غضب شعبي في تركيا.. أردوغان يسقط في المستنقع السوري
حالة من الغضب الشعبي تتصاعد في تركيا ومطالب بخروج الجيش التركي من المستنقع السوري، بعد سقوط العشرات من الجنود في إدلب، حيث لم يحدث في تاريخ تركيا من قبل أن يتم إهانة قواتها المسلحة وجيشها بهذا الشكل
الذي حدث ليلة الخميس. أسفر الهجوم الذي شنه الجيش السوري عن سقوط ما لا يقل عن 33
من أفراد القوات المسلحة التركية برتب ودرجات مختلفة؛ ليكون بذلك قد ارتفع إجمالي عدد
العسكريين الأتراك الذين سقطوا في سوريا خلال الشهر الأخير فقط إلى 52 قتيلا. أما
الجانب التركي فيزعم في كل تصريحاته وبياناته أنه أسقط 1079 من جنود قوات الجيش السوري
على مدار أحداث هذا الشهر، بما في ذلك اشتباكات ليلة الخميس.
بالرغم من محاولات حكومة حزب العدالة والتنمية التستر على فضاحة الموقف إلا
أن الأخبار بدأت تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي؛ الأمر الذي دفع الحكومة التركية
لحجب منصات مواقع التواصل الاجتماعي، وتبطئ سرعة الإنترنت في البلاد للحيلولة دون انتشار
الأخبار.
بعدها تم الإعلان أن الحكومة التركية أصدرت تعليماتها وأوامرها لقوات خفر السواحل
بفتح الحدود مع الاتحاد الأوروبي وعدم منع انتقال اللاجئين السوريين إلى الأراضي الأوروبية
ودول الاتحاد الأوروبي سواء برًا أو جوًا أو بحرًا. بالتزامن مع ذلك التطور السريع،
أجرى وزير الخارجية التركي مولود جاويش اتصالًا هاتفًا مع الأمين العام لحلف الناتو
جينس ستولتينبيرج، كما أجرى الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية التركية إبراهيم كالين
اتصالًا هاتفيًا مع سفير مستشار الأمن القومي الأمريكي روبيرت أوبرين، وتناولا خلال
اللقاءات الهاتفية التطورات الأخيرة. إلا أن استنجاد أردوغان وحكومته بالغرب لمواجهة
روسيا وكلب الدعم منهم، والتلويح بورقة اللاجئين مرة أخرى لتهديد الغرب وأوروبا، لا
تفسير له إلا أن حكومة حزب العدالة والتنمية وأردوغان فقدوا السيطرة على الأوضاع.
أما الجانب الأمريكي والأوروبي فقد أرسلا رسالة واضحة إلى أردوغان، قائلين:
"إن تركيا سترى أننا حلفائها في الماضي والمستقبل". على الجانب الآخر أعلنت
روسيا أنها لا تعلم شيئا عن الهجوم الذي تعرضت له القوات التركية، مؤكدة أنها مستعدة
لتطبيق وقف إطلاف النار في سوريا. إلا أن التصريحات الروسية، لا أحد يعرف حتى الآن
كيف سيكون تأثيرها وانعكاسها على الجيش التركي الذي تلقى ضربة موجعة وكسرت فيه عزته
وافتخاره بقدراته.
أما أردوغان الذي أمهل قوات الجيش السوري حتى نهاية شهر فبراير الجاري
للخروج من منطقة عدم الاشتباك في إدلب، فإنه إن وافق على دعوات وقف إطلاق النار فستكون
مصداقيته الدبلوماسية قد انهارت.
هبت الرياح في الأشهر الأخيرة بما لا تشتهيه سفن تركيا، وشهدت تقدمًا سريعًا
لقوات الجيش العربي السوري في إدلب اعتبارًا من شهر ديسمبر الماضي، وسط
اشتباكات عنيفة دامية، وتمكنت قوات النظام من السيطرة على مناطق استراتيجية وحيوية
بالقرب من إدلب، من بينها معرت النعمان وسراقب.
أما تركيا فتقف مكتوفة الأيدي أمام تقدم قوات النظام، وبدأت في إرسال تعزيزات
عسكرية ضخمة إلى المنطقة في محاولة منها للوقوف أمام قوات النظام السوري والقوات الروسية.
في السياق ذاته يرى المحللون والخبراء العسكريون أن عدد الجنود الأتراك المرسلين
إلى إدلب حتى الآن تجاوز عشرة آلاف من رتب ودرجات عسكرية مختلفة، بينما تجاوز عدد المدرعات
والمركبات العسكرية أكثر من ألفين مدرعة ومركبة عسكرية.
كما يرون أن إرسال المعدات العسكرية والجنود إلى إدلب، وتعريضهم للقصف الجوي
دون أي غطاء جوي، هي وضع الجنود على طاولة طعام في وجبة عشاء ساخنة أمام الهجمات الروسية
السورية.
فتركيا لم تتمكن من الحصول على ما تريده من تنازلات روسية على الساحة الدبلوماسية؛
فروسيا لم تقدم أي تنازلات أرادتها تركيا، خلال المفاوضات والمحادثات التي أجريت بين
البلدين سواء في موسكو أو في أنقرة.
أنقرة طلبت من موسكو الوقف العاجل للاشتباكات، وفتح المجال الجوي أمام المقاتلات
التركية في الشمال السوري. أما موسكو فترى أن تقديم الدعم للتنظيمات المسلحة والعناصر
الإرهابية الموالية لتنظيم القاعدة من خلال التعزيزات التي ترسلها إلى المنطقة، معلنة
انزعاجها من السياسات التي تتبعها تركيا تجاه سوريا.
أردوغان، وكأنه في عالم آخر، يزعم أن الأوضاع في ليبيا وكذلك في إدلب السورية
انقلبت لصالح تركيا، مكررًا إعلانه منح النظام السوري مهلة للانسحاب من المناطق التي
سيطر عليها خلال الشهرين الأخيرين.
عند العودة بالأحداث للوراء، نجد أن أردوغان بعد محاولة الانقلاب المسرحي الذي
حدث في 15 يوليو 2016، اتجه إلى تعزيز التعاون الاستراتيجي مع روسيا، وبدأ الوقوف
في صف روسيا لمواجهة الدول الغربية.
الغريب أن أردوغان كان قد تحول إلى عدو للرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال عام
2015، على خلفية إسقاط قوات الدفاع الجوي التركية طائرة حربية روسية على الحدود مع
سوريا، ولكنه بعد ذلك تحول إلى صديق لبوتين، حتى إنه أثار الجدل عندما ظهر أمام الكاميرات
يلعق الآيس كريم مع بوتين. تلك الصداقة غير المفهومة بين أردوغان وبوتين يقال في بعض
الأحيان إنها مبالغة من أجل إغضاب الدول الغربية.
الحقيقة أن أيًّا من الرئيسين لم يثق في بعضهما البعض في أي وقت. ولكن أردوغان
يعتبر مهما بالنسبة لبوتين؛ وذلك لأنه بدون دعم تركيا لما كان من السهل على روسيا الدخول
إلى سوريا بهذا الشكل وأن تصبح لاعبًا رئيسًا في منطقة الشرق الأوسط المشتعلة.
أما بوتين فيعتبر أكثر أهمية بالنسبة لأردوغان؛ لأن كلايهما كانا يعقدان لقاءات
واجتماعات أسبوعية تقريبًا بعد محاولة انقلاب 15 يوليو 2016، فوصول العلاقات
الدبلوماسية إلى هذا المستوى تحمل معاني أخرى. فالبلدان تقربا إلى بعضهما البعض أكثر
مع إجراء تغييرات في المناصب السياسية والجهات الأمنية، وعلى رأسها القوات المسلحة.
ووصل هذا التقارب إلى حد شراء تركيا منظومة الدفاع الجوي الصاروخيةS-400 الروسية، التي لا تتوافق
مع سياسات وأنظمة دفاع حلف الناتو.
أردوغان أسس استراتيجيته الظاهرة على علاقات قوية مع كل من الرئيس الأمريكي
دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. في بعض الأوقات لجأ إلى استخدام كليهما،
وفي بعض الأوقات كان يلجأ إلى التقرب من أحدهما، ونجح في تحقيق نجاحات ضئيلة في سوريا
من خلال هذه الاستراتيجية، ولكنه يروج أن هذه النجاحات الضئيلة هي "نجاح مكتسب
أمام الدول الكبرى".
الواقع أن سياسات أردوغان ليست إلا سياسات مؤقتة لإنقاذ وضعه أو للخروج من مأزق
ما، ولكنه لم ينجح في تحقيق حلول قاطعة ونهائية في أي من الملفين السوري والليبي، وإنما
على العكس تصاعدت الأزمات وتفاقمت دائمًا.
بالنسبة للأزمة السورية، نظم أردوغان ثلاثة عمليات عسكرية كبيرة على سوريا،
ونجح بذلك في ضمان السيطرة على مقعده بالنسبة للسياسة الداخلية، بل وصل به الاعتقاد
إلى أن الصداقة التي أقامها مع بوتين ستمكنه من حل الأزمة المتفاقمة في إدلب. ولكن
رغم تدفق ما يقرب من مليون لاجئ سوري إلى الحدود التركية، إلا أن صداقته مع بوتين لم
تجدِ نفعا، فلجأ إلى تقديم جنوده للموت في سوريا.
وصل الأمر إلى سقوط 19 عسكريًا تركيًا في أربعة هجمات شنها النظام السوري، قبل
ليلة الخميس.
مع تفاقم الوضع بهذا الشكل، ومع بقاء يوم واحد فقط على المهلة التي منحها أردوغان
للنظام السوري للانسحاب حتى نهاية شهر فبراير، لا أحد يعرف ما هي الخطوة القادمة
التي قد يلجأ لها أردوغان خلال الفترة المقبلة.
لا شك أن أردوغان قد يفكر في الحرب أمام روسيا، طالما ظل عرشه في خطر. والواقع
أنه لا يملك أي استراتيجية للخروج من إدلب التي تحولت إلى فيتنام بالنسبة لتركيا.