مصادرة الفن باسم الدين والأخلاق والسياسة
اسم الكتاب: مصادرة الفن باسم
الدين والأخلاق والسياسة
المؤلف: د.حسن طلب
دار النشر: الهيئة العامة
لقصور الثقافة
سنة النشر : 2013
مقدمة:
لم يكن مأمولاً أن بلدًا
مثل مصر التي قادت شعوب الشرق إلى طريق النهضة الحديثة الشاملة منذ القرن التاسع عشر،
ستعود لتنكص على عقبيه بعد أكثر من قرن ونصف فتتردى في هوة التخلف من جديد،
وتتراجع بخطى حثيثة إلى عصور الظلام.
نعم، هذا هو حال مصر اليوم،
ومنذ أكثر من عقود ثلاثة، رفعنا فيها شعار (العلم والإيمان)، ونحن أشد ما تكون
عداء للعلم والعلماء، أما الإيمان فلم نعرف منه إلا قشوره الزائفة، حيث استغنينا
بالمظهر عن الجوهر، وبالخرافة عن العقل، وراح فقهاؤنا وأصحاب الفضيلة من مشايخنا
الكبار، يفتون فينا باسم الدين، بما يذهب بهيبة الدين ويحمل من قداسته، كحديثهم عن
شرب بول الرسول والتقاط نخامته، أو كفتواهم عن جواز إرضاع الكبير.
وهكذا أصبحت مصر بين عشيو وضحاها، مهيأة لكل ما يشجع على التطرف ويذكي روح التعصب، كما أصبحت من جهة أخرى بيئة معادية لحرية التفكير والتعبير، مقاومة للأدب الحر والفنون الجميلة، أما التعصب فقد رأيناه رأي العيان وهو يطل علينا بوجهه القبيح الجهول في أحداث (الكشح) والإسكندرية) و(العياط)، واما مصادرة حرية المفكرين والمبدعين، فنحن نعاني منها كل يوم، فمحاولة استتابة الفنانان وإغرائهن بالاعتزال والتحجب تجرى على قدم وساق، وما يقوم به مجمع البحوث الإسلامية وغيره مين هيئات دينية لا يخفى على أحد، فكم صادر من كتاب، وكم منع من عمل أدبي أو فني، وكم تصدى لمبدع أو مفكر أو أديب!.
مصادرة الفن باسم الدين
ولعل الفتوى الرسمية بتحريم
التماثيل، والتي صدرت في مصر منذ شهور فأثارت جدلاً واسعًا، هي التجسيد الأمثل
لذلك المناخ الأصولي الذي لم يفتأ يشدنا إلى الخلف خطوة بخطة، منذ السبعينيات إلى
اليوم، ومع أن صاحب الفتوى حاول أن يتراجع قليلاً في مواجهة الرفض الواسع لفتواه
الغربية من قبل عموم المثقفين، فراح يميز بين التمثال الكامل والتمثال النصفي، أو
بين إقامة التماثيل في الميادين، ووضعها في البيوت، إلا أن هذه المحاولة لم تنجح
في إخفاء العداء المتأصل للفن والأدب في ظل المناخ الديني المتزمت الذي نعيشه.
إن الفكر الذي صدر عنه ذلك
التحريم لفن النحت، وللفنون عامة، لجدير بأن يذكرنا بالكارثة الحضارية التي
اقترفتها حركة (طالبان) الأفغانية على مرأى من العالم كله منذ بضع سنوات، حين أصرت
على تدمير تمثال "بوذا" الشهير، في مشهد بائس لم ينجح إلا في تثبيت
الصورة البشعة للأصولية الإسلامية المتطرفة في أذهان سائر البشر المنتمين إلى
الأديان والحضارات الأخرى.
ولم يكن يستطيع أحد أن يلوم
هؤلاء إذا ما عمموا تلك الصورة، لتنسحب على الإسلام والمسلمين كافة.
نعم، لا يكاد يختلف المفتي
المصري عن المفتي الطالباني في هذا الموقف المعادي للفن، إلا أن الأخير كان يملك
تنفيذ فتواه، لأنه مفت وحاكم معًا، وربما لو كانت الأمور عندما كذلك- لا قدر الله-
لرأينا المدافع والمجنزرات وقد حملت على المتحف المصري والمعابد المصرية فتركتها
أثرًا بعد عين، ثم استدارت إلى الميادين العامة فقصفت تماثيل "سعد
زغلول" و"طلعت حرب" و"إبراهيم باشا" وشفت غليلها من سائر
هذه الأوثان.
ولاشك في أن وراء مبدأ
تحريم التماثيل عمومًا، فكرًا يجسد الروح الطالبانية خير تجسيد، إلا أن ما كانت
تفعله طالبان عن عقيدة محددة واضحة مهما قيل في تصلبها وتخلفها عن روح العصر،
نفعله نحن عن نفاق أحيانًا، وعن جهل في أحيان أخرى فقد أصبح مشايخنا وكأنهم لا
يعرفون شيئًا عن ماضينا البعيد والقريب، ماضينا البعيد الذي كان من المنتظر أن
يجعلنا نعتز- نحن المصريين- بأننا الأمة التي علمت البشرية كيف تبني وتنحت وتصور
وتكتب وتبدع وتفكر، وماضينا القريب الذي حسم فيه الإمام "محمد عبده"
الخلاف الديني حول قضية الصور والتماثيل، فكان مما كتبه في أثناء زيارته لمتاحف
صقلية بأوروبا صيف 1902 ليصف فيه حرص الأوروبيين تراثهم الفني:
"...لهؤلاء القوم حرص
غريب على حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج، ويوجد في دار الآثار عند الأمم
الكبرى ما يوجد عند الأمم الصغرى كالصقليين مثلاً، يحققون تاريخ رسمها، واليد التي
ترسمها، ولم تنافس في اقتناء ذلك غريب، حتى إن القطعة الواحدة من رسم
"رفائيل" مثلاً، ربما تساوي مائتين من الآلاف من بعض المتاحف، وكذلك
الحال في التماثيل، وكما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة وكذلك الحال في
التماثيل، وكلما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة، وكان القوم عليه أشد حرصًا، هل
تدريب لماذا؟ إذ كنت تدري السبب في حفظ "سلفك" للشعر وضبطه في دواوينه،
والبالغة في تحريره، خصوصًا شعر الجاهلية، وما عنى الأوائل رحمهم الله بجمعه
وترتيبه، أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم
والتماثيل، فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي
يسمع ولا يرى".
ويستمر الإمام "محمد
عبده" في معالجة هذه القضية من منظور جمالي، يدرك طبيعة العلاقة المتبادلة
بين الفنون على نحو ما يدركها علماء الجمال المعاصرون في الغرب، فيقول:
"إن هذه الرسوم
والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في
المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية، يصورون
الإنسان والحيوان ففي حال الفرح والرضى والطمأنينة والتسليم وهذه المعاني المدرجة
في هذه الألفاظ متقاربة، لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم
مختلفة فتجد الفرق ظاهرًا باهرًا: يصورونه مثلاً في حالة الجزع والفزع والخوف
والخشية. والجزع والفزع مختلفان في المعنى، ولم أجمعهما هنا طمعًا في جميع (عينين)
في سطر واحد، بل لأنهما مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما
وبين الخوف والخشية، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع، وما
الهيئة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك، أو ما إذا نظرت إلى الرسم، وهو
ذلك الشعر السكت، فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر
فيها حسك، فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع
فيها".
ويستطيع القارئ هنا أن يقف
على عمق النظرة العقلانية ورحابة الرؤية المتحضرة في الموقف من قضية الصور
والتماثيل، عند أحد الأئمة والمفكرين الدينيين الكبار في مطلع نهضتنا المعاصرة،
فالإمام "محمد عده" كما يبدو من هذا النصر، لا يقصر دور الفن في الحياة الإنسانية
على وظيفته التوثيقية باعتباره حافظًا للعلم البشري ويدوانا للهيئات والأحوال
البشرية فحسب، هذا كله لا يمثل – على أهميته- إلا الجانب النفعي المباشر، ولذا نجد
الإمام حريصًا على تأكيد الجانب الأهم في دور الفنون، وهو ما يتمثل عنده في
الوظيفة الجمالية التي تستمتع بها النفوس وتتلذذ الحواس.
فإذا ما جئنا إلى حكم
الإسلام في هذه القضية، أحسسنا أولاً بفطنة الإمام وهو يؤخر الحديث حول الحكم
الديني على الفن، إلى ما بعد الفراغ من الحديث عن قيمته الجمالية، وأحسسنا ثانيًا
بالبون الشاسع الذي يفصل ما بين فتاوي الماضي القريب المثقفة المنتصرة للحياة، أو
التي تنتصر للدين بأن تنتصر للحياة وبين فتاوي هذه الأيام المعادية للفن والحياة
جميعًا، أي المعادلة للدين في جوهره الأسمى، يقول الإمام "محمد عبده" في
فتواه العميقة المتواضعة في أن: "وربما تعرض لك المسألة عند قراءة هذا الكلام،
وهي: ما حكم هذه الصورة في الشريعة الإسلامية، إذا كانت القصد منها ما ذكر من
تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية وأوضاعهم الجثمانية؟ هل هذه حرام أو جائز
أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك أن الرسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع
فيها ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محى من الأذهان فإما أن تفهم
الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك
مشافهة. فإذا أوردت عليه حديث: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة
المصورون"، أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقوم
لك: إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك لسببين، الأول اللهو،
والثاني التبرك بتمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين،
والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك
به، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة النبات
والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد
من العلماء، مع أن الفائدة في نقش المصاحب موضوع النزاع، وأما فائدة الصور فمما لا
نزاع فيه على الوجه الذي ذكر.. ولا يمكنك أن تجيب المفتي بأن الصور على كل حال
مظنة العبادة، فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضًا مظنة الكذب، فهل يجب ربطه مع
أنه يجوز أن يكذب؟ وبالجملة، إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن
تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من جهة
العقيدة ولا من جهة العمل.."
لقد أوردنا هذا النص على
طوله، لكي نضع بين يدي القارئ صورة ناصعة لما أصاب حياتنا الفكرية والدينية من
جمود وتصلب، فأصبحنا وقد نسينا – أو تناسينا- ما أشاعه فين الإمام "محمد
عبده" وأعلام النهضة الآخرون، ومن تفتح واستنارة واحترام للعقل وإيمان بروح
الإبداع وضرورة التحضير، لقد دون "محمد عبده" فتواه السابقة في مستهل
القرن العشرين وبعد خمسة عقود تقريبًا أي من خمسينيات القرن، طلع علينا مفتي
الديار المصرية آنذاك بفتوى مترددة محافظة في قضية الصور والتماثيل، يجب فيها عن
حكم (الصورة)، أحلام هي أم حرام؟ وعن حكم التصوير شرعًا فيقول:
"أجمع الفقهاء على
حرمة تصوير الحيوان مجسمًا كاملاً، لا نعلم لأحد في ذلك خلافًا، أما الصور غير
الكاملة كالتماثيل النصفية، التي لا تمثل إنسانًا أو حيوانًا يستطيع أن يعيش،
فإنها ليست من الصور المتوعد عليها بهذه العقوبة الشديدة، ومع ذلك فقد كرهها
العلماء واستحسنوا تركها، وقد استثنى بعض العلماء من الصور المحرمة، التماثيل
الصغيرة التي يتخذها الأطفال لعبة لهم، وحكى القاضي "عياض" عن الجمهور
أنهم أجازوا بيع اللعب للبنات، لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن، أما
الصور غي المجسمة التي لا ظل لها، كالصور الفوتوغرافية والصور الزيتية والصور
المنقوشة في الثياب وعلى الجدران، فهي في مجال النظر عند الفقهاء، فمهم من حرمها
ومنهم من أباحها، ونمثل إلى الرأي الثاني، عملاً بما صح عن النبي من استثناء الصور
المرقومة في الثياب من الصور المحرمة، وأنه لم ينقل أن أمة عبدت صورة مرقومة غير
مجسدة".
على أن هذه الفتوى، على ما
فيها من تراجع كبير عن فتوى "محمد عبده" لم تشبع نهم الأصوليين لمحاربة
الفنون والقضاء على الإبداع قضاء مبرمًا، وكانت كلمتهم قد أخذت تعلو شيئًا فشيئًا
منذ ذلك الحين، ليعيدونا مرة أخرى إلى عصور الظلام والجهل، يقول أحدهم معلقًا على
الفتوى السابقة:
"يظهر من إشارة حضرة
المفتي هذه، أنه لم يحط إحاطة تامة بأحوال القبائل والشعوب في العالم، فإنه لا
يزال فيها من يعبد المجسمة، والصورة المرقومة، والنار والشجر والحجر والنهر والشمس
والكواكب وغيرها.
لم يرق لهم ميل المفتي، ولو
بشيء من التردد، إلى إباحة ما لا ظل له من الصور فحسب، فهي إباحة لا تستند عندهم
إلى الأدلة الشرعية، لم تكد تمر خمسة عقود أخرى، حتى بلغ التطرف أقصاه، فإذا
بالمفتي يطلع علينا منذ شهور بتحريم التماثيل، وسط مناخ غلبت فيه الخرافة على
العقل، والبداوة على الحضير، فذاع بين الناس أن المائكة لا تدخل بيتًا فيه تمثال،
فالشياطين وحدها هي التي تألف أمثال هذه البيوت.
والحق أننا نحتاج إلى ما هو
أبعد من مجرد الفتوى لكي نقف على معنى كلمة تمثال وتطور هذا المعنى في اللغة
العربية، ثم الفرق بين التمثال والصنم والوثن، فالمبحث اللغوي ليس ترفًا زائدًا هنا،
بل هو ضرورة تمليها علينا دقة البحث وما يتطلبه الأمر من إحاطة وشمول، وإذا كانت
بضاعة المفتي محصورة في استدعاء ما يستظهر من آيات وأحاديث، وما يستذكره من أراء
السلف، فما أفقر فتواه حينئذ، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضية ثقافية كبرى هي
الحكم على الفنون ودورها في حياة الإنسان.
ولا يخالجنا شك في أن كلمة
(تمثال) كانت تدور على الألسن قبل الإسلام أكثر من دوران كلمة (صنم) فهذا
"أمرؤ القيس يقول:
ويا رب يوم قد لهوت وليلة
بآنسة كأنها خط تمثال
ويقول شارح الديوان
"الأعلم الشنتمري" تفسير كلمة (تمثال): "خط تمثال، أي نقش
صورة"، والتمثال والمثال: كل ما مثلته بشيء وإنما شبهها بالتمثال لأن الصانع
له يتأنق في تحسينه ويمثله على أحسن ما يمكنه".
وربما تستطيع أن نشتم هنا
رائحة فكرة (المحاكاة) اليونانية كما وردت عن "أفلاطون" بالذات، فالفنان
عنده يحاكي الأشياء، أي يمثلها أو يمثل هيئتها في الواقع. غير أن كلمة تمثال بدأت
تتراجع بعد مجيء الإسلام لصالح المصطلحات القرآنية المرادفة، مثل (صنم) و(وثن)،
على ما بينهما من تباين في ظلال المعنى، فالصنم كما ورد في (اللسان) هو الصورة بلا
جثة، أما الوثن فيطلق على (كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب
والحجارة كصورة الآدمي، تعمل وتنصب فتعبد)، ومع هذا فقد كانت الكلمتان تتبادلان
معنييها، وقد تستخدمان على أنهما مترادفتان، يقول "دعبل الخزاعي"
مفتخرًا على النزارية بحضارة قومه القحطانيين التي تشهد بها آثارهم وأصنامهم
الباقية، ومن بينها (صنم المغارب).
بأيلة والخليج لهم رسوم
وآثار قدمت وما محينا
وفي صنم المغارب فوق رمل
تسيل تلوله سيل السفينا
ويقصد الشاعر بصنم المغارب،
التمثال الذي يحكي أن أحد ملوك اليمن كان قد بناه قديمًا حين خرج غازيًا إلى
المغرب فواجهته تلال الرمال المتحركة، فأمر قبل أن يعود أدراجه بصنع تمثال من
النحاس على هيئة إنسان، ونصبه على صخرة، ونقش على صدره تحذيرًا حتى يحترس القادمون
فلا تبتلعهم الرمال.
ولم تلبث كلمة (تمثال) ان
عادت من جددي إلى معناها الأصلي الدال على الجمال الفني المتقن، متخلصة من
الإيحاءات الدينية التي أكسبها إياها الإسلام بجعلها مرادفة تقريبًا لكلمتي (وثن)
و(صنم) وينقل "القلقشندي" (ت 821 هـ) عن "ابن بنت الأعز"
قوله.
ظريفة الشكل والتمثال قد
صنعت
تحكي العروس ولكن ليس تغتلم
فالشاعر يستخدم الكلمة هنا
بدلالتها الفنية (الجمالية) كما كان يستخدمها "امرؤ القيس" في الجاهلية،
وقد يتأنق بعض المؤلفين فيزينون عناوين كتبهم بكلمة (تمثال) بدلالتها هذه كما فعل
"العبدري) (ت837 هـ) حين جعل عنوان موسوعته عن الأمثال العربية (تمثال
الأمثال)
وقد وردت الكلمة مرتين في
القرآن، ولكن بصيغة الجمع فمر بمعنى الأوثان "إذ قال لأبيه وقومه ما هذه
التماثيل التي أنتم لها عابدون) (الأنبياء: 52)، أما المرة الأخيرة فذات دلالة
إيجابية لأنها جعلت من نحت التماثيل عملاً طيبًا مرغوبًا، ينتمي إلى دائرة الأعمال
والأشياء الجميلة، وتتوافق الكلمة هنا مع دلالتها الفنية الجمالية التي كانت لها
في الأصل (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) (سبا:
13)، والحديث هنا عن الجن الذين سخرهم الله للملك "سليمان" فصنعوا له-
من بين ما صنعوا من بدائع التماثيل، وربما كنا في حاجة إلى أن نقف عن تأويل هذه
الآية على ضوء ما ذكرنا به "أبو العلاء المعري" من أن فصحاء العرب قد
تعودوا أن ينسبوا إلى الجن كل ما تقع عليه أعينهم من صنائع جميلة يتجاوز حسنها
قدرة البشر:
وقد كان أرباب الفصاحة كلما
رأوا حسنًا عدوه من صنعة
الجن.
ونحن على أية حال لم يصلنا
شيء مما صنعته الجن للملك "سليمان" أو لغيره، لا تمثال ولا أية أعمال
فنية أخرى، على حين بقيت لنا مئات التماثيل والصور مما أبدعه الإنس قبل عصر
"سليمان" بآلاف السنين، سواء من الحضارة المصرية القديمة، أو من الحضارة
السومرية، أو ما تلاهما من حضارات.
وما يهمنا هنا، هو أن هذه
الدلالة الفنية لكلمة (تمثال) هي التي أوحت قديمًا لبعض علماء السنة العقلاء بأن
يبيحوا التماثيل والصور قياسًا على ما أبيح للملك "ٍسليمان" هكذا فعل
"القرطبي" (ت 671 هـ) صاحب (الجامع لأحكام القرآن) ولم يكلف – للأسف –
أحد مشايخنا الكبار هذ الأيام نفسه بأن يستهدي بهذا الرأي، لا سيما أن
"القرطبي" ليس من فقهاء المعتزلة أو الشيعة مثلاً، بل هو فقيه سني مالكي
المذهب. بل لقد مال هؤلاء المشايخ إلى حزب أعداء الفن وخصوم الإبداع، فلم تستوقفهم
(تماثيل سليمان) وإنما استوقفتهم الآيات الأخرى التي ذكرت الأصنام والأوثان.
ولم ترد في القرآن كلمة
"صنم" أو "وثن" على الإفراد، وإنما وردت الكلمتان بصيغة
الجمع، ويحتاج الأمر هنا إلى إعمال العقل لكشف السبب، أي يحتاج إلى شيء من
الاجتهاد، وهي كلمة أصبحت بغيضة في فقهنا المعاصر الذي قنع بالتقاليد والترديد، فالاجتهاد
لا يقوم بغير قدرة على التأويل، لا تتأتى بدورها إلا لمن أحاط بعلوم اللغة وآدابها
وصرفها ونحوها، وكان من أصحاب الخيال الخلاق والبصيرة الحية بضرورات الحضارة
الخلاق والبصيرة الحية بضرورات الحضارة الإنسانية وحاجات النفس البشرية، وكلها
شروط لا تتوفر في أغلب من يعاصروننا ونعاصرهم من المشايخ الكبار.
وردت كلمة (الأصنام) بصيغة
الجمع خمس مرات في القرآن مرة منها تتعلق ببني إسرائيل بعد نجاهم من مطاردة
المصريين (فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) (الأعراف: 138) والمرات الأربع
الأخرى تدور حول قصة "إبراهيم" المعروفة عن رفضه لعبادة الأصنام كما وجد
عليها قومه: (الأنعام 74، إبراهيم: 35، الأنبياء: 57، الشعراء: 71) أما كلمة
(الوثان) فقد وردت ثلاث مرات منها مرة في سورة (الحج: 30)، والمرتان الأخريان في
(سورة العنكبوت، 17و25) وكلها تنصرف إلى معنى الشرك والوثنية عند من يتخذون
الأوثان من دون الله، ولنتذكر هنا كيف أن الإمام "محمد عبده" في فتواه
التي أوردناها، قد أشار إلى أن عصور الوثنية قد انقضت، فيزول التحريم بزوال علته،
ولنتذكر أيضًا الفارق الدلالي بين (التمثال) و(الوثن) فليس كل تمثال وثنًا، وهذه
تمايل المصرين تملأ المتاحف، فنحن نرى تمثال الملك وشيخ البلد ومحاملة القرابين
والعمال والموظفين وغيرهم من أمراء الشعب وعامته، أفكان كل هؤلاء آلهة يعبدون.
إن تحريم نحت التماثيل لم
يرد بصورة مباشرة ولا حتى غير مباشرة في الآيات القرآنية التي دارت حول هذه
الموضوع، فهذه الآيات لم تستنكر الفعل نفسه، بل استنكرت ما قد يهدف إليه، وحتى
كلمة (نحت) التي وردت بصيغة الفعل أربع مرات في القرآن، لا تفيد شيئًا من ذلك
التحريم المزعوم، فثلاث من هذه المرات تذكر ما درجت عليه (ثمود) قوم (صالح) إذا
ينحتون من الجبال بيوتًا: (الأعراف 74، الحجر:82، الشعراء: 49)، أما المرة الرابعة
فقد وردت في سياق استنكار الهدف من النحت، أي نحت التماثيل لعبادتها: (قال أتعبدون
ما تنحتون) (الصافات: 95)
ينصب التحريم إذن لا على
التمثال نفسه، وإنما على التمثال إذا ما نحت بغرض العبادة، وقد رأينا كيف أن كلمة
(تمثال) بدلالتها الفنية الخالصة كانت مألوفة قبل الإسلام، ولم تكن كلمة صنم
بالمجهولة، فقد سميت بها وبمشتقاتها بعض القبائل والبطون مثل: (صنم وصنيم وصنامة).
غير أن الكلمة لم تتخذ دلالتها النهائية باعتبارها اسمًا للتمثال المعبود، إلا مع
الإسلام، وهكذا غلبت في ذيوعها على كلمة (تمثال)، لوقت طويل، وربما كان هذا هو
السبب في أننا لا نجد كتبًا في التراث عن التماثيل، في حين نجد عن الأصنام، مثل
كتاب ابن الكلبي (ت 204 هـ) المعنون: (الأصنام)، وكتاب "الجاحظ- ت 255
هـ" حول الموضوع نفسه، ولم يصل إلينا للأسف إلا حديث صاحبه عن مضمونه، فهو يتناول
جوانب دينية تتعلق بالأصنام وأخرى فنية تعلق بالتماثيل، فمن الجوانب الدينية
الحديث عن الأصنام في الديانة الهندوسية "وسبب عبادة العرب إياها وكيف اختلف
الهنود عن العرب في جهة العلة مع اتفاقهما على جملة الديانة، وكيف صار عبادة
البددة المتمسكون بعبادة الأوثان المنحوتة والأصنام المنجورة، أشد الديانين إلا
لما دانوا به وشغفًا بما تعبدوا له، وأشدهم على من خالفهم ضغنًا، وبما دانوا ضنا،
وما الفرق بين الدمية والجثة، ولم صوروا في محاربيهم وبيوتهم عباداتهم صور عظمائهم
ورجال دعوتهم"، أما عن الجوانب الفنية في هذا الكتاب النفيس الضائع فتشمل:
"..لم تأنقوا في التصوير، وتجودوا في إقامة التركيب، وبالغوا في التحسين
والتفخيم"، وما شابه هذا من قضايا جمالية الطابع.
وربما كان الدرس الذي ألقاه
علينا (الجاحظ) هنا، صالحًا لإقناعنا بأن قضية فن النحت ليست ذات جانب أوحد هو
التحليل أو التجريم، وإنما هي قضية ثقافية تتعلق في المقام الأول بطبيعة الفن
ووظيفته ودوره في الحضارة الإنسانية، كغيره من الفنون.
وربما كان درس "محمد
عبده"، قد نجح من جهة أخرى في إقناعنا بأن النحت شأنه شأن الرسم، هو ضرب من
الرسم المسموع، فلا فرق إين من حيث الجوهر بين التمثال والقصيدة، اللهم إلا في
أداة التصوير أو مادته، فالقصيدة تقدم لنا صورًا مجسدة للمجردات ولكن من خلال
اللغة، وفي القرآن كثير من هذه الصور، مثل (وجه الله ويده وعرشه). ولكننا نقبلها
ونتأولها دون أن نقع في التشبيه، وقد يقدم لنا التمثال هذه الصور نفسها، ولكن عن
طريق وسيط آخر هو الحجر أو المعدن أو الخشب، فتثور ثائرتنا وتهيج انفعالاتنا دون
سبب مفهوم، اللهم إلا أن نكون نحن المقصودين وحدنا- دون اليهود- بما ورد في (العهد
القديم) من تحريم حاسم للصور والتماثيل.
مصادرة الفن وباسم السياسية
عاد مصطلح (الشعر الثوري)
إلى الظهور من جديد على الساحة الثقافية، نتيجة للموجات الثورية التي توالت موجة
إثر أخرى في عالمنا العربي، بداية من الثورة التونسية، ثم المصرية، إلى ما يجري
الآن أمام أعيننا في بلاد عربية أخرى.
ولا تطمح هذه الكلمة إلى
دراسة ما يسمى بالشعر الثوري الذي واكب هذه الأحداث السياسية ولا يزال، بقدر ما
تطمح إلى رؤية فلسفية أشمل، تنظر إلى الشعر الثوري على أنه في جوهره مقابل لشعر
الثورة، وهذا الفارق قد لا يتضح إلا إذا نظرنا إلى الفن في عمومه، لكي يكون
التمييز بين الفن الثوري وفن الثورة، هو الذي يعيننا على التمييز بين الشعر الثوري
وشعر الثورة.
لم يكن هربرت ريد
(1968-1893) يتلاعب بالألفاظ حين رأى أن الفن الصوري عليه أن يكون ثوريًا، بل لقد
كان يدرك مدى الالتباس الذي يحيط بمفهوم "الفن الثوري"، من حيث كونه
مفهومًا معرضًا على الدوام لسوء الفهم، أو على الأقل لقبول عدة تفسيرات قد تكون في
أحيان كثيرة متعارضة، أو بعيدة عن مقصد الناطق بهذه العبارة، ولعل هذا هو ما جعله
يستدرك رأيه قائلاً:
"وبوسعنا أن نستبعد
على الفور، التفسير الركيك لتلك العبارة، على أنها توصية برسم الأعلام الحمراء ذات
المطرقة والمنجل، والمصانع والآلات، أو الأشياء الثورية الطابع عمومًا".
ولا ينبغي أن يفوتنا ما في
هذا استدراك من تحسب وحذر، لئلا يظن القارئ أن "ثورية" الفن رهن بالشأن
السياسي وحده، ويالها من "ُورية" مزعومة، تلك التي تجعل من الفن تابعًا
أمينًا للأحداث السياسية، حتى إن كانت أحداثًا ثورية!.
إن ما خشي منه
"ريد" على القارئ الغربي، حري أن يكون موضع خشيتنا أضعافًا، إذا أردنا
أن نفهم "ثورية" الفن على حقيقتها، وبصورة تحفظ للفن استقلاله الذاتي
بين أوجه النشاط الإنساني. ولاشك في أن مفهوم "الفن الثوري" يعاني عندنا
من سوء فهم واضح وتخليط كثير، وربما يزيد من خطورة هذا الأمر، أن سوء الفهم ليس
وقفًا على جمهور القراء وعامة المثقفين فحسب، بل إنه يتعداهم إلى بعث كتابنا
ونقادنا الكبار، ممن دفعتهم الحماسة الثورية السياسية إلى ترويج نموذج للكتابة
الشائعة عن صلة الفن بالثورة منذ 1952، وهي كتابة توقع في روع القارئ أن الفن قد
لا يثور إلا عندما تتهيأ له ثورة سياسية أو اجتماعية تنقل إليه عدوى الثورة،
بالقدر الذي تريد وبالطريقة التي تراها مناسبة لمصالحها وأهدافها.
إن مثل هذه الرؤية، قد
تتوافق مع المنطلق السياسي، غير أنها لا تتوافق مطلقًا مع المنطلق الفني أو الجمالي، لأنها ببساطة، تتجاهل استقلال الفن الذاتي
على نحو ما يشير الفيلسوف الإيطالي "أنطونيو بانفي" في إحدى مقالاته،
وهي أيضًا تعض النظر عن الطاقة الثورية الذاتية التي يتميز بها الفن بمعزل عن أي
مؤثر خارجي مباشر، إلى الحد الذي يرشحه لأن يكون في عالم اليوم، هو القوة التطورية
والثورية الوحيدة، لأنه قادر وحده على تعرية أعمال القمع في النظم الاجتماعية
البالية، كما يعبر "جوزيف بويس" (1921-1986)
وهكذا نجد أنفسنا في مواجهة
رؤيتين اثنتين لمفهوم الفن الثوري، إحداهما تجعل من الفن خادمًا تابعًا للأحداث
السياسية، فهو يستمد "ثوريته" منها، أما الأخرى فتؤكد أن الفن لا يتصف
حقيقة بالثورة، إلا إذا كانت نابعة من داخله هو، وطبقًا لقوانينه وحدها.
وفي حين أن الرؤية الأولى
ترغمنا على أن نتوقف عند علاقة الفن بالسياسة، فإن الرؤية الثانية تبقينا في مجال
الفن وفلسفته، إذ أن ثورة الفن الداخلية لا تتجسد إلا من خلال حركات التجديد التي
لا يفتأ يثور فيها الفن على نفسه من حين إلى آخر، وإذا كانت الرؤية الأولى تتحدث
عن "الفن الثوري" وهي في الحقيقة تقصد "فن الثورة" فإن الرؤية
الثانية هي التي تصحح الوضع حين لا ينصب حديثها إلا على "ثورة الفن"
ونستطيع الآن أن نقف عند كل رؤية من هاتين على حدة.
1- فن الثورة، أو الفن
والسياسة:
لعل أول ما يجب أن نؤكده
هنا، أن استقلال الفن الذاتي لا يعني أن الفن منفصل عن السياسة انفصالاً بائنًا،
فالحق أن الفن يرتبط بالسياسة ويلتبس بها إلى الحد الذي يجعل من القول الذائع:
"إن مجرد القيام بعمل فني في عصرنا هذا هو عمل سياسي"، قولاً صادقًا
بالفعل، بشرط أن نفهمه على وجهه الصحيح، لنرى مع "فرنسيس كليجندر (1907-1955
المفكر الماركسي الصميم، أن الفن ليس مجرد مرآة تعكس الواقع الاجتماعي، وإنما ه في
الوقت نفسه، وقبل كل شيء عامل ثوري من عوامل تحويل هذا الواقع، وهو يقوم بهذا
الدور، غير أن يخضع لقيود العقائد الجامدة، ودون أن يكون في حاجة إلى العمليات
المتطاولة للاستدلال المنطقي والتحقيق التجريبي، ذلك أنه أظهر صور الوعي الاجتماعي
تلقائيًا، وهذا هو ما يجعله قادرًا على أن يتفاعل مباشرة مع أي تغيير في جوانب
الوجود الأساسية، ويحس على الفور بما ينشأ من تعارض بين ظروف الحياة الجديدة وصور
الوعي القديمة.
غير أن رجال السياسة في
الغالب، وبحكم نظرتهم الضيقة لا يرون في الفن إلا مجرد وسيلة دعاية، كل ما هو
مطلوب منها أن تنشر أفكارهم وتبارك سياستهم وتلتزم بالأيديولوجيا التي يعملون في
إطارها، وإلا أصبح الفن مغضوبًا عليه، وتعرض لسائل أنواع المطاردة والقمع
والمصادرة.
ومن اللافت للنظر، أن
كثيرًا من الماركسيين لا يتحرجون من استخدام الفن أداة دعاة سياسية أو أيديولوجية،
حتى لو كانوا على قدر من التفتح يميزهم عن الماركسيين الأرثوذكسيين، فهذا هو الفن
والمفكر المكسيكي "دييجو ريفيرا" (1886-1975) رفيق "ليون تروتسكي
(1879-1940) في أثناء إقامته بالمكسيك، يجتهد في قراءة تاريخ الفن على ضوء فكرة
الدعاية حتى يجد السند النظري والتاريخي لتبرير هذه الفكرة في البلاد الشيوعية
المعاصرة، وعلى الرغم من أن "ريفيرا" يعد من الماركسيين القلائل الذين
عارضوا السياسة الستالينية إزاء الفن منذ وقت مبكر، إلا أنه لم يجد أدنى غضاضة في
أن يقول: "سائر الرسامين كانوا دعائيين وإلا ما كانوا رسامين
"جيوتو" كان دعاذيًا لصالح روح المحبة المسيحية، التي هي سلاح الرهبان
الفرنسيسكان في عصره، لمواجهة القمع الإقطاعي، و"بروجل" (1525-15669)
كان دعائيًا لصالح صراع فناني البورجوازية الصغيرة المهرة ضد القمع الإقطاعي، إن
كل فنان يستحق نصيبًا من الفن يكون كذلك دعائيًا، والتهمة الشهيرة بأن الدعاية
تدمر الفن، تعود إلى هوى بورجوازي، فمن الطبيعي أن البورجوازية لا تريد للفن أن
يوظف من أجل الثورة، وهي لا تود أن يكون الفن حاملاً للأفكار، لأن ما لديها من
أفكار لم يعد قادرًا على أن يغري الفن باستلهامه، إن كلاً من الفن، والفكر،
والإحساس يجب أن يكرس اليوم لمعادة البورجوازية، فكل فنان كبير له عقل وقلب، وكل
فنان كبير كان دعائيًا، وإني لأود أن أكون دعائيُا دون أي شيء آخر، أود أن أكون
دعائيًا لصالح الشيوعية، أود أن أكونها في سائر ما أستطيع أن أفكر به، وسائر ما
أستطيع أن أتحدث به، وسائر ما أستطيع أن أكتبه، وسائر ما أستطيع أن أرسمه، إني أود
أن استخدم فني سلاحًا.
لقد نشرت هذه الكلمة في عام
1932، وبعد نشرها بعامين تقريبًا كان سكرتير الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي،
والمسئول الأول عن الثقافة في الحقبة الستالينية، وهو"أندريه جدانوف
(1896-1984) يتحدث إلى مؤتمر الكتاب السوفيت، مرددًا ما قاله "ريفيرا"
مع تخفيف مصطلح الأدب الدعائي، لى (الأدب الموجه) وما جاء في حديثه.
"إن أدبنا السوفيتي لا
يخشى الاتهام بأنه أدب موجه، إذ لا يوجد في عصر الصراع الطبقي، ولا يمكن أن يوجد
أدب ليس بطبقي ومن ثم ليس بأدب موجه، أو يزعم أنه ليس سياسيًا.
ولعل هذه التي تبسط سلطتها
على الفن وتحدد له وجهته قسرًا، أو "توجهه" رغم أنفه، وكأنه سوف يضل
طريقه لو ترك وشأنه، لا تختلف في شيء عن الفكرة التي تريد من الفن إما أن يكون
مجرد سلاح في قبضة السلطة السياسية أو لا يكون، فكلتا الفكرتين تعبير مغلوط عن
مفهوم "الفن الثوري"، إذ ليس بوسع الفن أن يثور قبل أن يمتلك ناصية
أمره، ويكف عن أن يكون مجرد سلاح تخاض به حروب ليست حروبه الحقيقية، ويستخدم في
معارك لا يحسب له فيها نصر ولا تسجل عليه هزيمة!.
رؤية المذاهب السياسية
للفن:
والحقيقة أن هذه النظرة
الدونية إلى الفن في علاقته بالسياسة، لا تسود في النظم الشيوعية وحدها، بل تكاد
تكون قاسمًا مشتركًا بين النظم السياسية كافة، اليساري منها واليميني، والمتحرر
متها والشمولي، والقديم والجديد. وتكشف لنا مواقف مشاهير الساسة في القرن الماضي،
على اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية، كيف أن العداء بين هذه الأيديولوجيات
والمذاهب السياسية قد يبلغ مداه، والصراع بينها قد يتصاعد ليقود إلى حروب طاحنة،
غير أن أمرًا واحدًا يظل يجمع بينها، هو- ويا للعجب- عداؤها المستحكم لاستقلالية
الفن، أو لفكرة حرية الإبداع الفني دون قيد أو شرط، لا سيما من القيود التي تفرضها
السياسة.
وربما كان من أطرف مواقف
هؤلاء الساسة الكبار، ما يرويه أحد الكتاب الأمريكيين المعادين للشيوعية هو
"ألفريد بار" (1902-1981) عن
رأي الرئيس الأمريكي "ترومان" في الفن الحديث وتشبيهه إياه بأنه مجرد
زفير أناس جهلة وكسالى، أما الجنرال "أيزنهاور" فقد علق على لوحة جدارية
حديثة بمبنى الأمم المتحدة بنيويورك بهذه الكلمة الساخرة.
"ولكي تكون حداثيًا
ليس عليك إلا أن تكون مجنونًا.
ونحن نعلم أن هذا العصر،
عصر "ترومان" و"أيزنهاور" قد كان عصرًا محافظًا إلى درجة
التزمت خاصة في نظرته إلى الفن والأدب، فهو عصر المكارثية التي فرضت عل حرية
الإبداع والتعبير قيودها الصارمة، ولم تكن نظرة "ترومان"
و"أيزنهاور" التي ترفض الفن الحديث وتستخف به إلا جزءًا من هذا السياق
العام، الذي يمكن أن يمثله أحد أعضاء مجلس الشيوخ البارزين في هذا العصر، خير
تمثيل ونقصد به السيناتور "جورج دونديرو" (1883-1968)، الذي نظر إلى
الفن الحديث كله، على أنه مؤامرة شيوعية حبكت لإحكام السيطرة على الفن الأمريكي.
ويتحدث "دونديرو"
عن خيوط هذه المؤامرة وتفاصيلها، فيكشف لقرائه كيف أن الفن الحديث قد استخدم
سلاحًا في قبضة الثورة الروسية منذ عام 1914، من أجل هدم الحكومة القيصرية، فلما
تم له هذا ونجحت الثورة عام 1917، توقف الفن عن أن يكون سلاحًا لصبح أداة دعاية.
إن الفن الذي يقصده
"دونديرو" هنا، هو ما تمثله الطليعة الحديثة مثل التكعيبية والمستقبلية
والدادائية والتعبيرية والتجريدية والسوريالية وغيرها من المصطلحات التي تنتهي
بالمقطع المصدري ويسميها "دونديرو" (المذهبيات)، وهي عنده.
"سلاح الثورة الروسية
التي تم نقله إلى التربة الأمريكية، فتسلل وتغلغل في كثير من مراكز الفن عندنا،
مهددًا بأن يقهر الفن الجميل في تراثنا ويهيمن عليه، وما يسمى بالفن الحديث أو
المعاصر في بلدنا المحبوب، يضم سائر هذه المذهبيات الموسومة بالانحطاط والفساد
والتدمير، فما هي هذه (المذهبيات) التي تشكل حقيقة الفن الحديث الجوهرية؟ إنها هي
المجموعة القديمة الخاصة بالثورة الروسية نفسها، وقد توارى بعضها خلف أقنعة شفيفة،
بينما أضاف بعضها الآخر تنويعات وتفاصيل ووجد لها اسمًا جديدًا، غير أنها جميعًا
أسلحة ومعاول هدم: التكعيبية تهدم من خلال الفوضى المقصودة، والمستقبلية من خلال
أسطورة الآلة، والدادائية تهدم من خلال السخرية، والتعبيرية تهدم من خلال محاكاة الهوس
البدائي، والتجريدية تهدم من خلال ابتداع دوامات الجنون، والسوريالية تهدم من خلال
إنكار العقل".
لقد أوردنا هذا النص- على
طوله- لكي نوضح كيف أن هذه التيارات الفنية الطليعية، التي كانت هدفًا لهجوم ضار
من اليمين "الأمريكي" هي بعينها التي تعرضت من قبل للهجوم نفسه، على
أيدي النازية والفاشية، والأهم من هذا كله، على أيدي البسار الشيوعي والأرثوذكسي،
وهكذا لايبدو أن هناك فرقًا يذكر بين اليمين واليسار في الموقف السياسي من الفن.
وقبل أن ننتقل إلى تفاصيل
إضافية حول هذه النقطة، نشير إلى أن الموقف المتشدد العنيف إزاء الفن كما أعلنه
"دونديرو" ليس نابعًا في الحقيقة من مجرد العداء الخالص للشيوعية من قبل
مسئول رأسمالي، بقدر ما هو نابع أولاً، من عداوة سافرة للفن الحديث الذي حاول أن
يدافع عن استقلاله وينتزع حرية انتزاعًا، ولو كان الأمرد مجرد ترجمة لموقف عدائي
طبيعي إزاء الشيوعية لما وجدنا مفكرًا أمريكيًا آخر، لا يقل كراهية للشيوعية عن
"دونديرو" يدافع عن الفن الحديث دفاعًا حماسيًا، لأنه يتمتع بالقدرة على
تذوق الفن الحديث وإنصافه بمعزل عن المعايير السياسية، هذا المفكر هو "ألفريد
بار" الذي أدلى بشهادة دالة تدمغ "المكارثية" وتدين أتباعها
المتزمتين ومن بين ما ورد في هذه الشهادة.
"إن من يساوون بين
الفن الحديث والنظم الشمولية، جاهلون بالحقائق، فوسم الفن الحديث بالشيوعية دليل
غباء، كما أنه يقضي على الفنانين الحداثيين، لاسيما بعد أن تردد غيره مرة".
ولم يفت "بار" أن
يسخر من موقف "دونديرو" وأن يدين بعض الأحداث المرتبطة به، مثل الهجوم
على متحف (المتروبوليتان)، وأن يصف من يصرون على أن الفن الحديث هدام، لأنه أداة
في يد (الكرملين) بأنهم أثمون ومصابون بعته عجيب.
وإذا ما انتقلنا إلى
المعسكر النازي، فلن نجد لغة تختلف عن تلك التي عبر بها اليمين الأمريكي عن حربه
الضارية على الفن الحديث، بل ربما نجد بعض الألفاظ المشتركة في التعبير عن هذا
الموقف بين المعسكرين يقول الزعيم النازي "أدولف هتلر" (1889-1945)، عن
الأعمال الطليعية التي عرضت نماذج منها فيما بعد بمدينة ميونيخ عام 1937 تحت عنوان
منحاز يدين سلفًا (معر الفن المنحل!).
"إنها أعمال تنتمي إلى
الأغبياء والكذبة والمجرمين ممن يستحقون أن يودعوا المصحات النفسية أو
السجون".
وحتى لا يترك الساسة
النازيون فرصة للجمهور يجرب فيها حرية الاختيار من خلال ذوقه وحده، فقد أقيم معرض
آخر للفن الألماني الذي رضي عنه هؤلاء (الساسة) وفي التوقيت نفسه الذي أقيم فيه
(معرض الفن المنحل)، والدلالة واضحة هنا وضوح الشمس، هذا هو الفن المنحل فاجتنبوه،
وهذا هو الفن الذي يصلح لكم فهلموا إليه!.
ولم ينس "هتلر"
في الكلمة التي افتتح بها معرض الفن الألماني الكبير، أن يؤكد من جديد الموقف
السياسي الثابت من تيارات الفن الحداثية الطليعية التي شقت عصا الطاعة، وتطلعت إلى
فضاء الإبداع الحر، يقول في هذه الكلمة:
"ليس للفن مطلقًا أن
يصبح تقليعة وبقدر ما يستحيل على شعبنا أن يغر شخصيته ويبدل الدماء التي تجري في
شرايينه، يجب على الفن أن يتخلى عن طابعه المتهافت، ويستبدل به صورًا قيمة ليصف
بها مسار الحياة الخاصة بشعبنا في نموها المطرد وتفتحها الخلاق، إن التكعيبية
والدادائية والمستقبلية والانطباعية وغيرها، ليس لديها ما تؤديه لشعبنا الألماني،
فهي جميعًا تصورات ليست بالقديمة .لا بالجديد، ولكن برطمة ملفقة لأناس أنكر الله
عليهم نعمة الموهبة الفنية، وأسبغ عليهم بدلاً منها فضلاً عن الثرثرة والغش، وعلى
أن أعترف الآن لهذا السبب، وفي هذه الساعة بالذات، أنني قد اتخذت قرارًا نهائيًا
لا محيص عنه، بأن أقو بتنظيف المكان، على نحو ما فعلت حين عم الاضطراب السياسي،
إنها الحظة التي سننقذ الفن الألماني فيها، من الأساليب الهجينة".
وهكذا لا يبقى أمام رجل
السياسة إلا لغة العنف يهدد بها الفن الخارج عن حظيرة السياسة ويرهبه، وغير سلاح
المصادرة الذي يلجأ إليه في نهاية المطاف، حين تفشل سائر الوسائل الأخرى في ترويض
الفن الثوري الحقيق وتعجز عن احتوائه.
لقد أصبحت الصورة واضحة،
بالقدر الذي يكفي لنرى كيف أن رجل السياسة لا يريد على الإطلاق ثورة في الفن، ولحساب
الفن، بل قصارى ما يريده هو فن للثورة، يحدو ركابها ويلتزم بأيديولوجيتها، ويكرس
طاقاته من أجل الدعاية لرموزها وتمجيدها والإشادة بإنجازاتهم الحقيقية والموهومة،
غير أن ما يتضح بعد، هو وجه الصورة الآخر، أي موقف الفن من تلك العلاقة التي لابد
من أن يجد نفسه متورطًا فيها مع السياسة، بمشكلاتها المعقدة، وقضاياها المثيرة.
الفن بين نوعين من القضايا
السياسية:
ولعل الخوض في أنواع هذه
القضايا السياسية وتفصيلاتها، قد يخرج بنا عن سياق الموضوع، فحسبنا أن نشير إلى أن
هناك نوعين من القضايا السياسية: القضايا الحزبية والقضايا الثورية، وفي القضايا
الحزبية تتفق سائر الأطراف على طبيعة الهدف الاجتماعي المراد تحقيقه. غير أنها
تختلف على الخطوات السياسية المؤدية إليه، وهنا يحاول كل حزب من الأحزاب السياسية
المتنافسة أن يقنع أفراد المجتمع عن طريق الاحتكام إلى العقل والمنطق، بأن سياسته
الحزبية أكثر ملاءمة لتحقيق الهدف المنشود من سياسة الأحزاب الأخرى، وفي هذا النوع
من القضايا، لا تكون هناك حاجة إلى الفن، وإنما تنشأ الحاجة إليه في النوع الثاني،
أي (القضايا الثورية)، التي يكون الخلاف فيها دائرًا حول الأهداف أو الغايات
البعيدة، وليس حول مجرد الوسائل المؤدية إليها.
إننا في هذه الحالة، نكون
أمام صراع أيديولوجيات، ولكل أيديولوجيا فنها الذي يروج لها ويحارب في صفوفها،
وهذا يعني أن الفنان لن يستطيع أن يبدع خارج نطاق الأيديولوجيا، وسيظل الفن الثوري
طبقًا لهذه الرؤية، مرتبطًا بالسياسة، أي أن ثوريته ستكون مستمدة من الأيديولوجيا
الثورية التي تنتمي إليها.
ثورية الفن:
ولعل أول خطواتنا على
الطريق الصحيح نحو إدراك طبيعة (الفن الثوري) الحقيقي، لا تبدأ إلا حينما نستطيع
أن نفصل بين ما هو ثوري في مجال السياسة، وما هو ثوري في مجال الفن، لنفهم كيف
يمكن أن يكون الإنسان ثوريًا بالمعنى السياسي، دون أن يجعله هذا – بالضرورة –
ثوريًا بالمعنى الفني، والعكس أيضًا صحيح. وخير مثال يقدمه لنا التاريخ الأدبي
الحديث لتوضيع هذه الحقيقة، هو الموقف النقدي الإيجابي الذي اتخذه الناقد المستنير
"وليام هازلت" من الكاتب المحافظ الذي يقف على النقيض منه "إدموند
بيرك"، فلم يكف "هازلت" عن امتداح أسلوب "بيرك" على
الرغم من موقفه السياسي المحافظ ومما قاله "هازلت" عن "بيرك":
"هذا رجل يصب ذهنه على
الورق.. إن أسلوبه أجمل الأساليب النثرية، وأقواها، وأبهرها، وأجرؤها، لقد كان
أسلوب لعوبًا ذات شغب كالبريق، نضناضًا كالأفعون.. لم تهمني عقائده في شيء، فقد
كنت أنئذ ومازلت حصينًا إزاء عدواها، بيد أنني كنت معجبًا بالمؤلف، فاعتبرني
الجانب المعارض له نصيرًا تعزه الصلابة، وإن كنت أقول لنفسي: إن الفرضية المجردة
شيء وحسن الانتقال وبراعة التشبيه شيء آخر، وقلت أيضًا إنه قد يكون مخطئًا في
الموضوع الأساسي في جدله، ومع ذلك ينطق بخمسين حقيقة ليبلغ نتيجة كاذبة.