الازهر ومواجهة الدعاية السوداء للجماعات المتطرفة
الإثنين 30/ديسمبر/2019 - 12:46 م
طباعة
حسام الحداد
الجماعات المتطرفة على مستوى العالم احترفت استخدام التكنولوجيا الرقمية وسخرتها في خدمة مصالحها وتغييب وعي الشباب والسيطرة على عقولهم وتحويل مساراتهم إلى العنف المسلح، وقد أدركنا جميعا في الآونة الأخيرة مدى انتشار الجماعات الإرهابية والمتطرفة في الفضاء الإلكتروني، وخصوصًا تنظيم داعش الإرهابي الذي تفوَّق على غيره من التنظيمات الإرهابية في استخدام الإعلام غير التقليدي، جاعلًا منه سلاحه الأقوى والأكثر تأثيرًا. وقد استطاع هذا التنظيم الحضور بقوة عبر مواقع الشبكة العنكبوتية، ونشر عليها الكثيرَ من المقاطع المرئية والمسموعة، والعديدَ من المجلات الرقمية باللغات المختلفة ساعيًا من وراء ذلك إلى نشر أيدولوجيته المتطرفة، ووحشيته الهمجية، واستقطاب الشباب من مختلف الدول، ومجابهة الأفكار التي تُعارض فكره.
وقد لفت تنظيم داعش الإرهابي الأنظارَ إليه باستراتيجيته الإعلامية المعقدة. حيث استغل هذا التنظيم حالة عدم الاستقرار في سوريا والعراق واستولى على مساحاتٍ شاسعة من الأراضي هناك وأحكم سيطرته عليها. وأخذ يُروِّج لنفسه ووصل عن طريق قنواته الإعلامية إلى النشطاء على مواقع التواصل في العالم كله.
في الحقيقة لم يكن داعش أول تنظيم إرهابي يستفيد من "الميديا" في الترويج والدعاية لنفسه، لكنه استطاع أن يُسخِّر الإمكانات التي أحدثتها الثورة الرقمية لتحقيق أهدافه بصورةٍ لم يستطع غيره من التنظيمات الوصول إليها؛ فقد استفاد التنظيم بأفضل صورة من الإمكانيات التى جلبها عالم الميديا الرقمية، وفهم عن قرب لغة هذا العالم الرقمي واستراتيجياته وجعلها جزءًا أساسيًا من كيانه الإعلامي، وفي هذا السياق يتناول تقرير وحدة رصد اللغة التركية بمرصد الأزهر للجماعات المتطرفة العناصر الأساسية للاستراتيجية الإعلامية لتنظيم داعش الإرهابي، وهي على النحو الآتي:
أولًا: استخدام وسائل الإعلام الرقمي سلاحًا مهمًا في إستراتيجية التنظيم
استطاع تنظيم داعش الإرهابي أن يستخدم وسائل الإعلام غير التقليدية سلاحًا مهمًا بل ربما الأهم في إستراتيجيته التوسعية. بل أجمع معظم الخبراء المتخصصين في الجماعات المتطرفة على أن المساحات الشاسعة والسيطرة المكانية للتنظيم كان الفضلُ فيها لما كان يروجه التنظيم عن نفسه في الفضاء الإلكتروني من عمليات وحشية ودموية لا يتصورها عقل، وكذلك من معلوماتٍ تُفيد أن عناصر هذا التنظيم لا يرحمون أحدًا، بل يقتلون الجميع نساءً وأطفالًا وشيوخًا وشبابًا. وهذا كله كان سببًا رئيسًا في سيطرتهم على مدينة "الموصل" التاريخية ثاني أكبر المدن العراقية، والتي فرَّت عناصر الجيش العراقي منها خوفًا من هذا التنظيم وما كان يروجه من وحشية في الفضاء الإلكتروني. وبهذا يكون التنظيم قد نجح في استخدام وحشيته، وروج لها عن طريق التصوير والنشر، الأمر الذي سهّل عليه التوسع على الأرض.
ثانيًا: تحقيق تفوق إعلامي يوازي التفوق العسكري أو يزيد عليه
نجح التنظيمُ في ذلك، وكانت آلته الإعلامية أقوى وأكثر تأثيرًا من آلته العسكرية. آلته العسكرية لم تستطع الصمود أمام الضربات الجوية لقوات التحالف، والضربات التي تلقتها في الموصل على يد الجيش العراقي، والضربات التي تلقتها في "الرقة" على يد قوات سوريا الديمقراطية. لكن استطاعت آلته الإعلامية نقل المعركة من الشرق إلى الغرب، فـ "أبو محمد العدناني" المتحدث باسم التنظيم -الذي قُتل في أغسطس 2016- شجَّع في عام 2014 محبي التنظيم على القيام بعمليات "ذئاب منفردة" في بلادهم دون أخذ إذن أو موافقة من التنظيم، مؤكدًا لهم أن تنظيمه سيعترف ويتبنى أيَّ هجومٍ يقوم به أيُّ شخصٍ في العالم. ولقد كان هذا النداء من "العدناني" بمثابة آلية جديدة للتحريض على الإرهاب ونشره.
لقد وصلت هذه الدعاية السوداء إلى كتلة جماهيرية واسعة في العالم عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي. والشرط الوحيد الذي اشترطه "العدناني" من أجل تبني التنظيم للعمليات التي يقوم بها المحبون للتنظيم وفقًا للصحفي (Rukmini Callimachi) المتخصص في شئون جماعتي "داعش، والقاعدة" في جريدة "نيويورك تايمز" هو أن يعلن الشخص عن ارتباطه بالتنظيم للرأي العام في بلاده. ولذلك نجد الشاب الأميركي من أصول أفغانية "عمر متين" صاحب التسعة والعشرين عامًا، مرتكب حادث "أورلاندو" في "فلوريدا" الأمريكية في يونيه 2016 قد أعلن ولاءه لداعش قبل تنفيذه العملية بدقائق معدودة، حيث اتصل برقم الطوارئ وأعلن ولاءه للتنظيم، ثم قام بالهجوم على الملهى الليلي، الذي راح ضحيته أكثر من 100 قتيل وجريح.
ثالثًا: تحقيق المقاييس العالمية في جودة الشكل والمحتوى الإعلامي.
هذه النقطة يعرفها كل من اطلع على مُخرجات تنظيم داعش المرئية والمسموعة والمقروءة، فمجلاته الأجنبية على سبيل المثال ذات جودة عالية من حيث الإخراج والصور واللغة المستخدمة، كما أن لكل مجلة منها رمزية معينة، ورسالة خاصة يدركها القارئ بمجرد أن تقع عينه على عنوانها، بل ربما يستطيع معرفة الأهداف الإستراتيجية البعيدة للتنظيم بمجرد رؤية العنوان أو سماعه. ولذلك يمكننا صياغة تعريف شامل لمجلات تنظيم داعش الإرهابي بأنها نصوص إعلامية، كل نص منها يخدم هدفًا معينًا من أهداف التنظيم.
رابعًا: التأثير في وسائل الإعلام التقليدية من قنوات تلفزيونية وصحف ومجلات
نجح التنظيم في بداياته في هذا الأمر، وخدع الكثيرَ من وسائل الإعلام العالمية، وجعلها تروج أخباره، وتُضخم من قوته دون أن تدري، بل وتردد شعاراته، وتنقلها للجمهور، فكانت بعض القنوات تطلق على التنظيم الاسم الذي يحبه، ويريد ترويجه، وهو الاسم الذي تُذكر فيه كلمة "الإسلام". كما كان التنظيم يتبع خلال عامي 2014 - 2015 سياسة الإغراق الإعلامي، وينشر على منصاته الكثير من المواد في يوم واحد، فتنقلها بعض القنوات والصحف دون أن تسعى إلى التحليل أو إعطاء فرصة للخبراء ليحللوا المادة الإعلامية للتنظيم، ويروا إن كانت صادقة أم الهدف منها الترويج فقط؛ لذلك نستطيعُ القولَ بأن الفرق بين المكافحة والترويج شعرة يجب الانتباه جيدًا لها.
خامسًا: تفريغ القيم الدينية من مضامين الرحمة والتعايش وتقبل الآخر وغيرها من القيم الإنسانية، وإضفاء العنف عليها:
وهذا واضح تمام الوضوح في الخطاب الإعلامي والخطاب الإفتائي الداعشي، الذي لا يتقبل الآخر، ولا يحترم إنسانيته، ولا يعرف التعايش معه، بل ويستحل ظلمه وقتله وسرقة ماله، بل وسرقة أعضائه إن احتاج التنظيم إليها، بحجة أن العضو البشري المسروق من شخص يصفونه بالكفرِ سيُعطَى لإنسان آخر مُجاهد على حدِّ تعبيرهم.
وقد أدركت مؤسسة الأزهر خطورة انتشار الجماعات المتطرفة عبر مواقع الإنترنت؛ لذلك قامت باتخاذ مجموعة من الإجراءات التي من شأنها عدم ترك الفضاء الإليكتروني ساحة فارغة أمام هؤلاء المتطرفين يعبثون به كيف يشاءون. من أهم هذه الإجراءات إنشاء "بوابة الأزهر الإلكترونية" التي بها صفحات لجميع هيئات الأزهر الشريف، لا سيما الهيئات ذات الطابع الثقافي والتنويري مثل "صحيفة صوت الأزهر"، و"مجلة الأزهر"، و"مرصد الأزهر" بصفحاته العربية والأجنبية، و"مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية"، و"مركز الأزهر للترجمة"، و"مجمع البحوث الإسلامية"... كل هذه الصفحات مليئة بالإنتاج العلمي الوسطي لعلماء الأزهر وباحثيه.
أيضًا تواجد الأزهر بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي ولم يتركها للمتطرفين، وأصبحت لكل هيئة أزهرية صفحة على "فيس بوك"، بل إن "مرصد الأزهر" وحده له صفحة باللغة العربية، و12 صفحة باللغات الأجنبية، ومثلهم على موقع "تويتر"، هذا بخلاف مقاطعه المرئية العربية والأجنبية على "يوتيوب".
وإذ يوضح مرصد الأزهر هذه الجهود المبذولة فإنه يدعو المثقفين والعلماء وأهل الفن والرياضة والثقافة إلى تبني رواية بديلة ومضادة للروايات المتطرفة عن طريق استخدام مواقع التواصل والمنصات المختلفة حتى نستأصل الإرهاب من جذوره وينعم العالم بالأمن والأمان.