الإسلامفوبيا والعنف والكراهية ضد الآخر.. بين الأزهر الشريف والفاتيكان
الثلاثاء 06/أغسطس/2019 - 01:01 م
طباعة
حسام الحداد
قامت وحدة الرصد باللغة الإنجليزية التابعة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف والإرهاب بنشر أحدث تقاريرها 5 أغسطس 2019، والذي خصصته لمناقشة "حوار الأديان بين الأزهر الشريف والفاتيكان.. الجهود والتحديات"، حيث تنوّعت جهودُ الأزهر الشريف في ملف الحوار الديني، على الصعيديْن المحلي والدولي، فالعلاقة بين الأزهر الشريف والكنيسة المصرية -بكافة طوائفها - تميّزت بالدفء، وتبادل الشعور الطيّب، والاحترام المتبادل، والمشاطرة في الأفراح والأحزان على مدار السنوات الماضية. كما تنوّعت الأنشطةُ الاجتماعية بين الأزهر الشريف والكنيسة المصرية ما بين حوارات ومؤتمرات وندوات وجهود مختلفة في قضايا وهموم وطنية جمعت كلتا المؤسستيْن تحت سقف بيت العائلة المصرية، الذي أسّسه الإمام الأكبر ليكونَ مشرفًا على ملف دعم الحوار وتعزيز العلاقات بين المؤسستيْن.
كما أدركَ الإمام الأكبر، شيخ الأزهر الشريف، والبابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، الدورَ الإنساني المنوط بهما تجاه الإنسانية جمعاء، وشاء الله سبحانه، أنْ يتزامنَ توليهما لمنصبيهما في وقت يجتاح العالمَ فيه العديدُ من المشاكل والأزمات والتحديات على الصعيديْن: المحلي والدولي. فما بين حروب داخلية، وأزمات لاجئين، وإرهاب، وغياب للقيم الأخلاقية في شتى المجالات، وتلاشي لصوت العقل في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، وصعود للخطاب الراديكالي اليميني، يجد العالم نفسه تائهًا في لجّة بحر هائج يكاد يعصف بقيم الإنسانية.
وقد فرَض هذا على كلٍّ من مؤسسةِ الأزهر الشريف ومؤسسةِ الفاتيكان أنْ يقوما بالدور المكلَّفيْن به إنسانيًا ودينيًا -وهو الدورُ الممتدُ في جذور وأعماق التاريخ- وأنْ تتشابه رسالتهما ومبادئهما في سبيل إصلاح المجتمعات وتحقيق السلام ونبذ العنف وتعزيز الحوار.
فلقد فرضت المسئوليةُ الإنسانيةُ والدينيةُ على كلٍّ من المؤسستيْن أنْ يسارعا من أجل مواجهة التطرف الحاصل في شتى مجالات الحياة، عن طريق ترسيخ القيم التي يتشاطرها كلٌ منهما، لمواجهة الكراهية والتعصب والعنف المنتشر شرقًا وغربًا. فللأزهر رسالته التي يستمدّها من الدين الإسلامي، والتي يسعى من خلالها إلى تصحيح صورة الدين الإسلامي التي سعت إلى تشويهها جماعاتُ العنف وأعداءُ التسامح وتصرفاتُ الجاهلين. كما يشعرُ الأزهرُ كذلك بمسئوليةٍ تجاه الجماعات المسلمة التي تعيش بين أكثرية غير مسلمة، ولذلك فهو يضطلع بدور كبير في تسليحهم بالقيم الدينية الإسلامية الصحيحة، ومفاهيم التسامح والتعايش، وقيم الحوار التي دعا إليها هذا الدين الحنيف.
ولم تقتصرْ رسالةُ الأزهر الشريف على الإسلام والمسلمين، بل إنّ إيمان المؤسسة برسالة الإسلام الإنسانية العالمية، حتّم عليها أنْ يكونَ الأزهر فاعلًا في المجال الإنساني، مادًا يدَاه بقيمه ومبادئه وبدعوته الإنسانية إلى نبذ العنف، وربط الجسور مع كل الثقافات، ودعم الحوار بين كل المذاهب والأديان من أجل إنسانية أكثر سلمًا وأمنًا للحاضر والمستقبل.
ولمّا كانت كلُّ المشكلات والأزماتِ التي يواجهُها العالم وتعاني منها الإنسانية تعودُ إلى أسباب منها الجهلُ بالآخر، وعدمُ السماع من بعضنا البعض، واتساعُ الفجوة بين الأديان والثقافات، وفقدانُ الوصول إلى الثقافات الأخرى إلّا عن طريق وسائط تفتقر في المجمل إلى الأخلاق والقيم وتُعنى بالإثارة ونشر الخوف والكره بين الأمم عن طريق تصدير صور نمطية مرعبة تبثّها في المجتمعات عن الآخر- أدرك الأزهرُ الشريفُ أنَّ ملفَ الحوار الديني، وبناء الجسور مع الأديان والثقافات الأخرى هو السبيل الأمثل لتبديد تلك الظلمات وإنهاء تلك الأزمات.
آمَنَ الأزهرُ الشريف بأنَّ تغييرَ الصور النمطية السلبية عن الإسلام لن يأتي إلا بالحوار، وأن تعريف الأممِ بالإسلام لن يأتي إلا ببناء الجسور. ولم يكنْ إيمانُ الأزهر بأهميّة الحوار الديني حالةً من ردِّ الفعل على هذه الأزمات التي تحيط بعالمنا، بل إنّ استمداد الأزهرِ رسالته من وحي السماء هو ما دفعه إلى التفاعل والانطلاق من أجل الحوار بالحكمة وبالتي هي أحسن. فرسالةُ الأزهر في قضية الحوار الديني ليست تماشيًا مع العصر، أو تزامنًا مع دعوات وصيحات مؤقتة بسبب مشكلة في الشرق أو الغرب، بل هي معتقدٌ ديني، وواجبٌ إيماني نابعٌ من طبيعة المؤسسة قبل أنْ تكون ردَّ فعل على المشكلات الحالية التي يشهدها عالمُنا.
وعلى المستوى الدولي، فقد كانت السنوات الماضية من المراحل التي أدركَ فيها الأزهرُ الشريف أهميةَ رسالته في ملف الحوار الديني، فدعا الوفودَ والضيوفَ من جميع الأديان والثقافات حول العالم ليجتمعوا في حصنِ الأزهرِ الشريف لتعزيز هذا الملف، ولاستثماره في حل الأزمات التي تواجه العالم شرقًا وغربًا. ولم تتوقفْ جهودُ الأزهر على استقبال الوفود ورؤساء الملل والأديان، بل سارعَ الأزهرُ الشريف، غير مرة، إلى تدشين مؤتمرات عالمية مع قيادات وأعضاء ينتسبون إلى ديانات ومذاهب مختلفة، كاثوليكية وبروتستانتية، ويهودية، وبوذية......إلخ.
وإن الناظر المدقق ليدرك أن الأزهر في حلّه لقضية الروهينجا التي شغلت بالَ الأزهر الشريف كثيرًا- ولا تزال– قام بدعوة رجال الدين من دولة ميانمار، وعقد مؤتمرًا بعنوان "نحو حوار إنساني حضاري من أجل مواطني ميانمار (بورما)".
كما دعا الأزهرُ في "مؤتمر الأزهر العالمي من أجل القدس" أطرافَا من كافة الأديان والمذاهب للتحاور حول هذه القضية الإنسانية، وكان من بين الحضور والمشاركين رجال دين مسيحيون ويهود من جميع أنحاء العالم. وكان من أبرز المؤتمرات التي تعبر عن دور الأزهر في تفعيل قضية الحوار المؤتمر العالمي الحاشد تحت عنوان "الإسلام والغرب: تنوع وتكامل"؛ حيث دعا الأزهرُ الشريف ممثلين عن ثقافات وأديان ومذاهب متنوعة حول العالم، ورجال فكر وسياسة وقانون، وممثلين عن حكومات أوروبية وآسيوية وإفريقية، للحوار وتبادل الحديث حول تعزيز العلاقات بين الأديان والأمم وربط الجسور وهدم الفجوات من أجل مستقبل أكثر سلمًا وأمنًا لعالمنا.
وكان من أبرز الحوارات التي عقدها الأزهرُ الشريف في إطار ملف حوار الأديان، هو ملف الأزهر والفاتيكان، حيث شهدت الفترةُ الأخيرة علاقة طيبة وغير مسبوقة بين مؤسسة الأزهر ومؤسسة الفاتيكان؛ نتجَ عنها ثلاث قمم ثنائية تحدَّث العالمُ أجمع عن أثرها الإيجابي في تحقيق السلم والأمن للعالم شرقًا وغربًا. وترتّب على هذه العلاقات تبادل الزيارات بين فضيلة الإمام الأكبر، شيخ الأزهر الشريف، والبابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، وكانت إحدى الزيارتيْن في روما، والثانية في القاهرة داخل الأزهر الشريف، ثم الثالثة وهو اللقاء الأبرز الذي شغل العالم أجمع، ولا يزال أثره ودوره يتردد صداه في الإعلام والجامعات والمحافل الدولية؛ لما له من دور إيجابي في تعزيز السلم والأمن، ونشر ثقافة الحوار بين الثقافات المختلفة؛ حيث شهد هذا اللقاء توقيعًا لوثيقة الأخوة الإنسانية التي تدعو جميع الشعوب من كافة الثقافات والأديان والمذاهب إلى تبنّي ثقافة الحوار وتعزيز العلاقات ونبذ العنف وبناء الجسور وسدّ الفجوات. علاوة على ذلك، قام فضيلةُ الإمام الأكبر بزيارات في إطار تعزيز الحوار، فسافر إلى بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من الدول غربًا وشرقًا للمشاركة في مؤتمرات وفعاليات تعزّز من قيمة الحوار مع الآخر.
وبالتوازي مع الجهود التي يبذلها الأزهر في هذا المضمار، اضطلعت مؤسسةُ الفاتيكان بدورها الإنساني والديني في سبيل تعزيزِ الحوار ودعمِ ربط الجسور بين الثقافات والأديان والأمم المختلفة، ولا سيما الحوار بين الفاتيكان والإسلام؛ من خلال المقابلات والمؤتمرات والزيارات التي يقوم بها البابا فرانسيس، وكان آخرها زيارته إلى دولة المغرب للتأكيد على القيم الإنسانية والدينية التي دعت إليها قمةُ أبو ظبي بين البابا فرانسيس وفضيلة الإمام الأكبر.
الجدير بالذكر أن ملف الحوار الديني داخل الفاتيكان يشغل حيزًا واسعًا لما له من أهمية شخصية عند البابا، ولما له من دور في إبراز الرسالة العالمية التي تقومُ بها مؤسسة الفاتيكان في العالم. ويهتم البابا فرانسيس على المستوى الشخصي بعدة قضايا، وعلى رأسها قضية اللاجئين في أوروبا، وأزمة صعود اليمين المتطرف المعادي للآخر، وغيرها من المشكلات التي يعي البابا بأنَّ حلَّها يكمنُ في الحوار وفتح أفق ومجال لمعرفة الآخر.
إن الذي يطالع الموقع الرسمي للفاتيكان مطالعةً سريعةً ليدرك المساحةَ التي يشغلها ملفُ الحوار الديني من خلال المؤتمرات التي يشاركُ فيها البابا فرانسيس حول العالم، أو التي يعقدها في مقر الفاتيكان، أو اهتمامه بمشاركة الآخر في أحزانه وأفراحه، أو سرعة الفاتيكان في تهنئة المسلمين في مناسباتهم الدينية وأعيادهم المختلفة على مدار السنوات الماضية، أو احتفاء الفاتيكان والعاملين فيه بوثيقة الأخوة الإنسانية التي وقَّع عليها البابا فرانسيس وفضيلةُ الإمام الأكبر في أبو ظبي.
كذلك لا تتوقف جهودُ البابا فرانسيس في ملف الحوار الديني والحوار بين الثقافات على حد عقد المؤتمرات، أو المشاركة فيها، أو زيارة الدول، واستقبال الوفود، بل تشغل هذه القضية مساحةً كبيرةً من خطابات ومواعظ البابا التي يلقيها على العالم أسبوعيًا. ويصلُ الأمرُ إلى حد تقديم النقد الصريح واللاذع لحكومات ودول وسياسيين في أمريكا وأوروبا بسبب تصرفاتهم غير المقبولة، وبسبب تعنّتهم مع اللاجئين، وبسبب مشاركتهم في إشعال نيران الكراهية والإسلاموفوبيا والعنف والكراهية ضد الآخر. وكثيرًا، ما ينتقدُ البابا فرانسيس تصرفاتِ الحكومات الداعية إلى بناء الحوائط والسدود مع جيرانها، قائلًا بأنَّ العالمَ يحتاجُ إلى جسور وليس إلى حوائط؛ فالعالم في حاجة إلى جسور بين الثقافات والأمم والأديان والمذاهب المتنوعة لمعرفة بعضنا البعض، أمّا الحوائط فما هي إلا سجونٌ لمدن، ولن تأتي إلا بمزيد من المشاكل والصراعات والفتن والاضطرابات.
وأخيرًا، لم يكن ملفَ الحوار الديني سواء بالنسبة للأزهر الشريف أو مؤسسة الفاتيكان سهلًا أو مذلّل العقبات كما يتصوّر البعض، بل كان هناك العديد من العقبات التي واجهت ولا تزال تواجه المؤسستيْن؛ لأنَّه لمّا كان ملفُ الحوار الديني مهمًا لمواجهة العنف والتطرف، استشاطَ المتطرفون والمتعصبون من كافة الأطراف لهذا السعي، ولمّا كان الحوارُ بين الأديان ضروريًا لمواجهة الشطط الإعلامي ودوره السلبي في زعزعة العلاقات بين الأمم، قاوم الإعلامُ السلبي صوتَ العقل والحكمة النابع من حراك الحوار الديني.
ولمّا كان بناءُ الجسور بين الأديان والمذاهب أمرًا مقلقًا للحكومات والأحزاب التي تدعو إلى بناء الحوائط والسدود مع الجيران وباقي الثقافات، استشاطت هذه الحكومات وتلك الأحزاب اليمينية من سعي شيخ الأزهر أو البابا فرانسيس لجهودهما في هدم وإزالة تلك الحوائط واستبدالها بالجسور؛ كذلك لما كان الحديثُ مع الآخر هو السبيل الأول لحل أزمةِ اللاجئين وحسن استقبالهم وتهيئة بيئة ومناخ صالح لهم في غربتهم، قام المتعصبون المنتسبون إلى حركات وأحزاب يمينية متطرفة بحملات تشنيعية ومقاومة لجهود كل من المؤسستيْن في هذا السبيل.
فكما أن الجماعات المتطرفة المحسوبة على الإسلام لا تكفّ عن دعواتِها لمقاومة الحوار مع الآخر، والدعوة لنبذه، والتعصب الأعمى ضدَّه، والهجوم على مؤسسة الأزهر الشريف بسبب رعايتها لهذا الملف، فإنَّه في المقابل لا تكفّ الجماعاتُ اليمينيةُ المتطرفةُ في العديد من مناطق العالم عن الهجوم على البابا فرانسيس بسبب سعيه في تعزيز العلاقات بين المسلمين والغرب، أو بين الأديان عمومًا، وكان آخرُها ما نشرته وكالة رويترز وغيرها من وكالات الإعلام العالمية عن قيام حوالي تسعة عشر رجلًا من رجال الدين المسيحي من بينهم أكاديمي لاهوتي بارز بإعلان هرطقةِ البابا فرانسيس وخروجه عن الكاثوليكية لعدة أسباب، منها توقيعه على وثيقة الأخوة الإنسانية مع فضيلة الإمام الأكبر، شيخ الأزهر الشريف. ولا تتوقف هذه التحديات على مستوى الجهل والتعصّب من قبل جماعات يمينية متطرفة من الجانبيْن، بل تتعدّاها إلى أحزاب سياسية كبيرة في أمريكا وأوروبا يزعجها ما يقوم به البابا فرانسيس في سبيل دعم العلاقات مع الآخر، وفتح أبواب أوروبا للاجئين والمهاجرين، وحسن استضافتهم، وبناء جسور مع الثقافات والمذاهب الأخرى.
وبعد؛ فإنَّ قضيةَ الحوار الديني من أهم الوسائل التي يمكنُ بها محاربةُ العديد من النزاعات والمشاكل التي يَغرقُ فيها عالمُنا المعاصر. فصعودَ الجماعاتِ المتطرفة في الشرق والغرب، وازدياد وتيرة معدلات مظاهر الإسلاموفوبيا، والعنفَ والكرهَ المتبادل بين المجتمعات، وذيوعَ الصور النمطية السلبية عن بعض الثقافات لدى ثقافات أخرى، ومعاناةِ اللاجئين، وحالةَ الفزع الأمني والفكري والاجتماعي، وعدمَ الاستقرار، وغيابَ الطمأنينة، وغيرَها من المشكلات الاجتماعية لا يمكن حلُّها إلّا بطريقة واحدة وهي الحوار والمسارعة في تشييد الجسور والروابط فيما بيننا، وإزالة الحوائط والسدودَ، وهدم الفجواتِ العميقة التي اتسعت بين شرقنا وغربنا. وأنَّه، إذْ يتنافسُ الأزهرُ الشريف ومؤسسةُ الفاتيكان في سبيل ردم هذه الهوة والقيام بهذا الدور على أفضل ما يكون، فإنَّه يتعيّنُ على الحكومات في الغرب والشرق ومعها المنظمات الدولية وعلى رأسهم الأمم المتحدة أنْ تبادرَ في مساندة المؤسستيْن بحيث تتسع دائرةُ الحوارِ لجميع الثقافات وجلِّ الأديان وكلِّ المذاهب، وأنْ ينتقلَ الحوارُ من مستوى النُخبِ إلى الشعوب، ومن المؤتمراتِ إلى الأسواق، ومن دائرةِ التنظيرِ إلى الحراكِ العملي والفعلي، فنرى بالفعل أديانَنا وإيمانَنا قيمًا ومبادئ مطبقة وفاعلةً في الأرض وليست مجرد نظريات وتصريحات.