"الحاكمية" ...الراية الزائفة
السبت 24/أغسطس/2019 - 01:20 م
طباعة
حسام الحداد
يُعتبر مبدأ "الحاكمية" أحد أبرز المصطلحات الدينية التي استخدمتها المذاهب والتيارات الدينية المتشددة، في تأصيل موقفها من الحكم والحاكم، ومؤسسات الدولة كافة، حيث رفضت تلك الجماعات الاشتغال بالعمل السياسي في البرلمان كونه يشرع القوانين، وهي إحدى أشكال منازعة الله في إحدى اختصاصاته في التشريع، فضلاً عن رفضهم الدستور الوضعي؛ كونه ينص على أن السيادة للشعب، وهو ما ينازع الله في سيادته على الجميع.
العديد من الباحثين يتجه إلى أن مفهوم "الحاكمية" ليس مفهوماً أصولياً، وإنما طرحه- أول ما طرحه- الخوارج؛ اعتراضا على واقعة التحكيم بين الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، ثم أعاد طرحه حديثا الأستاذ أبو الأعلى المودودي.
لذلك أصبحت مقولة (الحاكمية لله) وما يتفرع عنها من آراء وأطروحات محوراً أساسياً في نقاشات وأدبيات واجتهادات مفكري ودعاة الإسلام السياسي بمختلف مسمياته، وأحزابه وتنظيماته، وإن انعقد إجماعهم على أن مبدأ الحاكمية، هو افتراض السيادة المطلقة لله في الكون، حيث ليس هناك من مشرّع إلا الله.
الحاكمية في اللغة والأصول
وحدد الباحث هشام جعفر في بحثه "الحاكميّة" العديد من المعاني للمصطلح، فقال: إن المصطلح لغة هو:
1 - الحكم أصله منع منعًا للإصلاح، ومنه سميت حكمت الدابة منعتها بالحكمة.
2 - الحكم أيضا يقصد به العلم والفقه والقضاء بالعدل.
3 - مادة الحكم أيضا من الإحكام وهو الإتقان.
أما المصطلح أصولاً فهو:
1 - الحكم بمعنى التحليل والتحريم في أمر العبادة والدين.
2 - الحكم بمعنى القضاء والقدر.
3 - الحكم بمعنى النبوة وسنة الأنبياء.
4 - الحكم بمعنى القرآن وتفسيره
5 - الحكم بمعنى الفهم والعلم والفقه.
6 - الحكم بمعنى السياسة.
7 - الحكم بمعنى القضاء والفصل في الخصومات والاختلاف بين الناس.
8 - الحكم بمعنى الإتقان والمنع من الفساد.
9 - الحكم بمعنى الإنابة والوضوح.
أنواع الحاكمية
كثير من الأصوليين يرون أن الحاكمية ليست مماثلة لمفهوم الحكومة الدينية، إذ إنه على الإنسان أن يطبق أحكام الله وشريعته، ويمتنع عن الفلسفة، التي يرون أن مبادئها ومنطلقاتها الأساسية مناقضة للشريعة، مؤكدين على ضرورة أن تكون الإنسانية محكومة بالمبادئ الأساسية للشريعة، وقد تم تقسيم الحاكمية إلى نوعين:
1 - الحاكمية التكوينية: وهي إرادة الله الكونية القدرية التي تتمثل في المشيئة العامة المحيطة بجميع الكائنات (القضاء والقدر).
2 - الحاكمية التشريعية: تلك التي تتعلق بإرادة الله الدينية، وتتمثل هذه الإرادة في تصور عقدي عن الخالق والمخلوق، والكون ونظرية الشريعة العامة.
وحدد الباحثين مصادر "الحاكمية" أنه يتم استخلاصها من مصادر ثلاثة، وفقا لدلالات لفظ الحكم في اللغة والأصول وهي:
1 - الكتب المنزلة.
2 - الأنبياء وسنتهم.
3 - العلم الذي ينقسم إلى: الاجتهاد لمعرفة حاكمية الله التشريعية والعلم الذي يهدف للتعرف على سنن الخالق في الأنفس (النفس والمجتمع).
الاستعمال الأول للمصطلح:
كان الاستعمال الأول لنظرية الحاكمية أثناء معركة صفين الشهيرة، بين الإمام علي بن أبي طالب، ومعاوية ابن أبي سفيان، وكان السبب في ظهور النظرية هو أن فريقاً من جيش علي رأى في رفع المصاحف من قبل جيش معاوية، دعوة للاحتكام إلى كتاب الله، بينما رأى علي كرم الله وجهه أن الأمر لا يعدو كونه خدعة الهدف، منها كسب الوقت والالتفاف على نتائج المعركة التي كانت في طريقها للحسم على يدي جيش علي.
لكن المناصرين لفكرة الاحتكام لكتاب الله، خيروا علياً بين النزول على رأيهم وبين الحرب، مدعين أن رفض الاحتكام لكتاب الله كفر، فما كان من الإمام علي إلا أن رد عليهم رده التاريخي: (هذا كتاب الله بين دفتي المصحف صامت لا ينطق، ولكن يتكلم به الرجال)، أي أن القرآن الكريم لا يمتلك آلية قراءة نفسه بنفسه، وإنما هو كلام الله الذي يخضع في النهاية للتفسيرات البشرية المختلفة طالما أن الوحي رفع بانتقال رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى.
ويمكن الاعتقاد أن رفع شعار الحاكمية لا يعني الاحتكام إلى الله سبحانه وتعالى، بقدر ما يعني الاحتكام إلى من يعتقد أنه صاحب الحق الحصري في تفسير كتاب الله؛ مما يمنحه الحق تلقائيا في تمثيل الإرادة الإلهية على الأرض.
مفهوم الجاهلية
المفهوم المقابل لمفهوم الحاكمية هو "المجتمع الجاهلي" وهو المصطلح المُستخدم في الفكر الإسلامي المتشدد، والجاهلية فيه هي حالة موضوعية تقوم متى توافرت مجموعة من السمات والخصائص في فرد أو مجتمع أو نظام؛ بصرف النظر عن مكانه أو زمانه، وهي عدم الاحتكام لما أنزل الله، وقد استخدم محمد بن عبد الوهاب (مؤسس الفكر الوهابي)المصطلح في رسالة صغيرة الحجم سماها مسائل الجاهلية، وليس أبو الأعلى المودودي كما هو شائع.
وحدد محمد بن عبد الوهاب عددا من مظاهر المجتمع الجاهلي في تلك الرسالة، حيث أكد أن المفهوم شمل عددا من مائة مسألة، كلها بمثابة بدع عقدية وعملية، وبدع عبادية، فضلاً عن تميزه بين مستويين من الجاهلية:
1 - جاهلية الفسوق والعصيان: وهي تلك التي لا تخرج صاحبها من الملة.
2 - جاهلية الاعتقاد: وهي تلك التي يخرج بها صاحبها من الملة؛ لأنه لا يصدر عن مجرد سلوك وإنما عن عقيدة تستحل ذلك السلوك.
الأمر الذي يجمع المستويين عدم انتفاء مسمى الإيمان عنهم، ويكون الحكم في هذه الحالة متعلقا بالدرجة لا بالطبيعة.
انحرافات التطبيق:
كما أكدنا سابقاً أن جميع حركات الإسلام السياسي قامت بشكل أساسي على مبدأ الحاكمية، الذي لا يعني الاحتكام إلى الله سبحانه وتعالى، بقدر ما يعني الاحتكام إلى من يعتقد الشخص أنه صاحب الحق الحصري في تفسير كتاب الله؛ مما يمنحه الحق تلقائيا، في تمثيل الإرادة الإلهية على الأرض.
ولا شك أن الفهم الخاطئ للنصوص الدينية هو السبب الأساسي في الكثير من انحرافات الجماعات الدينية، وانتشار الفكر المتطرف، الذي أدى في كثير من الأحيان إلى وقوع العديد من العمليات الإرهابية في العالم.
أ - السلفية الجهادية:
يعتبر مبدأ "الحاكمية" أحد أبرز المرتكزات الفكرية لتيار السلفية الجهادية بشكل كبير، ويعني أن تكون مرجعية التشريع الوحيدة في الدستور والقوانين هي الشريعة الإسلامية بما تحمله من مصادر أصلية وفرعية، وتعني أن الحكم والتشريع هو حق خالص للخالق، فأي إضافة مساوية أو إباحة للأخذ من مرجعية أخرى بجانب الشريعة الإسلامية فهو شرك وكفر بالله الخالق.
ب – الدعوة السلفية:
وفي خطوة أثارت دهشة العديد من المهتمين بحركات الإسلام السياسي، قبول الدعوة السلفية العمل السياسي والاشتراك في البرلمان وكتابة الدستور، وهو على عكس ما كانت تروج له خلال الفترة الماضية قبل ثورة يناير 2011.
الشيخ عبد المنعم الشحات، برر عدم مشاركة الدعوة السلفية في العملية السياسية قبل ثورة يناير 2011، وذلك في حوار مع موقع إسلام ويب 26 نوفمبر 2010، قائلاً: "نحن نرفض الديمقراطية ونرى أنها ليست هي الشورى الإسلامية، والشورى الإسلامية مقيدة بالوحي، فالمرجعية في الإسلام للوحي والشورى إنما تكون في كيفية تطبيقه، وأما "الديمقراطية" فالمرجعية فيها للشعب لا لأي شيء آخر، وإضافة قيد: "عدم مخالفة الشرع" للديمقراطية يجعلها شيئا آخر ليس هو الديمقراطية ولا هو الإسلام".
وتابع: "محاولة العدول عن وصف الولاية إلى وصف الوكالة؛ لتمرير ولاية المرأة والكافر لا يفيد، فكل الولايات وكالات عامة من حيثية قيام صاحبها بواجبات كفائية، وولايات من حيثية السلطات الممنوحة لصاحبها، فالإقرار بهذه الأفكار وغيرها من أجل المرور إلى المجالس النيابية ارتكاب لمنكر لدفع منكر يقوم به الغير، وهو ما لا يجوز بغض النظر أيهما أشد؛ لأنه لا يجوز أن أرتكب منكرًا لكي أنهى غيري عن ارتكاب منكر، ولو كان المنكر موضوع الإنكار أشد؛ فكيف إذا كان العكس؟! وكيف إذا كانت وسائل إنكار المنكر الشرعية متاحة واحتمالات الاستجابة التي تؤدي إلى زوال المنكر متساوية؟!
وأهم من ذلك أن إخواننا الذين يرون المشاركة في الانتخابات يطرحون سؤالاً غير مساو للواقع، فيقولون: احتمال هذه المفاسد من تطبيق الشريعة، بينما نجد أنهم بعد عدد من التجارب نزل سقف طموحاتهم إلى أن يكونوا جبهة معارضة قوية وفقط، ولا يخوضون الانتخابات إلا على 30% فقط من المقاعد لا ينجحون كلهم بطبيعة الحال.
فهل نتحمل كل هذه المفاسد الشرعية من أجل معارضة قوية لا تستطيع أن تحقق أي تقدم تشريعي.. وغاية ما يمكن تحقيقه مصالح خدمية جزئية على حساب الدعوة والتربية، والأهم أنه يكون على حساب تنازلات شرعية لا يملك أحد حق تقديمها.
وطرح الشيخ عبد المنعم الشحات سؤالاً في محاضرة له بعنوان: "لماذا نقاطع الانتخابات" على موقع أنا السلفي بتاريخ الأحد 31 أكتوبر 2010.
"هل يجوز استعمال الديمقراطية للحصول على معارضة مؤثرة داخل المجالس النيابية وتدافع عن هموم المسلمين ومشاكلهم الحياتية؛ مشكلات الأجور والأسعار، وتدافع عن قضايا الأمة، وتعرقل اتفاقيات الشراكة مع دول الكفر التي يكون فيها إجحاف بالدولة؟؟".
يقول الشيخ عبد المنعم الشحات: "من سأل هذا السؤال هو من ينافس على جميع المقاعد وعنده أمل أن يأخذ الأغلبية، ويكون من ضمن خُططه أنه إذا لم يحصل على الأغلبية ينسحب، فلن تكون الديمقراطية وسيلة لتطبيق الشرع إلا بالحصول على الأغلبية المطلقة".
من جانبه، يقول الشيخ محمد إسماعيل المقدم في محاضرة له بعنوان: "السيادة للقرآن لا للبرلمان": "خلاصة ما نستطيع أن نقوله فيما يتعلق بهذه القضية: نحن لا نعقد كثيراً من الأمل- في ضوء الأدلة الشرعية وفي ضوء تجارب الواقع في مصر أو في خارجها- على أن الديمقراطية تنفع الدعوة، بل هي سراب، والرصيد الحقيقي للدعوة هو أبناؤها الذين يعيشون لها ويعيشون بها ويحيون من أجلها، هذا هو الرصيد الحقيقي للدعوة الذي تنعقد عليه الآمال، أما أن المخالفين بمنتهى البساطة سوف يفسحون لنا الطريق ويقولون: تعالوا اقعدوا مكاننا، واحكموا بالشرع الشريف، فهذا نوع من السراب، وبعض الباحثين ألف كتاباً أسماه: سراب الديمقراطية، فهي سراب في الحقيقة، لكن مع ذلك نحن نقر بأن هناك اختلافاً بين العلماء المعاصرين، مناطه مدى ما يتحقق من مصالح أو يدفع".
لذلك يمكن القول: إن موافقة التيار السلفي على الدخول في العملية السياسية كان بمثابة الانقلاب على مبدأ الحاكمية، حيث شارك التيار في البرلمان الذي اعتبره في وقت سابق مشاركة لله في إحدى اختصاصاته التشريعية، فضلاً عن المشاركة في وضع الدستور، الذي يجعل السيادة للشعب، بحسب تبريراتهم سابقاً؛ لذلك كل ما هو مطلوب حالياً من التيار السلفي هو تقديم مراجعات فكرية لكل ما كان يعتقده خلال الفترة الماضية، وفقاً لمبدأ الحاكمية.
سلفية مطروح تعتزل العمل السياسي:
في تطور جديد يعكس مستقبل التيار السلفي في مصر، أصدرت الدعوة السلفية في محافظة (مطروح)، بيانًا رسميًا أعلنت فيه توقفها عن العمل السياسي، وعدم مشاركتها في البرلمان المقبل، والعودة إلى منابر الدعوة.
وحاولت سلفية مطروح، المنتمية تنظيمياً للمدرسة السلفية في الإسكندرية- أحد أكبر التيارات السلفية في مصر والتي أسست حزب "النور" ذراعاً سياسياً لها- بيان موقفها بالانسحاب من المشهد السياسي إلى العمل الدعوي، حيث أوضحت أن الواقع السياسي في الوقت الحالي بات لا يختلف عن واقع الحياة السياسية إبان فترة حكم الرئيس الأسبق مبارك، فضلاً عن كون البرلمان المُقبل لن يختلف عما كانت عليه برلمانات نظام مبارك.
واستخدمت سلفية مطروح نفس المصطلحات التي استخدمتها الدعوة السلفية لتبرير مشاركة حزب "النور" في مشهد عزل الرئيس الإخواني الأسبق محمد مرسي يوليو العام الماضي، بأنه جاء جلباً للمصالح ودرءاً للمفاسد، فحافظت بذلك على تيار الإسلام السياسي، وأبقت على وجوده في المشهد، حيث قالت سلفية مطروح: "انسحابنا من العمل السياسي جاء مراعاة لمصالح وقواعد شرعية، ودرءاً للمفاسد".
انتقادات لسوء فهم التعامل مع الحاكمية
يمكن للباحث أن يميز بين مجموعة من آليات التحيز التي استخدمت في التعامل مع المفهوم والنظر إليه في بعض الكتابات المعاصرة:
1 - تميزت بعدم الاستقصاء الكامل لدلالات المفهوم في الأصول وتحريره، وساد منطق الانتقاء لخدمة مصالح.
2 - الخلط بين الحاكمية بالمعنى السياسي أي نظام الحكم، وبين الحكم بما أنزل الله بمعنى اختصاص الله بالتحليل والتحريم في أمر العبادة والدين.
3 - الربط بين مفهوم الحاكمية وبين بعض الظروف والملابسات التاريخية كواقعة التحكيم بين علي ومعاوية ورفع الخوارج فيها شعار: "لا حكم إلا لله"، أو فكر بعض المفكرين الإسلاميين (المودودي وسيد قطب) أو فكر بعض الجماعات الإسلامية (التكفير والهجرة- الجهاد).