ليبيا.. تواصل الاشتباكات المسلحة والموقف التركي
لا شك ان التمدد التركي باتجاه ليبيا تمت معارضته بشكل قوي على المستويين الدولي والإقليمي، وكانت أنقرة خلاله حريصة على عدم تورطها في صراع عسكري مباشر مع معارضيها. وبدت التصريحات الرسمية التركية كأنها تتلمس طريقاً للعودة بعد تورطها في عقد اتفاقات رسمية مع حكومة طرابلس المحاصرة، لاسيما أن أحدها زاد من عدد أعدائها بسبب ارتباطه بالحدود المائية في البحر المتوسط ومنابع الطاقة والغاز.
وأثناء توجه تركيا إلى إيجاد موضع قدم في ليبيا سعياً لتعزيز نفوذها في المنطقة، كانت أوساط ليبية ودولية تتحدث عن تحركها بضوء أخضر من واشنطن، التي لم تخف قلقها من التوغل الروسي في ليبيا، وتحديداً إلى جانب قوات الجيش الوطني، الطرف الأقوى في المعادلة الليبية والمسيطر على غالبية المواقع الاستراتيجية المهمة في البلد الغني بالنفط. لكن الصحافي الليبي سالم عرفة، يرى أن الحسابات التركية في ليبيا "كانت ناقصة، فلم تهتم بشكل كبير بوحدة الصف في طرابلس ولم تولي للعلاقة الهشة بين الحكومة التي تحالفت معها وبين المجاميع المسلحة أهمية كبيرة، على الرغم من أن الحكومة كانت إلى وقت قريب في مواجهات معها".
ومؤخرا تحولت الهدنة العسكرية في ليبيا إلى حبر على ورق، بعدما تواصلت الاشتباكات المسلحة جنوب العاصمة طرابلس في وتيرة متصاعدة بشكل ملحوظ، فاتحة الباب للعديد من الأسئلة بشأن مصير ما أتفق بشأنه في مؤتمري موسكو وبرلين.
وتركز التصعيد يوم الجمعة وقبله الخميس الماضيين، في تكثيف قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر قصفها على مطار معيتيقة، الذي تقول إنه "بات قاعدة لاستجلاب المرتزقة والأسلحة إلى ليبيا لدعم قوات حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج".
وكان القصف، الذي شنه الجيش الجمعة 28 فبراير 2020، هو الأعنف على المطار منذ بداية العملية العسكرية على طرابلس في أبريل 2019، إذ قال وكيل وزارة المواصلات بحكومة الوفاق هشام بوشكيوات في تصريح تلفزيوني إن "مطار معيتيقة ومحيطه قصفا بأكثر من 50 قذيفة الجمعة".
وأضاف بوشكيوات أن "حركة الرحلات في مطار معيتيقة لم تعد بشكل كلي بعد"، موضحاً أنهم "سيّروا رحلات لإعادة العالقين في الخارج".
جاء ذلك عقب تعليق حركة الملاحة الجوية بعد اندلاع حرائق في أجزاء من المطار، جراء سقوط قذائف بشكل مكثف، ما أدى إلى تحويل الرحلات إلى مطار مصراتة.
وقال الناطق باسم عملية "بركان الغضب" عبد المالك المدني من جهته، إن قوات "الوفاق" ردت على القصف "وعاقبت الغزاة على قصف الآمنين باستهداف أكثر من 11 نقطة عسكرية مهمة لقوات الجيش"، مدعياً أن "مستشفى ترهونة ملئ بالقتلى والجرحى من الجيش".
وحمّل الصحافي الليبي بدر الرابحي حكومة الوفاق مسؤولية القصف الذي يتعرض له مطار معيتيقة بشكل يومي، متسائلاً "لماذا الإصرار على استخدام قاعدة معيتيقة لأغراض عسكرية وتعريض المواطنين للخطر؟".
ويهدف الجيش الليبي من تركيز قصفه على مطار معيتيقة إلى منع تدفق المقاتلين الأجانب، الذي لم يعد خافياً أنه يتم عبر هذا المطار الوحيد العامل في العاصمة، بعد توقف المطار الرئيس في المدينة وهو مطار طرابلس الدولي عن العمل منذ سنوات، بعد تدميره في حرب فجر ليبيا التي نشبت في إطار صراع بين ميليشيات متناحرة بالعاصمة عام 2013.
وكان الرئيس التركي رجب أردوغان، قد اعترف في الأسبوع الماضي بإرسال المسلحين السوريين إلى ليبيا.
وحذر الناطق الرسمي باسم الجيش الليبي اللواء أحمد المسماري قبل أيام من "تحول مطار معيتيقة إلى قاعدة عسكرية مسيطر عليها بالكامل من قبل تركيا"، وذلك بعد تشكيل غرف عمليات عسكرية متنوعة الأغراض، يديرها ضباط أتراك تتقدمها غرفة عمليات لتوجيه الطائرات الحربية المسيرة.
كما أشار المسماري في تصريح منفصل قبل يومين إلى "رصد 4800 من المقاتلين الذين نقلتهم تركيا إلى طرابلس"، مؤكداً أن "هذا العدد في تزايد مستمر"، محذراً من أن "سقوط ليبيا في يد أردوغان وتركيا يهدّد أمن المنطقة والمجتمع الدولي".
تغيير نوع الهجوم
وحول السبب في تغير نوع الهجمات التي تشنها قوات الجيش الليبي على مطار معيتيقة من الهجمات الجوية إلى القصف المدفعي الموجه، كما بات ملحوظاً في الأيام الماضية، يفسر الصحافي الليبي معتز الفيتوري هذا التغيير قائلاً لـ "اندبندنت عربية"، إن ذلك "يرجع إلى المعلومات الاستخباراتية المدعمة بصور شاهدها الجميع في ليبيا لمنظومات دفاع جوي متطورة، قامت تركيا بتركيبها في مطار معيتيقة".
وأضاف الفيتوري "بات التحليق فوق معيتيقة خطراً على طائرات الجيش بعد تركيب هذه المنظومات، فلجأ إلى تكتيك جديد يعتمد على القصف المدفعي الموجه، الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى تدمير البنية التحتية التي أنشأها الجيش التركي لإدارة عملياته العسكرية ضد الجيش".
ويهدف القصف، وفق تصريحات لقادة الجيش الليبي، إلى إيقاف استخدام المطار منصة لإطلاق الطائرات المسيرة التركية، لضرب أهداف تابعة لقوات الجيش في محيط طرابلس.
وأكد آمر غرفة عمليات المنطقة الغربية اللواء المبروك الغزوي، أن "وحدات القوات المسلحة العربية الليبية تمكنت من إسقاط ست طائرات تركية مسيرة في طرابلس في يوم واحد"، بينما ذكرت مصادر ليبية صحافية متطابقة، أن الطائرات التي تم إسقاطها هي أربع.
ويرجح الباحث والأكاديمي الليبي جمال الشطشاط " أن تقل هجمات الطائرات المسيرة في سماء العاصمة في الأيام المقبلة، قائلاً "من الواضح أن الجيش حصل على مضادات أرضية جديدة ومتخصصة في استهداف هذا النوع من الطائرات، والدليل عدد الطائرات التي أسقطت في يومين فقط، حتى أن المسألة تحولت إلى طرفة يتندر بها الليبيون على مواقع التواصل".
وأضاف "هذه الطائرات شكلت أرقاً للجيش في الأشهر الماضية وإخراجها من المعارك نقطة جديدة تحسب لصالحه".
خلافات الوفاق
وفي ظل هذا القصف تعيش العاصمة طرابلس على وقع خلافات كبيرة وصلت إلى عمق الحكومة، خصوصاً أن الحديث يدور عن خلافات عميقة بين رئيس الحكومة فايز السراج ووزير الداخلية فتحي باشا آغا، التي وصلت إلى حد وصف الأخير للمجموعات المسلحة المقربة من الأول بــ "الميليشيات الخارجة عن القانون"، متهماً ميليشيات النواصي التي تقدم الحماية الشخصية للسراج في مقره المؤقت في قاعدة أبوستة البحرية بالاعتداء على وزير المالية و"وضع رصاصة في يده" بعد اقتحام مكتبه لإجباره على توقيع مستندات اعتمادية بملايين الدولارات.
وفي مؤشر إلى تصاعد الخلاف في طرابلس، عادت ميليشيات طرابلس للتحدث باسمها القديم وهو "قوة حماية طرابلس"، ونشرت بياناً الخميس الماضي، أكدت فيه أن "طرابلس لولا ثوارها يوم 4 أبريل 2019، لكانت تحت سيطرة" قوات الجيش في رد على تصريحات باشا آغا، الذي اعتبر ميليشيات مصراته القوات "الشرعية" الوحيدة. في المقابل، شنت قنوات إعلامية فضائية، مقربة من باشا آغا، هجوماً حاداً على آمر ميليشيات النواصي محمد الأزهر، الذي سبق أن نشر على صفحته الرسمية تكذيباً لبيان وزارة الداخلية بشأن قتلى القصف الذي نفذه الجيش الليبي على ميناء طرابلس في 18 من فبراير ، ومنعت موكب الوزير من زيارة محاور القتال في جنوب طرابلس.
ويرى عرفة أن تركيا كانت ترغب في أن تكون طرابلس منطلقاً للتمدد التركي في المغرب العربي، بدليل الزيارات المكثفة التي أجراها رجب طيب أردوغان إلى دول المغرب العربي، وتحديداً الجزائر وتونس، في محاولة لفرض "وصاية ناعمة" على المنطقة والاستفادة من حالة التفكك التي تعيشها تلك البلدان.
وعلى الرغم من مزاعم تركيا أن اتفاقها مع الحكومة "شرعي ودستوري"، أكدته مصادقة البرلمان التركي على قرار الرئاسة التركية بشأن إرسال قوات إلى ليبيا، مطلع يناير الماضي، إلا أن الجانب التركي لا يزال يرسل دعماً عسكرياً إلى طرابلس في الخفاء، وهو مؤشر يوضح "يقظة تركية متأخرة بتورطها في تحالف عسكري مع حكومة محاصرة وهشة، خصوصاً بعدما نجح الجيش الوطني في استهداف غالبية شحنات السلاح وعجزت معه تركيا على تثبيت حتى منصات الدفاع الجوي التي دمرها الجيش"، بحسب عرفة.
على الرغم من استشعار كثير من المراقبين أن للوجود التركي في ليبيا ظلاً أميركياً، إلا أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لا تبدو واضحة إلى حد استعصاء الإجابة عن سؤال "من يدعم البيت الأبيض في الشرق الأوسط؟". وعلى الرغم من استشهاد أوساط ليبية بتحركات السفير الأميركي في ليبيا ريتشارد نورلاند الضاغطة على الأطراف الليبية بشأن ضرورة "استئناف المفاوضات السياسية ورفض الحل العسكري"، كونها تشير إلى رفض واشنطن عملية الجيش الوطني الهادفة إلى "تحرير طرابلس"، إلا أن مواقف السفير الأميركي لا يبدو أنها تستند إلى مواقف رديفة في دوائر صنع القرار الأميركي الرسمية في الملف الليبي، على الرغم من الاستجداء الذي حمله تصريح قريب لوزير داخلية حكومة الوفاق بالترحيب بـ "بناء قاعدة أميركية" في ليبيا، في تصريحاته إلى وكالة بلومبرغ الأميركية الأسبوع الماضي.