حد الردة بين التفسير المغلوط والتطبيق الأعمى

الإثنين 27/أغسطس/2018 - 08:50 ص
طباعة حد الردة بين التفسير أحمد الشوربجي
 
من حين لآخر ينشر تنظيم داعش الإرهابي، صورًا لأشخاص يتم رجمهم، وآخرون يتم إطلاق النار عليهم، تحت مسمى «حد الردة»، وهو ما يُثير علامات استفهام يتعين على المتابع استجلاء حقيقتها.

مؤخرًا نشرت دار الإفتاء المصرية على صفحتها الرسمية فتوى تناقش فيها مسألة «حد الردة»، وقد لوحظ أن الفتوى نشرت مرتين متضمنة الفحوى ذاتها، ولكن بعنوانين مختلفين ففي المرة الأولى نشرت الفتوى تحت عنوان: «الجهاد تحت دعوى قتل المرتدين»، وكأنها بذلك ترد على ما تفعله الجماعات الإرهابية من قتل وترويع للناس تحت دعوى أنهم مرتدون.

أما المرة الثانية فكانت تحت عنوان «يزعم بعضهم أن الإسلام قضى على حرية العقيدة حيث أباح قتل المرتد، فما هي حقيقة هذا الأمر؟» وكأنها تستهدف الرد على من يسيء للإسلام وينتقد بهذه المسألة، خاصة من الغرب.


إشكالية قتل المرتد 
بدا من فتوى - أو فتويي دار الافتاء المتشابهتين- أن الدار تولي اهتمامًا بالغرب وبما يقوله ويشيعه عن الإسلام، تاركة ما تفعله هذه الجماعات دون حكم، حيث بدأت حديثها بقولها: تمثل قضية «قتل المرتد» في الفكر الغربي إشكالية كبيرة، فيظنون أن الإسلام يُكْرِه الناس حتى يتبعوه، ويغفلون عن دستور المسلمين في قضية حرية الاعتقاد التي يمثلها قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾.

لا يستطيع أحد أن ينكر أن كل الكتب المعتمدة لدى جميع المذاهب الفقهية الإسلامية اعتبرت الردة عن الإسلام جريمة يعاقب فاعلها بالقتل، ولعل هذا يفسر لنا موقف الشيخ «محمد الغزالي» وهو واحد من كبار الدعاة المجتهدين والمفكرين الإصلاحيين حينما لم يكتف بالحكم على المفكر الكبير فرج فودة بالردة ولكنه ذهب لأبعد من ذلك حينما شهد في المحكمة لصالح من قتلوه، عدد ليس بالقليل من الفقهاء المعاصرين يرون ضرورة تغيير هذا الفقه باجتهاد جديد يؤدى لتغيير هذا الحكم المستقر في الكتب القديمة.

حاولت دار الإفتاء المصرية أن تفعل هذا فبدأت في عرض القضية وتوضيحها من زاويتين: الزاوية الأولى: هي النص الشرعي النظري الذي يبيح دم المسلم إذا ترك دينه وفارق الجماعة، والثانية: هي التطبيق التشريعي ومنهج التعامل في قضية المرتد في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك خلفائه رضوان الله عليهم.

الرسول لم يقتل مرتدًا 
تدل التطبيقات العملية على عدم قتل المرتد لمجرد ردته سواء في عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) أو في عهد خلفائه الراشدين، ومن ثم شرعت الدار في حشد الأدلة التي تثبت ارتداد أصحابها عن الإسلام وخروجهم منه بكلمات مكفرة ومع ذلك لم يقتلوا فقالت: فأما في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقتل «عبد الله بن أبي»- رأس النفاق- وقد قال: «لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ».

وأضافت أيضًا أن النبى لم يقتل «ذا الخويصرة التميمي» وقد قال له: «اعْدِلْ»، ولم يقتل من قال له: «يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَنْهَى عَنِ الْغَيِّ وَتَسْتَخْلِي بِهِ»، ولم يقتل القائل له: «إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ»، ولم يقتل من قال له -لما حكم للزبير بتقديمه في السقي: «أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ»، وغير هؤلاء ممن كان يبلغه عنهم أذًى له وَتَنَقُّص، وهي ألفاظ يرتد بها قائلها قطعًا؛ لأنها اتهام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما في ذلك من تكذيب له بأمانته وعدله.

للمزيد.. «السلفية المحتسبة».. الردة على مسيرة التنوير

وتابعت الدار وقد كان في ترك قتل من ذكرت وغيرهم مصالح عظيمة في حياته، وما زالت بعد موته من تأليف الناس وعدم تنفيرهم عنه؛ فإنه لو بلغهم أنه يقتل أصحابه لنفروا، وقد أشار إلى هذا بعينه، وقال لعمر رضي الله عنه لما أشار عليه بقتل عبد الله بن أبي: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»، ولم يستخدم ما أباحه الله له في الانتقام من المنافقين ومعاقبتهم كما ورد في سورة الأحزاب قال تعالى: ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا).

وكذلك ما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) عَلَى الإِسْلَامِ، فَأَصَابَ الأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى الأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقِلْنِي بَيْعَتِي" يقصد بيعته على الإسلام"، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ)، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ): «إِنَّمَا المَدِينَةُ كَالكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طِيبُهَا»، فهو لم يقتله، فلماذا لم يقتل كل أولئك الذين يصدق عليهم قول ربنا: ﴿وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ﴾؟

الفاروق يرفض قتل المرتد 
وأما في عهد الخلفاء، وبالتحديد في زمن الفاروق عمر رضي الله عنه، فقد روي أن أنسًا رضي الله عنه عاد من "تُستَر"، فقدم على عمر رضي الله عنه فسأله: "مَا فَعَلَ الرَّهْطُ السِّتَّةُ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: فَأَخَذْتُ بِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِيَشْغَلَهُ عَنْهُمْ، قَالَ: مَا فَعَلَ الرَّهْطُ السِّتَّةُ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قُتِلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ، قَالَ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهَلْ كَانَ سَبِيلُهُمْ إِلَّا الْقَتْلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَعْرِضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوَا اسْتَوْدَعْتُهُمُ السِّجْنَ". فلم يرَ عمر رضي الله عنه قتلهم بدًا؛ رغم أنهم ارتدوا وقاتلوا المسلمين؛ لكنه رأى استتابتهم، وإلا سجنهم.

كل تلك الوقائع التي كانت في عهد التشريع جعلت فقهاء المسلمين يفهمون أن مسألة «قتل المرتد» ليست مسألة مرتبطة بحرية العقيدة والفكر، ولا مرتبطة بالاضطهاد، وأن النصوص التي شددت في ذلك، لم تعنِ الخروج من الإسلام بقدر ما عنت الخروج على الإسلام الذي يُعدُّ جرمًا ضد النظام العام في الدولة، كما أنه خروجٌ على أحكام الدين الذي تعتنقه الأمة، ويُعتَبر حينذاك مرادفًا لجريمة الخيانة العظمى التي تحرمها كل الشرائع والدساتير والقوانين.

ويرى الشيخ شلتوت شيخ الجامع الأزهر الأسبق رحمه الله أن قتل المرتد ليس حدًّا فيقول: [وقد يتغير وجه النظر في المسألة؛ إذ لوحظ أن كثيرًا من العلماء يرى أن الحدود لا تثبُت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس مبيحًا للدم، وإنما المبيح هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم، وأن ظواهر القرآن الكريم في كثير من الآيات تأبى الإكراه في الدين].

وعليه فإن قتل المرتد لم يكن لمجرد الارتداد، وإنما للإتيان بأمر زائد مما يفرق جماعة المسلمين، حيث يستخدمون الردة ليردوا المسلمين عن دينهم، فهي حرب في الدين كما قال تعالى: ﴿وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.

ويؤيد ذلك أيضًا ما ذكره الشيخ ابن تيمية: [أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قبل توبة جماعة من المرتدين، وأمر بقتل جماعة آخرين، ضموا إلى الردة أمورًا أخرى تتضمن الأذى والضرر للإسلام والمسلمين، مثل أمره بقتل مقيس بن حبابة يوم الفتح، لمَّا ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال، ولم يتب قبل القدرة عليه. وأمر بقتل القُرَآنيين لمَّا ضموا إلى ردتهم مثل ذلك، وكذلك أمر بقتل ابن خطل لمَّا ضم إلى ردته السبَّ وقتل المسلم، وأمر بقتل ابن أبي السرح لمَّا ضم إلى ردته الطعن والافتراء].

واختتمت الدار فتواها بقولها: مما سبق يتبين لنا: أن «قضية قتل المرتد» غير مطبقة في الواقع العملي المعيش، ووجودها في المصادر التشريعية لم يكن عقوبة ضد حرية الفكر والعقيدة، وإنما تخضع للقانون الإداري.

شارك