العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ

الخميس 15/أكتوبر/2015 - 01:41 م
طباعة العقل الفقهي السلفي
 
اسم الكتاب: السلطة في الإسلام
المؤلف: عبد الجواد ياسين
الناشر: المركز الثقافي العربي 2000
لقد أصبح "السلف"- وهو تعبير غامض يحتاج إلى الضبط والتحديد- مصدراً للتشريع بما يخالف الشريعة. ففعل "السلف" الذي وافق على الانقياد لأنظمة فاسدة يصبح "دليل" حكم بجواز ذلك الانقياد، وهذا نموذج لعلاقة التاريخ السياسي بتاريخ الفقه، نموذج ليس فقط لتنحية النص، بل لطريقة رسمه وإنشائه وتكوينه. فمنذ أن دونت النصوص، ولا سيما السنة، في كتب مستقلة كمتن سردية صرف، بغير إشارة إلى سياقات الواقع التي كانت تلابسها في لحظات التلقي الأولى، أو في ظروف التدوين المتأخرة، والعقل الإسلامي يتعاطى معها ككائنات تشريعية مطلقة وكاملة الكينونة، بمعزل عن العوامل الخارجية.
لقد قرأنا بعض الأحاديث في كتب السنة الصرف فلم نفهمها، فلما قرأناها في كتب التاريخ فهمناها، كما قرأنا أحاديث في كتب السنة الصرف فقبلناها، ثم قرأناها في كتب التاريخ فلم نقبلها.
لذلك ارتأينا القراءة في النص على ضوء التاريخ وفي التاريخ على ضوء النص. 
كان هذا تصدير المركز الثقافي العربي لكتاب عبد الجواد ياسين الذي بين أيدينا ونحاول عرض أهم ما جاء به في هذه المساحة.
ومؤلف الكتاب عبدالجواد ياسين، من مواليد 1954 وعمل قاضيًا، وتخرج من كلية الحقوق في جامعة القاهرة سنة 1976، وتدرج في سلك النيابة العامة والقضاء منذ تخرجه، وله مؤلفات في الفكر السياسي الإسلامي والفقه الدستوري، ومن مؤلفاته أيضًا كتاب "الدين والتدين"، وكتاب "مقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة".
والكتاب في جزئه الأول قراءة للسلطة على ضوء التاريخ، ناقش خلالها جدل النص مع الواقع التاريخي الذي فرضه الصراع السياسي بخلفياته الاجتماعية.
ويعد هذا، هو الجدل الذي انتهى بطغيان الواقع على النص، ليس فقط إلى درجة انفراد الواقع دون النص بإملاء النظرية السياسية، بل إلى درجة إنشاء النص، أي اختلافه كي يتوافق مع الواقع كما هو، أو كما تريد أن تقرأه كل فرقة من الفرق السياسية، وهو ما أسماه المؤلف ظاهرة "التنصيص السياسي" التي أدت إلى تديين الحوادث التاريخية اللاحقة على النص.
أما الجزء الثاني، فيقدم قراءة للسلطة في التاريخ، أي تاريخ النظرية السياسية، بالتوازي مع تاريخ الصراع السياسي موضوعًا في محيطه الاجتماعي العام، ويناقش من خلالها جدل النظرية السياسية مع الواقع السلفي، الذي نشأت فيه وصدرت عنه، وكيف كانت تتكون عبر مراحل تطورها كسلسلة من ردود الأفعال لتداعيات العلاقة بين أطراف الثالوث السياسي الأول المكون تقليديًّا من حكومة سنية، وتيارين معارضين (شيعة وخوارج).
النظريات الثلاث حول النصّ
أجاب المستشار عبد الجواد ياسين عن دواعي اختياره بحث مشكلة السلطة في الإسلام، ضمن دائرة التراث الفسيحة، بالقول: "أنا مهموم بفكرة الحرية على المستوى الإنساني، وأزعم أنّ الحرية جزء من الشقّ الغريزي للإنسان... الحرية شيء فطري طبيعي، وهي شقّ من تكوين الإنسان ذاته، ولكنّ الشق الفرديّ في العقل العربي المسلم مُغيَّب تاريخياً، ومضغوط داخل الشقّ الجماعي؛ لأنّ هناك تصوّراً جمعيّاً يفكّر عنه، ويتكلّم باسمه، ويلزمه، وأنت جزء من هذا السياق الكلّي، الذي لا تستطيع الخروج منه".
يظهر، إذاً، أنّ منطلق البحث كان ذاتياً لدى عبد الجواد، من خلال حرصه على تفكيك متوالية من الأسئلة حول الحرية، كجِبلّة فُطر عليها الإنسان ضمن ردهات الاستبداد، والإكراه، والطاعة، التي صيّرتها تجربة تاريخية تعيّنت، في فترة من الفترات، نصاً ملزماً لما بعدها من التجارب.
ولقد فرض الاهتمام بفكرة الحرية على الباحث مجابهة مشكلة السلطة داخل الدائرة السلفية النصية، معتمداً في قراءته المنهج النقدي التاريخي الشامل، المُستنبَط من منهج أهل الحديث (المعتزلة، ابن حزم، أهل الرأي) ليطرح نظرية حول النصّ قسّمها تباعاً إلى ثلاث نظريات هي: (نظرية زمنية النصّ)، و(نظرية النصّ الخالص)، و(نظرية نقد النصّ)
تقدّم هذه النظرية الجديدة قراءة نقدية تدعو إلى وقفات معرفية جديّة، ومراجعة شاملة للمنهج والتصوّر، الذي عمل به المسلمون في علم الأصول. وذلك بغية إعادة تشكيل وتصحيح بعض الإشكالات الأصولية، وتعيد توضيح وتحديد مفاهيم أساسية من قبيل مفهوم (الإسلام)، ومفهوم (السلف)، ومفهوم (النص)، ومفهوم (الإلزام)، ومفهوم (السنّة)، ومفهوم (الشكل). كما تُطرح، بالموازاة مع ذلك، مراجعة شاملة لتصوّرات خاطئة استقرّ عليها العقل المسلم في القرون العشرة الأخيرة، بسبب السلطة، أو نتاج قهرها، من خلال سؤال محوري تقوم عليه؛ مفاده "هل في الإسلام أحكام مُلزمة تعيّن شكل الحكومة؟ أو تشير إلى هيكل النظام السياسي في الدولة؟"
"إنّ السلطة لم تتشكّل من خلال النصّ، وإنّما تشكّلت من خلال التاريخ. ليس ذلك فحسب؛ بل إنّ تاريخ السلطة قد أدى دوراً في تشكيل النصّ"!، إنّ التحقُّق من فرضية من هذا القبيل من شأنه أن يهدَّ أركان بناء المنظومة السلفية كليّاً، وبحثاً عن إثبات هذه الفرضية، انضبط الكاتب، طيلة بحثه، لمنهج قراءة السلطة في النصّ على ضوء التاريخ، ثم قراءة السلطة في التاريخ على ضوء النصّ، بغية فهم إشكالية التنصيص السياسي واستيعابها سعياً لفرز انعكاساتها على (النصّ الخالص) بقصد تجاوزها.
لذلك، ما لم يفهم من النصّ المقروء في كتب السنّة الصرفة يصبح واضحاً جلياً، بهذا المنهج، عندما يُقرأ في سياق كتب التاريخ. وعمد الكاتب إلى تلخيص منهجه هذا في عبارة "لقد قرأنا بعض الأحاديث في كتب السنّة الصرفة، فلم نفهمها، فلمّا قرأناها في كتب التاريخ فهمناها، كما قرأنا أحاديث في كتب السنّة الصرفة فقبلناها، ثمّ قرأناها في كتب التاريخ فلم نقبلها".
لم تتوقف حفريات الباحث عند هذا المستوى في الاستقصاء عن سؤال السلطة في الإسلام؛ بل تعدّته لبحث مستويين أفقيين في التحليل؛ أحدهما مرتبط بالنصّ وإشكالاته، والآخر بالأدوات التي اشتغلت بالموازاة معه.
إشكالات النصّ
حظيت إشكالية النصّ بنصيب مهمّ من التحليل بدءاً من ميلاده المزدوج، والمقصود، هنا، بمصطلح الميلاد المزدوج للنصّ وجود لحظتين وُلد فيهما هذا الأخير، لحظة التلقي الأولى، ثمّ لحظة التدوين النهائي المنظّم، والتي جاءت بعد اللحظة الأولى بقرن، وانتهت بعد ذلك بقرن كذلك ليجد التساؤل عن انعكاس الفعل التاريخي طيلة هذه المدّة على الولادة الثانية للنصّ؛ أي ولادة التدوين مشروعيّته، فللفارق الزمني بين لحظة التنصيص، ولحظة التدوين، الأثر البالغ على التدوين، بعدما امتزج النصّ الخالص بالتعيّن التاريخي للتجربة.
في السياق نفسه، يثير الباحث إشكالية أخرى ذات صلة بالنصّ تتعلّق، كذلك، ببحث مسألة كيفية عمل الثابت في المتغيّر، فوظيفة النصّ، كما هو معلوم، العمل في الزمن المتغيّر؛ أي كيف يواجه النصّ امتداد الواقع في الزمان والمكان؟ حيث اعتُمِدت أقوال السلف حلّاً لإشكالية الزمن، لكنّها عمّقتها أكثر بعدما زاحمت الأحكام الفقهية (قول السلف) النصّ، وصارت ملزمة مثله. وهذا ما عبّر عنه الكاتب بشكل صريح: "تكمن المشكلة في تحميل هذا الفقه بمرجعيّة إلزامية ممتدة في الزمان، تمارس على واقع زمنيّ لاحق صلاحيةَ النصّ ومكانته؛ لأنّ الفقه، حينئذ، يكون قد تحوّل إلى نصّ" لتكون محصّلة هذا المستوى جملة من الأسئلة، التي تجعل العقل المسلم يتعايش مع التناقض، ويُرغَم على قبوله من أجل ضمان وحدة تلك المنظومة النصية، التي تختلُّ بمجرّد مساءلة بسيطة لأيّ منطلق من منطلقاتها.
الأدوات الموازية للنص
"إنّ النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث. وغالى بعض هؤلاء حتى قال: ولا بعشر معشارها. قالوا: فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، واحتجّ هذا القائل بأنّ النصوص متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع". الكلام، هنا، لابن القيّم في سعيه لإثبات الحاجة إلى آليات جديدة، غير أنّ المشكلة ليست في أدوات الاجتهاد (الإجماع، القياس...) في حدِّ ذاتها؛ بل في إلزام ما صدر عنها من جيل على الأجيال التي تليه، مُغلقاً، بذلك، باب الاجتهاد. لتكون النتيجة، إذاً، العودة إلى ما انتهيا إليه في المستوى الأوّل بخصوص إشكالات النصّ.
يُضاف إلى ذلك الدور الكبير للمصادر اللانصيّة في بلورة العديد من الرؤى التي اتّخذت، مع مرور الزمن، صفةَ النهائي والمطلق، دون اعتبار لحركيّة النصّ مع الواقع، الذي تبلور بصورة واضحة بمسألة تنجيم القرآن، ونزوله لعلاج الوقائع غير المتناهية، وارتباط العديد من الأحكام بصفتها الزمنية، مع بقاء الأصل وهو الدعوة إلى العقيدة، والأخلاق الكليّة كثوابت، واستمرار تأكيد هذين العنصرين في المرحلة المكيّة، والمرحلة المدنية.
لتكون خلاصة بحث هذين المستويين متوالية استلزامية يمكن صياغتها، اختصاراً، في صيغة رياضية وفق الشكل الآتي:
النصّ وحده يصلح للعصر = المنظومة السلفيّة المدوّنة غير نصيّة
العقل المسلم قائم على المنظومة السلفية = الفجوة حتمية بين العقل المسلم وعصره
 بين النص والتاريخ
فرضت خلاصات البحث على الكاتب تعميق حفريّاته على مستوى الجدل القائم بين النصّ والتاريخ، ما جعله يفرد اللبنة الثانية من مشروعه لنقد النظرية السياسية؛ ليتأسّس هذا النقد من مقدّمة أساسية تقوم على التمييز بين قراءة السلطة في النصّ، وبين قراءتها في التاريخ؛ أي الصراع السياسي في الواقع.
سيراً على منهج الكتاب الأوّل (العقل الفقهي السلفي). وبعد تحديده لمفهوم النظرية يطرح الكاتب الإشكالية الكبرى محطّ البحث؛ وهي أنّ النظرية السياسية، في الإسلام، نشأت لا عن اجتهاد تأمُّلي محايد في النصّ الشرعي، ولكن انعكاساً للواقع الذي فرضه الصراع السياسي على السلطة، منذ صدر الإسلام حتى الآن، فكانت النظرية السياسية نتاجاً مباشراً لهذا التاريخ السياسي، وليست نتاجاً للنصّ الشرعي.
لقد شغلت ظاهرة التنصيص السياسي؛ التي أدّت إلى تديين الحوادث التاريخية اللاحقة على زمن النص، الحيّزَ الأكبر من الكتاب، في محاولة جادّة من الباحث للمساهمة في الجدل المحتدم بقوّة داخل العقل السياسي الإسلامي المعاصر، بين مكوّناته السلفية العاجزة عن التعاطي مع مشكلات الواقع، أو الاستجابة لثقافة العصر، وبين مثيراته الحداثية؛ التي قد تسهم في التضخيم من إحساسه بالمأزق دون أن تسهم، ولو جزئياً، في إخراجه منه؛ وذلك بتسليطه الضوء، من خلال توظيف المنهج النقدي التاريخي الشامل، وقراءته الميكروسكوبية على جوانب مهملة سهواً، أو عمداً، بين أطراف هذا الجدل المحتدم.
عاد الكاتب إلى جينالوجيا النظرية السياسية لا في الدين الإسلامي، لكن في التاريخ الإسلامي، للوقوف عند الجذور الأولى لتشكُّل معالم هذه النظرية. فكشف، في بحثه، عن وجود ثلاث نظريات بدل نظرية واحدة، حسب موقع ودور كلّ جماعة/ مذهب في الصراع السياسي، منذ نهاية الحكم الرسولي.
- نظرية الخلافة السنيّة: التي منحت صلاحيّات مهولة للخليفة، وأسّست لنزعة أوتقراطية في السلطة، وهذا لم يكن سوى نقل للتجربة الأموية والعباسية.
- نظرية الإمامة الشيعية: ذات الصلاحيّات المطلقة للإمام، برؤية تيوقراطية كذلك، مع نزعة للمعارضة بحكم موقع الشيعة في الصراع السياسي.
- النظرية الإباضية: التي حظيت فيها الشورى بموقع مهمّ مقارنة مع نظريتي الخلافة والإمامة؛ وذلك بسبب سعيها لاسترجاع الحقبة الراشدية. غير أنّ تكريس الشورى، لدى الخوارج، لم يكن لصالح الأفراد (الشعب)؛ بل لصالح العلماء (أهل الحلِّ والعقد) قياساً على تجربة الخلافة الراشدة لتولية كلّ من عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان.
كشفت حفريات الكاتب بجلاء عن فاعلية الصراع السياسي كمحرّك أوّل لعملية التنصيص، وهو ما عبّر عنه بشكل دقيق ومركَّز في خاتمة كتابه (الدين والتدين)، حيث أرجع بزوغ ".. هذا النوع الفجّ من التنصيص (التنصيص السياسي)، في خضم المعركة بين التيار العام (السنّي لاحقاً)، وبين تيار التشيُّع، فقد استمرت هذه المعركة لزمن أطول، بالقياس بالمعركة مع الخوارج، وكان التشيُّع هو التيار الأكثر حاجة، ومن ثمّ طلباً للرواية، كما كان الأكثر جرأةً وإبداعاً في إسنادها إلى غير الرسول، وتمديدها رسمياً لما بعد وفاته بأكثر من قرنين.
في المقابل، كان الخوارج، بسبب البساطة المبدئيّة لطرحهم الديني، وارتباطه الوثيق ببيئة النصّ الأصلي؛ أقلّ حاجة، ومن ثمّ أقلّ طلباً للرواية. وقياساً بالتشيُّع اكتمل تبلور الفكر الخارجي سريعاً"
على الرغم من تعدّد النظريات السياسية، التي أفرزها التنصيص السياسي، والتي كانت انعكاساً واضحاً للتاريخ، فقد ظلّ سؤال الحرية الغائب الأكبر فيها، متجاهلاً ما تمّت مراكمته من إشارات إيجابية في سياسات أفلاطون وأرسطو، مع الوفاء، في المقابل، إلى روح الثقافة السياسية السائدة، التي لا يشكّل الاستبداد الأوتوقراطي مشكلة في وعيها الجمعي.
أثبت عبد الجواد ياسين، في كتابه، أنّ تاريخ الإسلام الفكري يمارس خصومة مع العقل (الجزء الأول)، وتاريخ الإسلام السياسي يمارس خصومة مع الحرية (الجزء الثاني). كما أثبت، كذلك، أنّ أهمّ المآزق، التي يتخبّط فيها العقل المسلم، اليوم، هي اعتقاد المسلمين أنّ ما ورثوه من فقه هو دين، بينما هو، في الحقيقة، ليس ديناً، وإنّما نمط من التديُّن تمّ توارثه وتصديره من الماضي إلى المستقبل، فأصبح المسلمون يتعاملون به، باعتباره ديناً مقدّساً ونصّاً منزّلاً، بينما هو، في حقيقته، تاريخ دين؛ أي مجرد تديُّن، وهذا ما سوف يكون تتّمة مشروعه في كتابه الجديد.

شارك