الخوارزمي، وابن السمح القرطبي، وابن الصفار، وعباس بن فرناس».

كما تنوع النشاط الاقتصادي في عموم الدولة الأموية، ما بين زراعة وصناعة وتجارة، وامتد ذلك إلى الأندلس، فأُصلحت وسائل الري، وشُيدت الجسور والقناطر، وشُقت القنوات، وحُفرت أحواض استغلال مياه السيول المقبلة من الجبال، كما برعوا في فنون تنسيق الحدائق، وأدخلوا إلى أوروبا نباتات لم تكن معروفة من قبل، كـ«الأرز، وقصب السكر، والزيتون، والمشمش، والقطن والفستق».

ولم يقف تقدم حضارة الأندلس عند هذا الحد، إنما امتد للأدب وعلوم اللغة والتاريخ، وازدهرت الترجمة، فبرز «ابن عبدربه» بكتابه «العقد الفريد»، وهو موسوعة ثقافية لأحوال الحضارة الإسلامية في السياسة وفنون الحرب وطبائع البشر، كما وضع الأندلسيون كتبًا في علوم اللغة، أشهرها كتاب «تصاريف الأفعال» لــ«ابن القوطية»، وهو أول كتاب يتناول الأفعال الثلاثية والرباعية في اللغة العربية.

كما تقف مباني الأندلس شاهدة على براعة نادرة في فنون العمارة، ويعد مسجد «قرطبة»، الذي صنفته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» ضمن مواقع التراث العالمي، أهم الشواهد المعمارية على الإطلاق، حول تلك الحقبة الفريدة في تاريخ الحضارة الإسلامية.
◄ سقوط قرطبة:
لم تسقط قرطبة إلا على إثر الضعف والوهن الذي أصاب الدولة الأموية، والانقسام الذي سرى سرطانه في أوصال الدولة، حتى وصل إلى الأندلس، فتوزعت سلطتها بين خمس مناطق، يفصل بين كل منها سور.

وفي أوائل عام 1236م (633 هـ)، خرج الفرسان القشتاليون (نسبة إلى قشتالة واحدة من ممالك القرون الوسطى) على مشارف «قرطبة»، واستطاعوا -وفق خطة محكمة- اقتحام الأسوار الخارجية للمدينة، وقتلوا عددا كبيرا من الأهالي، فيما فر الباقون.

ونقض ملك القشتاليين فرناندو الثالث عهده مع ابن هود (حاكم قرطبة) بزعم أنه يعين بعض مسيحيي المدينة الذين استنجدوا بالقشتاليين، ونصب ملك قشتالة إقامته قبالة على طريق إستجة، وأخذ في الحال في وضع خطة للاستيلاء على المدينة، وسط استعدادات القرطبيين للدفاع عن مدينتهم، فيما جمع «ابن هود» قواته من قطاع مرسية، حينما علم بالخطر الذي يحدق بعاصمة الخلافة القديمة، فسار في قواته مسرعًا صوب قرطبة، وانحرف عن العاصمة قليلا، وعسكر على مقربة من إستجة.

وضرب ملك قشتالة حصارا أجبر أهل قرطبة على مفاوضته على التسليم مقابل أن يأمنوا على أنفسهم، ووافق ملك قشتالة على هذا الشرط، ولكن أهل قرطبة علموا عندئذ أن الجيش القشتالي تنقصه المؤن، وأنه يعاني أيضًا من قلة القوات، فنكثوا عن توقيع عهد التسليم أملا في أن يضطر القشتاليون إلى رفع الحصار فتنجو المدينة من السقوط.

إثر ذلك اتجه ملك قشتالة إلى الاتفاق مع خصم «ابن هود» حاكم قرطبة، وهو محمد بن الأحمر أمير جيان، فانهارت آمال أهل قرطبة، وتم التسليم على معاهدة لمدة ٦ سنوات مع «ابن هود» يدفع بموجبها الأخير، مبلغًا من المال كفدية على ثلاثة أقساط سنوية.

وندب ملك قشتالة لحكم المدينة المفتوحة الدون تليو ألفونسو، وحشدت لحراسة المدينة حامية كافية من الفرسان، وكان ذلك بداية إعلان سقوط قرطبة في ٢٩ يونيو ١٢٣٦م.

شارك