مؤتمر مركز أبوظبي للدراسات حول الدولة "العثمانية الجديدة"

السبت 19/يوليو/2014 - 03:36 م
طباعة مؤتمر مركز أبوظبي
 
عقد أعضاء وفد تركي ضمّ نحو 14 باحثاً وأكاديمياً، في أبوظبي، أواخر شهر مايو  2014 مؤتمرا بعنوان "تركيا ومستقبل النموذج والدور" بدعوة من "مركز الإمارات للسياسات"؛ ليجدوا آذاناً تسمع وتُنصِت، لا ألسنة تناقش وتُجادل وتُواجه، وبالتالي كان يكفي أن يطرح هؤلاء أو معظمهم على الأقل، أفكاراً بديهية عن المُعطيات التركية الرّاهنة والتاريخية؛ كي ينتهي بالنسبة إليهم النقاش ويُغلق باب الاجتهاد.
وتقدَّم المشاركون العرب في المؤتمر، ودول الخليج، بمداخلات وتحليلات موضوعية وأسئلة دقيقة، أدّت إلى بروز فجْوة عميقة وواضحة في المستويات الأكاديمية والبحثية بين كِلا الطرفين.
هذه المداخلات هي التي أسفرت في الواقع عن نجاح مرموق لهذا المؤتمر المُغلق، الذي توزَّعت أعماله على مسألة الشخصية والهوية التركيتين وعلاقتها بالسياقات التاريخية لصعود التيار الإسلامي التركي، والتحوّلات الراهنة في المشهد الإستراتيجي والسياسي التركي (بما في ذلك مستقبل العلويين والأكراد الأتراك)، ومستقبل العلاقات التركية- الغربية والدور التركي الإقليمي المُحتمل بعد الربيع العربي، وأخيراً دور الاقتصاد والتنافس على خطوط الطاقة في السياسة الخارجية التركية.

"الانفجار"

الانفجار
مُعطَيان اثنان أسهما في إسباغ سِمة النجاح على نِقاشات هذا المؤتمر، الأول: نجاح إدارة المؤتمر في التِقاط المسألة الرئيسية لـ "القضية التركية" الرّاهنة، المتمثّلة في أزمة الهوية الطّاحنة التي تعيشها تركيا هذه الأيام بين التيارات العِلمانية والإسلامية والطائفية، ثمّ دفع كل المشاركين إلى تركيز الانتباه عليها، وهو ما أدّى إلى محصّلة مُدهشة تمثلت في تفجّر ما يمكن أن يكون "حرباً أهلية باردة" بين المشاركين الأتراك الذين ينتمون إلى كل التيارات المتصارِعة في بلاد الأناضول.
فقد انبرى على سبيل المثال، ممثلو الأقلية العلوية، التي يُقال إنها تضم ما بين 10 إلى 12% من إجمالي الشعب التركي (74 مليون نسمة وفق إحصاء عام 2010)، إلى التنديد بما وصفوه بالتمييز الذي يُمارس ضدّهم في البلاد، خاصة منذ أوائل ستينيات القرن العشرين، على رغم أنهم كانوا من أشدّ أنصار الدولة التركية الحديثة.
 وبالطبع، كان بدِيهياً أن يُبدي هؤلاء قلقاً أعمَق إزاء الهوية التركية الجديدة، التي يحاول حزب العدالة والتنمية الحاكِم منذ 2002، بلْورتها من خلال عقْد قران الهوية العثمانية الإسلامية على الهوية القومية الكمالية "نسبة إلى كمال أتاتورك".
ممثلو الأكراد في المؤتمر كانوا أكثر حِدّة حتى من العلويين في إبداء الامتعاض من بُطء حزب العدالة والتنمية في تلبية مطالبِهم، على الرغم من صفقة السلام التي أبرموها معه منذ أكثر من سنة. وهنا أيضاً، كانت إشكالية الهوية التركية تطرح بقوّة؛ لأن جهود العدالة والتنمية لدمْج الأكراد في إطار الهوية العثمانية الجديدة، تصطدِم بمُمانعة مُطلَقة من القوميين الأتراك العِلمانيين، الذين يرفضون أصلاً الاعتراف بالأكراد كعِرق مستقِل ويصرون على تسميتهم "أتراك الجبال".
أما ممثلو حزب العدالة والتنمية في المؤتمر، فقد خيّم على مُداخلاتهم ونِقاشاتهم بعض القلق والتوتّر، ما عكس بجلاء طبيعة الأزمة الرّاهنة التي يواجهها الحزب في الداخل التركي.
مؤتمر مركز أبوظبي
حين جاء الأمر لتقييم مستقبل النّزعة "العثمانية الجديدة" ودورها في المنطقة العربية، كان واضحاً أن كل الأطراف تقريباً تتّفق على أن النّكسات التي تعرّض إليها الإخوان المسلمون في مصر والذين دعَمهم حزب العدالة والتنمية، فاقَمت إلى حدٍّ كبير من أزمة الهوية في الداخل التركي؛ ما أسفر عن تراجُعٍ واسعٍ للحيوية الجيو- سياسية التركية السابقة في المنطقة العربية، وهي الحيوية التي دفعت آنذاك العديد من المُراقبين إلى الاستِنتاج بأن الحِقبة العثمانية عادت بالفعل إلى المنطقة، وهي تتمنْطَق هذه المرة بمزايا القوة الناعمة.
بيد أن بعض المشاركين نبّهَ إلى ضرورة عدم القفز إلى نتائج متسرّعة، قِوامها أن تركيا الأردوغانية ستُواصل اتباع سياسة خارجية تُهيمن عليها الأيديولوجيا.
 وأعادوا إلى الأذهان، أن جلّ تاريخ تركيا استند دوماً إلى عامليْن اثنين: الأولوية القصوى للمصالح القومية والبراجماتية في حدودها القصوى أيضاً، بغضّ النظر عمّن يحتلّ مقر "الباب العالي"، سواء أكان إسلامياً عثمانيا، أو علمانياً كماليا، أو إسلامياً أردوغانياً، كما الأمر الآن، وبالتالي، توقّع هؤلاء أن يغيّر أردوغان قريباً توجّهاته إزاء الإخوان المسلمين العرب، بعد أن تحوّلواً من "كنز" للمصالح التركية إلى "عِبْء" عليها.

"تركيا الجديدة"

تركيا الجديدة
هذا عن معطى النجاح الأول. 
أما المعطى الثاني فهو يتعلّق بالعملية التخطيطية والتنظيمية للمؤتمر. 
وهنا اتفق العديد من المشاركين، والذين ناهز عددهم الخمسون، على أمرين اثنين: الأول، أن مركز الإمارات للسياسات قدّم، رغم حداثة عهده (عمره أقل من سنة) نموذجاً راقياً لعمل مراكز الأبحاث على مستوى التخطيط، والتحضير، واختيار المحاور، والهيكلية التنظيمية، والأهم على مستوى الإدارة الدقيقة للجلسات والحوار حول تركيا.
بيد أن مسألة التمخضات التركية الراهنة، والتي يبدو أنها ستستمر ردحاً من الزمن، تحتاج إلى المزيد من النقاشات والمؤتمرات العربية - التركية المشتركة، لسببين اثنين: الأول، أن معركة الهوية الطاحنة اليوم في هذه الدولة الإسلامية الكبرى، ستكون هي نفسها غداً معركة باقي الدول الإسلامية الباحثة هي الأخرى عن التوازن بين التراث والحداثة والأصالة والمعاصرة. 
والثاني، أن التطورات في "تركيا الجديدة" (إذا ما جاز التعبير)، والتي تتمحور حول دورها في "عمقها الإستراتيجي" في الشرق الأوسط الكبير، ستترك تأثيرات جيو- إستراتيجية ضخمة وعميقة على كل هذا الأقليم، مهما كان مصير أو مستقبل حزب العدالة والتنمية الحاكم حاليا.
وهذان المعطيان كانا واضحين تماماً لدى كل المشاركين، عرباً وأتراكاً هذه المرة، في مؤتمر أبوظبي.

شارك