قراءة تحليلية في كلمة البغدادي الأخيرة
الأحد 13/أكتوبر/2019 - 01:12 م
طباعة
حسام الحداد
مثّل التسجيل الصوتي المنسوب لزعيم تنظيم داعش الإرهابي "أبو بكر البغدادي"، والذي بثته "مؤسسة الفرقان"، إحدى الأذرع الإعلامية للتنظيم عبر تطبيق "تليجرام"، في السادس عشر من سبتمبر 2019م، والبالغ مدته 30:15 دقيقة، وجاء تحت عنوان "وقل اعملوا"، الرسالة الثالثة التي يقدمها البغدادي بنفسه، بعد رسالته الأولى في يوليو 2014م، والتي أعلن فيها قيام دولته المزعومة ونصَّب نفسه خليفة مزعومًا لها، من فوق منبر الجامع "النوري" الكبير في مدينة "الموصل"، معقل تنظيم "داعش" الإرهابي في "العراق" آنذاك. وكذلك بعد رسالته الثانية التي أتت بعد قرابة خمس سنوات من التخفي، خلال مقطع فيديو بثته "مؤسسة الفرقان" مدته 18:22 دقيقة، ومؤرخ بشهر شعبان 1440هـ، الموافق 29 أبريل 2019، والذي يحمل عنوان "في ضيافة أمير المؤمنين"، تحدث فيه عن خسائر التنظيم في "الباغوز" السورية، مُعلنًا انتهاء السيطرة المكانية للتنظيم، ومُعددًا الخسائر الفادحة له إعلاميًّا وميدانيًّا، ومُشجعًا أتباعه على أخذ الثأر، ومُهنئًا لهم على التفجيرات الإرهابية في "سيرلانكا".
ومما يلفت النظر في هذا التسجيل الصوتي الأخير هو اختيار التنظيم جملة: "وقل اعملوا" عنوانًا له. حيث تحمل هذه الجملة رسالة تهديدية مفادها أن التنظيم لم يرتدع من الخسائر التي تكبدها في الفترات السابقة، وقضت على قادته التاريخيين وتواجده المكاني. وفي الوقت ذاته يحمل هذا العنوان رسالة تشجيعية من التنظيم لأنصاره يحثهم على استمرار الهجمات الإرهابية حتى يستطيعوا استعادة دولتهم المزعومة.
وهذا الأمر يجب التنبه له جيدًا حيث يدل على أن التنظيم قد بدأ مرحلة تكوين جديدة، وهو لديه خبرة وإستراتيجية في العودة من جديد بعد الهزيمة والانكفاء على الذات، وقد حدث ذلك عدة مرات منذ أن كان التنظيم يحمل اسم "التوحيد والجهاد" بقيادة "أبو مصعب الزرقاوي" وحتى الآن. فعلى سبيل المثال تعرض التنظيم لهزيمة تكتيكية بين عامَي 2009م و2012م، أضعفته وجعلته ينكفأ على نفسه، وقُتل عدد من قادته التاريخين أمثال "أبو عمر البغدادي" و"أبو حمزة المهاجر"، فانسحب التنظيم لفترة، ثم تولى قيادته "أبو بكر البغدادي" الذي أعاد هيكلة "داعش" من جديد، وظهر التنظيم في عام 2013م، وبلغ أوج قوته في عامي 2014م، و2015م بعد السيطرة على أجزاء كبيرة من سوريا والعراق، ثم بدأت مرحلة انهيار جديدة مع سقوط مدينة "الفلوجة" العراقية في عام 2016م، ثم بلغ هذا السقوط ذروته بتحرير "الموصل" و"الرقة" عام 2017م، ثم انتهت السيطرة المكانية تمامًا مع سقوط "الباغوز" في 2019م. وها هو الآن البغدادي ينادي مقاتليه مستخدمًا عنوانًا محفزًا وهو "وقل اعملوا".
ومما يلفت النظر أيضًا في هذا التسجيل الصوتي الجديد قِصر المدة الزمنية بين هذا المقطع الصوتي وبين المقطع المرئي "فيديو" في أبريل الماضي، والتي لا تزيد عن 5 أشهر فقط، في حين كانت المدة الزمنية الفاصلة بين الظهور الأول للبغدادي عام 2014م على منبر مسجد "النوري الكبير" وبين فيديو أبريل 2019 حوالي 5 سنوات؛ الأمر الذي يطرح تساؤلًا مهمًّا وهو هل غيَّر تنظيم "داعش" الإرهابي إستراتيجيته الإعلامية، خصوصًا فيما يتعلق بظهور "البغدادي" إعلاميًّا، بل وتصدره المشهد الإعلامي للتنظيم؟ حيث كانت سياسة التنظيم في السابق قائمة على عدم تصدر زعيمه المشهد الإعلامي، وذلك لدواعٍ أمنية، نصحه بها المقربون منه، استفادة مما حدث مع قادة طالبان والقاعدة في "أفغانستان" و"العراق"؛ حيث إن الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر قامت بتصفية الكثير من قادة تنظيم القاعدة وقادة حركة طالبان، عن طريق هجمات مكثفة وموجهة بطائرات بدون طيار.
ولقد استمرت هذه السياسة في عصر "أوباما" ضمن إستراتيجيته في حرب داعش، ونجحت هذه الإستراتيجية في القضاء على كثير من قادة التنظيم. ومن بين القادة التاريخيين الذين فقدهم تنظيم داعش الإرهابي في غارات جوية للطيران الأمريكي بعد رصد أماكنهم واستهدافهم "أبو محمد العدناني" الذي وُصِفَ بأنه العقل الإستراتيجي للتنظيم والذي كان مسئولًا عن العمليات الخارجية والأنشطة الإعلامية، كذلك "عمر الشيشاني" وزير دفاع التنظيم، والذي كان سببًا في انضمام الكثير من المقاتلين الأجانب من دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى التنظيم، كذلك أيضًا "أبو مسلم التركماني" مساعد البغدادي في العراق، و"أبو علاء الأنباري" مساعد "البغدادي" في "سوريا"، وغيرهم.
أيضًا كان من بين أسباب عدم ظهور "البغدادي" إعلاميًّا هو حرص التنظيم على إبراز فكره المتطرف أكثر من إبراز الفرد حتى وإن كان زعيم التنظيم، وبهذا فإن "داعش" يكون قد استفاد من تجربة تنظيم القاعدة الذي كان تنظيم الرجل الواحد وهو "أسامة بن لادن"، والذي كان يتصدر المشهد الإعلامي دائمًا، وكان يمثل شخصية معنوية لدى أفراد تنظيمه، الأمر الذي أدى إلى فقدان التنظيم جزء كبير من قوته بعد مقتله. لذلك فإن ظهور "البغدادي" حاليًا يدل على أن تنظيم "داعش" قد خطا خطوة قوية على نهج تنظيم القاعدة، وربما يكون تكرار الظهور علامة على قرب نهاية "البغدادي"، خصوصًا وأن الولايات المتحدة تتعقبه، وهناك آراء تفيد بأنها قد دمرت 15 موقعًا من إجمالي 17 موقعًا يُعتقد أن "البغدادي" يختبئ في أحدهم. ومن هنا يمكننا القول: إن الفترة الأخيرة منذ فيديو أبريل الماضي وحتى الآن تصدر "البغدادي" المشهد الإعلامي سواء بحديثه، أو بالحديث عنه في المقاطع المرئية الأخرى، الأمر الذي يدل على أن "البغدادي" أصبح شخصية معنوية لتنظيمه، وأصبح من المتوقع أن يكون مقتله ضربه قوية قد تقضي على التنظيم أو على الأقل تجعله مثل القاعدة بعد "أسامة بن لادن".
وربما يكون "البغدادي" ظهر في هذا التسجيل الصوتي الأخير مُجبرًا ومضطرًا للحديث، خصوصًا وأن التنظيم قد فقد تقريبًا جميع قادته المؤسسين ممن كانوا يجيدون الإلقاء والتأثير، ولم يعد لديه من هؤلاء إلا البغدادي. وقد ظهر الضعف العلمي بوضوح، وركاكة الأسلوب الخطابي في بعض المقاطع الصادرة عن التنظيم في الفترة الأخيرة، والتي كانت عناصر التنظيم تؤكد فيها بيعتهم لـ "البغدادي".
أما الرسائل التي أراد البغدادي إرسالها من خلال هذا التسجيل فيأتي على رأسها أنه لا يزال على قيد الحياة، يلقي خطابات، ويمارس مهامه بعد ما أشيع في الفترة الأخيرة من أخبار تؤكد مرضه الشديد، وعدم قدرته على العمل، وإسناد مهامه لصديقه "عبد الله قاراداش" العراقي من أصول تركمانية.
الرسالة الأخرى التي أراد "البغدادي" إيصالها من خلال مقطعه هو خداع مقاتلي التنظيم وبث الطمأنينة والثبات كذبًا وزورًا في نفوسهم، من خلال التأكيد على أنّ "النصر والتمكين في الأرض" قدر لهم، وأنّ ما شهده التنظيم في الفترة الماضية من تراجع وفقدان للأراضي ما هو إلا امتحان واختبار، وأنّ القتل أو الموت أمرٌ حتمي للبشر حينما يبلغ الإنسان أجله. كما تطرق "البغدادي" في خطابه إلى المرأة ورفعها إلى مصاف الصحابيات الجليلات اللاتي كن يُجاهدن جنبًا إلى جنب مع الصحابة، مشيرًا بذلك إلى ضرورة حمل النساء للسلاح وانخراطهن في المعارك التي يشنها التنظيم.
وهذا الأسلوب الذي اعتمد عليه "البغدادي" يُمثل الخطاب الإعلامي الداعشي في مراحل الهزيمة والانكسار، حيث يعتمد التنظيم في هذه المراحل على خطاب إعلامي وإفتائي قائم على الصبر والتذكير بالموت والابتلاءات، وضرورة أن تساند المرأة الرجل في ميدان المعركة، بخلاف خطابه في مراحل القوة والذي يكون قائم على الثقة والدعم للمقاتلين، وتفريغ المرأة للعمل المنزلي، وتربية الأطفال (الأشبال) وتوفير مناخ مناسب لزوجها المقاتل، وترويج الأفكار الداعشية المسمومة عبر وسائل التواصل، وتجنيد نساء جدد.
والمتأمل في هذا التسجيل أيضًا يجد أنّ "البغدادي" دعا ذئابه ومقاتليه لتوحيد الصفوف والانتفاضة والعودة إلى إستراتيجية البدء: وهي إستراتيجية "كسر الجدران" التي انتهجها التنظيم في عام 2012م، وشنّ من خلالها هجمات على العديد من السجون. وها هو الآن يأمر مقاتليه بكسر جدران المخيمات والسجون لتحرير مناصريه وأُسرهم. كما يأمرهم بالعمل على تقوية صفوف التنظيم استعدادًا لعودته من جديد. وهذا يدلُ على ضعف التنظيم وإفلاسه، واللامركزية التي أصبحت متوغلة فيه، لدرجة أنه لا توجد آلية لديه لنقل الأوامر والتعليمات لقواعده إلا عن طريق تسجيل أو فيديو، في حين كان التنظيم قبل هزيمته يفاجئ العالم بين الحين والآخر بعمليات إرهابية قوية لم يعرف أحد بوقوعها إلا بعد حدوثها. كما يدل على ضعف التنظيم أيضًا تعويله كثيرًا على الذئاب المنفردة الذين لا ينتمون إليه تنظيميًّا، وينتظر منهم فقط القيام بعمليات تُحدث صدى إعلاميًّا، وينسبها التنظيم إليه كما حدث قبل ذلك في حوادث الدهس والطعن التي وقعت في في أماكن مختلفة.
ومما يلفت النظر في كلمة البغدادي كثرة الاستشهادات بالنصوص الدينية، والتي يفسرها وفقًا لمفاهيمهم المغلوطة، وسوف يتم تفنيد هذه الاستشهادات بردود شرعية في مقال آخر إن شاء الله.