"القدّيسُ الحزينُ هو مِن أحزنِ القدّيسين"

الثلاثاء 27/أغسطس/2024 - 12:24 ص
طباعة
 
من المعتاد أن نشاهد إيقونات وصورًا للعذراء مريم والقدّيسين والقدّيسات، وهم في غاية الوقار والخشوع والجديّة؛ بل، وأحيانًا نراهم والأحزان قد غطت وُجُوهم الكريمة، والدّموع تتساقط من عيونهم الحزينة. ويبدو لنا هذا كلّه بمثابة أمر طبيعيّ ومحبّذ. وحينما نتساءل عن السّبب أو الأسباب الكامنة وراء هذه الحالة من الحزن والكرب والدّموع، يأتينا الجوابُ بسرعة البرق: هذا من فرط حزنهم على العالم وخطاياه!
ولكن مهلًا، يا صديقي، ودعنا نتساءل: ولماذا لا توجد بكثرة إيقونات وصورًا للعذراء مريم والقدّيسين والقدّيسات وهم يضحكون ويفرحون أيضًا؟ أليس خلاصُ العالم من خطاياه، وهو الذي حقّقه السّيّدُ المسيح طوال مشوار حياته الأرضيّة من بدايتها إلى نهايتها، أجدر بالفرح والسّرور والابتسامة والضّحك؟ أم هذا النّوع الحزين والمأسَويّ من الإيقونات والصّور الدّينيّة ما هو إلَّا انعكاس –بوعي أو بدون وعي– لسيكولوجياتنا البشريّة الدّفينة، ولا سيّما الشّرقيّة؟ إذ يُقال إنّنا نميل أكثر إلى حالات الحزن والشّجن والدّموع، لا إلى الفرح والتّهليل والضّحك! وعندما نضحك كثيرًا، نخاف ونستعيذ بالله، لأنّنا نخشى من شرّ ما قادم؟
ومَن قال بإنّه لا يصحّ كتابةُ إيقونات، ورسم صور، وتجسيد تماثيل، وبها العذراء مريم والقدّيسون والقدّيسات وهم يضحكون أيضًا؟ فهل الفنّ الدّينيّ في العموم، والفنّ المقدَّس على الخصوص، ممنوع من تصوير العذراء مريم والقدّيسين والقدّيسات وهم يضحكون؟ وفي نهاية المطاف، هل الضّحك لا يليق وممنوع دينيًّا وروحيًّا؟ ألا يمكن للشخص أن يبلغ إلى القداسة وهو إنسان مَرِح وفَرِح وضاحك؟
في رواية "اسم الوردة" الشّهيرة، وهي الرّواية الأولى للكاتب والسّيميولوجيّ الإيطاليّ "أُمبرتوا إكو"، والتي تروي مغامرات الأخ "غييرمو دي باسكرفيل"، وتلميذه ورفيقه "أدسو دي ميلك"، في ديرٍ بندكتينيّ في الثّلث الأوّل من القرن الرّابع عشر، يناقش المؤِّلفُ أيضًا قضيّةً هامّة، وهي إذا كانت "الضّحكة" جائزة ومسموح بها في الحياة المسيحيّة عامّة، والحياة الرّهبانيّة خاصّة. ويتخيّل المؤِّلفُ حالات وَفيّات غامضة ومتكرّرة في الدّير؛ ومع تعاقب الأحداث، يُكتشَف أنّ الوَفيّات تحدث بسبب قيام أحد الرّهبان بوضع نوعٍ من السّمّ في كتاب "الكوميديّات" المنسوب للفيلسوف "أرسطو"، حتّى يموت مسمومًا كلُّ مَن يجرؤ على قراءة الكتاب، عندما يقلّب صفحاته. إنّ إحدى الرّسائل الواضحة من تصرُّف الرّاهب هذا هي أنّ "الضّحك" –بالنّسبة له– أمرٌ محرَّم، ولا سيّما على الرّهبان!
إنّني أعتقد بحسم وجزم أنّه لا ثمّة مانع –بيبليًّا ولاهوتيًّا وروحيًّا ورعويًّا– من وجود قدّيسين وقدّيسات يضحكون ويمرحون ويفرحون، ولا مانع من صُنع إيقونات وصورًا للعذراء مريم والقدّيسين والقدّيسات وهم ضاحكون وفَرِحون. وإن كانت الأناجيلُ القانونيّة الأربعة لا تشير إلى مواقف قد "ضحك" فيها يسوع، إلَّا أنّ هذا الصّمت لا يعني أنّه لم يضحك إطلاقًا. فإذا كان يسوعُ «مُشابِهًا لإِخوَتِه في كُلِّ شَيء» (عب 2/ 17)، وكان «في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة» (عب 4/ 15)، وكانت بَشَريّته مثل بَشَريّتنا، فلا غرابة في أنّه قد ضحك مرارًا وتكرارًا في حياته الأرضيّة. ليس هذا فقط، بل، ويمكن استخلاصُ أنّه قد فدى "الضّحكة" أيضًا، ورفع من شأنها، إذ إنّ رسالته ودعوته هما للسعادة والفرح والسّلام والتّهليل والضّحك؛ وقد سعى جاهدًا لاقتلاع الحزن والكآبة وأسبابهما من حياة البشر.
وفي هذا الصَّدد، دعنا نتساءل أيضًا: هل فهمنا حقًّا المغزى من آيات عديدة موجودة في الكتاب المقدَّس؟ وهذا بعضها: «حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكًا وألسنتنا تهليلًا. حينئذ قيل في الأمم: "إنّ الرّبّ عظّم الصّنيع إليهم"» (مز 126/ 2)؛ «إفرحي، أيتها الـممتلئة نعمة، الرب معك» (لو 1/ 28)؛ «فقالت مريم: "تعظم الرب نفسي وتبتهج روحي بالله مخلصي"» (لو 1/ 46-47)؛ «في تلك الساعة تهلل [يسوع] بدافع من الروح القدس فقال [...]» (لو 10/ 21)؛ «إفرحوا في الرب دائما، أكرر القول: افرحوا» (فيل 4/ 4).
لا يوجد أيّ توجُّه لاهوتيّ جاد ومتأصّل يطالب القدّيسين والقدّيسات بعدم الضّحك، أو يجبر على رسم وكتابة إيقوناتهم بوجوه حزينة ودامعة، وخالية من الضّحك والابتسامة، وكأنّهما أمران ممنوعان ومحرَّمان لمناهضتهما للقداسة والكمال. إنّ المسيحيّة هي ديانة فرح وتهليل، وإن كانت تطالب أحيانًا بالحزن والجهاد والدّموع المقدّسة. وقد عرف تاريخُ الكنيسة الكاثوليكيّة وتقليدُها شخصيّات مَرِحة للغاية؛ فعلى سبيل المثال نذكر: القدّيس "فيليكس الكانتاليسيّ" (القرن الـ16)، والقدّيس "فيليب نيري" (القرن الـ16)، والقدّيس "ألبرتوا أورتادوا" (القرن الـ20). وهنالك أيضًا الشّخصيّة الأكثر شهرة وهي القدّيس "دون بوسكو" (القرن الـ19)، الذي كان يتعامل مع الأطفال والشّباب بمرح وفرح.
وفي هذا السّياق، لعلّه من المفيد أن نتذكّر بضعة كلمات للبابا فرنسيس حول هذه القضيّة، إذ إنّه قال عندما تحدّث عن القدّيسة "تريزا الأفيليّة" (القرن الـ16): «القداسةُ الحقيقيّة هي فرحٌ، لأنّ "القدّيس الحزين هو من أحزن القدّيسين". إنّ القدّيسين، قبل أن يكونوا أبطالًا مجاهدين، هم ثمرة نعمة الله للبشر. فيُظهِر لنا كلُّ قدّيس سمةً من سمات وجه الله المتعدّد الجوانب».
ولنختم هذه الخاطرة بهذا التّساؤل الأصعب والهامّ: هل يمكننا أن نقول مَزْحَةً بَريئَة عن الله أيضًا؟ وإليكم جواب البابا فرنسيس عندما تقابل مع فناني عالم الفكاهة: «هل يمكننا أن نمزح حول [نضحك حول: laugh at] الله أيضًا؟ بالطّبع، وهذا ليس تجديفًا. ويمكننا أن نمزح، تمامًا كما نلعب ونمزح مع الأشخاص الذين نحبّهم. التّقليد الحكميّ والأدبيّ اليهوديّ رائدٌ في هذا! ويمكن القيام بذلك، ولكن دون الإساءة إلى المشاعر الدّينيّة للمؤمنين، ولا سيّما الفقراء». وعلينا ملاحظة أنّ تعبير "نمزح حول" أو "نضحك حول" (laugh at) الله، يعني أن نقول مَزْحَةً أو دُعابةً أو كلامًا مضحكًا بشأن الله وعنه. ولا يقصد قداسةُ البابا فرنسيس إطلاقًا السّماح بالإساءة إلى الله بأيّ شكل من الأشكال.

شارك