التصوف المتشرّع.. دروس العلم تُهدد حلقات الذكر

الجمعة 31/أغسطس/2018 - 08:20 ص
طباعة التصوف المتشرّع.. سارة رشاد
 
في ليلة الثالث من شعبان 1439، ألقت زينب (40 عامًا) شالًا ربيعيًّا خفيفًا على كتفها، لتترك وراءها حشدًا صوفيًّا جاء إلى مقام الإمام الحسين، بوسط القاهرة؛ للاحتفال بذكرى ميلاده، داخل سيارة صديقة شابة حديثة التصوف، أسلمت زينب جسدها المثقل بالسنين، لتقلها السيارة بعد ربع الساعة إلى مسجد طريقة صوفية، يقع بمنطقة قايتباي في القاهرة القديمة.

هناك بدأ شيخٌ صوفي اعتاد الظهور على الفضائيات في الحديث عن سيرة الإمام الحسين، وفضل حب آل بيت الرسول، بدا الأمر في أوله غريبًا؛ فما الشيء الذي يقنع متصوفة بتفضيل درس علم يُقام أسبوعيًّا في مسجد بعيد، على احتفال ديني يقطع من أجله المُريدون مسافات لإحيائه مرة واحدة في العام.

هذه الغرابة تبددت منذ تحدثت زينب إلى «الْمَرْجِع» عن تجربتها من «تصوف الموالد إلى تصوف الدروس العلمية» على حد وصفها، فتقول إنها التحقت بالطريقة الإدريسية ببلدتها في أسوان قبل عشر سنوات، وتعلمت فيها أن التصوف هو حب الله، وحب أوليائه، والتعلق بمقاماتهم. 

استمرت زينب على هذا الفهم، إلى أن ساقها قدرها إلى درس علمي صوفي، فتروي قائلة: «استمعت فيه إلى تصوف غير هذا الذي تعلمته، وترددت على دروس العلم الصوفية، وتعلق قلبي بمشايخ أزاهرة يُقدمون التصوف بشكل آخر، فلم يعد التصوُّف بالنسبة لي مولدًا ومقامًا، بل أصبح علمًا أجتهد في التعرف عليه».

انسحاب السيدة الإدريسية من المولد إلى درس علمي، يمكن فهمه في سياق صوفي جديد، تعرفه الصوفية المصرية، يُسمى «التصوف العلمي»، أو «التصوف المتشرّع»، وهي موجة صوفية جديدة نشأت إلى جوار التصوف الطرقي (يُعبر عنه بـ77 طريقة)، على يد مشايخ صوفيين جاء أغلبهم من خلفيات أزهرية، يقدمون التصوف بصورة علمية لا تختصره في الموالد والمقامات.

ولا يهتم التصوف العلمي بوجود طرق صوفية، لكنه في الوقت نفسه لا يرفضها، معتبرًا إياها كيانات إدارية استحدثت بمقتضى قانون 118 لسنة 1976، لتنظيم أوضاع الصوفية في طرق؛ لذلك فالتصوف العلمي هو تصوف ما قبل الطرق، عندما كانت الصوفية مجسدة في شيخ ينقل علمه إلى مُريديه، دون الحاجة لتدوين اسمهم في جداول رسمية لطريقة صوفية.

هذا الوجه الآخر للصوفية يبدو أنه مزعج لمشايخ الطرق، الذين عبَّروا عن تخوفهم من تقديم تصوف غير طُرُقي لا يشترط وجودهم، لكنهم في الوقت نفسه شددوا على متانة العلاقة بين المُريد والشيخ، من بينهم كان عضو المجلس الأعلى للطرق الصوفية، شيخ الطريقة العزمية، علاء أبوالعزائم، الذي قال لـ«الْمَرْجِع» يستحيل أن يتخلى المُريد عن شيخه، فالعلاقة بينهما قائمة على حب عميق وتقدير.

وتُشبِّه الصوفية العلاقة بين المُريد والشيخ، بالميت بين يد مُغَسّله، في إشارة إلى الطاعة التامة دون رد، ويبرر هذه العلاقة احتواء يوفره الشيخ لمريديه؛ ليقنعهم بحقه في الطاعة، هل هذا الاحتواء مازال قائمًا بين الشيخ والمُريد؟ ينفي شيخ العزمية وجوده، مقرًّا بتخلي الطرق الصوفية عن دورها في التربية، ويقول: «لم تعد الطرق تمتلك المربين الذين كانوا يتابعون المريدين ويرشدونهم»، موضحًا أن الشيخ لم يعد متواصلًا بشكل مباشر مع المريدين، كما كان يحدث من قبل، ومِنْ ثَمَّ فالعلاقة بينهم قائمة الآن على احترام جرت العادة عليه لمنصب الشيخ.

العم ياقوت، الستيني المنتمي إلى إحدى الطرق الأحمدية، نموذج للاحتواء المفقود بين الشيخ والمُريد، فيقول لـ«المرجع»: إن شيخ طريقته شابّ صغير لا يعرف عن التصوف كثيرًا، ولم توفر لهم الطريقة مربين على درجة عالية من الكفاءة؛ ما جعله يجتهد في فهم التصوّف بنفسه.

ويختصر «ياقوت» تجربته الذاتية في الصوفية، بأن التصوف هو حب الله وآل البيت، وحب الخير للآخرين، قائلًا إنه توصل لأشياء تُمكّنه من إقامة طريقة خاصة به، لكنه لا يرغب.

تقصير طريقة العم ياقوت الذي دفعه للاجتهاد والوصول إلى أشياء، لا يعلم ما إذا كانت صحيحة أم لا؟ يفسرها شيخ الطريقة البرهامية الدسوقية، وعضو المجلس الأعلى للصوفية، محمد علي عاشور، بشكل عام، بفقر يعانيه مشايخ الطرق -تحديدًا الشباب منه- ما جعلهم غير قادرين على نصيحة مريديهم.

ويتابع أن الشيخ منهم غير عارف بالتصوف، فكيف سيعلم المُريد؟ ولهذا الشيء كشف أن المجلس الأعلى للصوفية يفكر في تدشين دورة تعليمية لمشايخ الطرق، تحديدًا الشباب؛ لمساعدتهم على فهم التصوف، ومن ثم يتمكنون من إدارة طرقهم التي تولى مشيختها بالوراثة.

الباحث في الجماعات الإسلامية، مصطفى زهران، بدوره اتفق على إمكانية أن يهدد التصوف العلمي مشايخ الطرق الصوفية، فيقول لـ«المرجع»: إنه يُمثّل «خطوة باتجاه تنقية التصوف الطرقي من الشوائب التي لحقت به على مدار نصف قرن»، متابعًا أن «التصوف العلمي يُسهم في إعادة التصوف إلى سيرته الأولى بآليات وخطاب علمي، وأسس منهجية وفلسفية، قادرة على تقديم تصوف، ومواجهة التطرف».

شارك