الأب الدكتور اثناسيوس حنين مستشار مطران أثينا للشئون العربية في حوار للبوابة
الثلاثاء 10/نوفمبر/2015 - 03:21 م
طباعة
* هذه هي أخطر أصوليات التاريخ.
* أسباب ثراء الكنيسة اليونانية في ظل فقر الدولة.
* كيف تلعب إسرائيل بعلماء اللاهوت الغربيين؟
الأب اثناسيوس حنين واحد من أهم علماء اللاهوت العرب في الفكر المسيحي حاليًا وهو من مواليد مدينة سمالوط بالمنيا وأول كاهن مصري ينضم للكنيسة اليونانية في ميناء بيرية باثينا.. حاصل على دكتوارة من جامعة ليموج بفرنسا عن أثر الثقافة الهيلينية على الشخصية المصرية، ويشغل حاليًا منصب مستشار المطران سيرافيم مطران أثينا للروم الأرثوذكس للشئون العربية، وفي زيارته الأخيرة للقاهرة كان لنا معه هذا الحوار.
* ما هي الأصولية؟ وهل الفكر المسيحي مسئول أيضًا عن نشأة الأصوليات في العالم؟
- نحن جميعا "وجوديًّا وروحيًّا" أصوليون، أي نبحث عن الأصالة والأصول والجذور، والدليل الأمثلة التراثية الشعبية (على الأصل دور)، وأيضًا (من فات قديمه تاه)، ولكن تاريخيًّا نحن لسنا أصوليين، بل تقدميين نسعى إلى الأمام انطلاقًا من الأصول. لعل السؤال يرمي إلى الأصولية الإسلامية، وهذه تاريخيًّا ظهرت مع ظهور الأصوليات الدينية في النصف الثاني من القرن العشرين، وأصبح لدى البشرية قوى جديدة لم تكن موضع اهتمام في شأن تأثيرها على قواعد الحرب الباردة، ولا أدل على ذلك من أن جيمي كارتر رئيس أمريكا أصدر قرارًا في يناير 1979 بتدعيم حركة طالبان عسكريًّا في مواجهة الغزو السوفيتي لأفغانستان، وكانت الحركة هي المعبرة عن الأصولية الإسلامية، إلا أنها لم تكن موضع دراسة من حيث الغاية التي تنشدها، وكان الرأي عندي أن هذه الغاية متبلورة في ضرورة الاستيلاء على كوكب الأرض لإحياء الخلافة الإسلامية، وهو الرأي الأساسي الذي اقتنع به كما قدمه الدكتور الفيلسوف مراد وهبة.. نأتي إلى النصف الثاني من السؤال وهو مسئولية الفكر المسيحي عن نشأة الأصوليات، ونحن نرى أن المسيحية الناشئة قد واجهت شراسة الأصولية اليهودية، والتي سعت بكل قواها إلى تفريغ الرسالة المسيحية من مضمونها وحشرها وحصرها في أنماط عبادة لا روح فيها ولا فكر وراءها ولا ثقافة تسندها وتؤازرها.. لعل أخطر أصوليات في التاريخ هي الأصوليات اليهودية، والتي أفرزت حركة (تهود) مسيحية كادت أن تنسف الأساس الفكري للمسيحية الناشئة، ولا نغالي إذا قلنا إنها ما زالت تنخر في عظام المسيحية، خاصة بعد أن اشتد ساعدها في الغرب المسيحي المتهود والمتصهين.
* كيف ترى اليمين المسيحي الغربي؟ وهل له آثار على الفكر المسيحي بالشرق؟
اليمين المسيحي الغربي هو نتاج الأصولية الدينية، ولكن في قالب سياسي وهو مثال فاضح على تسييس اللاهوت ولهوتة السياسة.. والمثال الواضح هو عائلة جان ماري لوبن في فرنسا، ولفتني أخيرًا مقال في جريدة الأخبار الصادرة يوم الأحد 25 أكتوبر 2015 والصفحة 11، وعنوانها خير دليل على الأصولية الثقافية (ماري لوبن تكره الإسلام والمسلمين) ويحاول المقال بكافة الوسائل إلصاق تهمة كراهية المسلمين بسيدة فرنسية متجاهلة كل ما قدمته فرنسا والفرنسيين للإسلام وللمسلمين.. هذا من ناحية ومن الناحية الأخرى لم تُبْدِ الكاتبة رأيًا في ظاهرة الصلاة وافتراش الحصر في مدن فرنسا، والتي هي سبب تدخل ماري لوبن.
فرنسا التي سال فيها دم المفكرين حبرًا لكي يقدموا للعالم نموذجًا تقدميًّا يحترم كل الثقافات إذا ما لبست الثوب الفرنسي الحضاري.. الأصولية الثقافية تكمن في صمت المثقفين المسلمين عن ظاهرة الصلاة في الشوارع في قلب عاصمة الثقافة الكونية، قد لا أوافق اليمين المسيحي-الغربي في منطلقاته اللاهوتية التي يجهلها هي لا تمثلني كلاهوتي، ولكني أوافق على رافض كل مظاهر نشر الأصوليات بالقوة واستعراض العضلات الأصولية في الشوارع ليترك لنا الأصوليون واحة ثقافية هادئة في العالم نشم فيها هواءً ثقافيًّا نظيفًا، بعد أن كدنا نختنق من التلوث الثقافي والعشوائيات الفكرية والأوبئة الحضارية!!! أما عن أثره على الفكر المسيحي الشرقي فهو أثر نفساني لا أكثر وخوف دفين في نفوس المسيحيين الشرقيين "ذو جذور تاريخية" من أن يفقد الغرب المسيحي هويته الثقافية وذاكرته اللاهوتية وفرادته اللغوية، كما سبق وفقد الكثيرون من مسيحيي الشرق هويتهم تحت ضربات الأصوليات الدينية والنزاعات المذهبية والغباءات السياسية. ربما يكون لهذا أثره على التشنج اللاهوتي الشرقي الحالي وخاصة في مصر في تعاطيه مع الأفكار الأخرى، وأيضًا ربما وبسبب من نضوب مَعين التراث، وإذا ما قرر المسيحيون الشرقيون الاستقواء فكريًّا على الأقل باليمين الغربي وحججه الأصولية الشرقي يلجأ اللاهوتيون الشرقيون إلى نقل العراك اللاهوتي الغربي مع الأصوليات اليهودية والإسلامية على أرض غير أرضها، وملعب غير ملعبها، وهنا يتغرب المسيحيون الشرقيون مرة عن جذورهم الفكرية التقدمية والأصلية بل المتأصلة في التاريخ الحضاري والروحي للشرق، ومرة عن إخوة لهم مسيحيين في الغرب؛ بسبب تغربهم وفقدانهم لفرادتهم الشرقية، ومرات عن جيران لهم في الوطن صنعوا معًا ثقافة التنوير، وباتوا ينظرون إليهم نظرة توجس من أنهم خواجات وفلول استعمارية وشركاء غير فاعلين في ثقافة الواقع .
* هل تجد مستقبلًا للمسيحية الصهيونية؟ أما أن دورها انتهى عند قيام إسرائيل؟
- "المسيحية المتصهينة" وهذا تعبير أفضل إذا سمحت لي- هي كما سبق وأشرنا ظاهرة دينية قديمة وتيار لاهوتي قاومه وفَنَّدَه علماء المسيحية الناشئة، ومنهم يهود متنصرون (من بولس الرسول إلى العلماء الألمان اليهود الذين تنصروا وصاروا من أكابر اللاهوت المعاصر وخاصة لاهوت العهد القديم)، وهى أي المسيحية الصهيونية لبست ثوبًا سياسيًّا في العصور الحديثة، ولكن وهذا ما يعنيني نلاحظ عودة هذا التيار وبقوة في الخطاب المسيحي الأمريكي، خاصة والدليل هو التركيز على القراءة الحرفية والسطحية للعهد القديم، وسفر الرؤيا بعد عزلهم بشكل أصولي متطرف عن سياقهم التاريخي وإطارهم الثقافي وقصدهم الروحي وتفسيرات علماء الكلام المسيحيين، أقصد آباء الكنيسة وقتها، وهذا التيار المسيحي المتصهين والمتهود عبر إلى الفكر المسيحي الشرقي، وربما هذا أدى إلى الخلط الكبير في أذهان المسيحيين الشرقيين بين إسرائيل الكتاب المقدس ويهود العهد القديم، وهذه الحفنة من المغتصبين للأرض والعرض وأزيد، ربما هذا أدى إلى تهود العقل المسيحي العربي بالرغم من أنه يتغنى بكره إسرائيل مع شعبان عبد الرحيم، ولكنه يتشفى باطنيًّا، والدليل خلط لاهوت السجود في الأراضي المقدسة، والذي هو حق مقدس وواجب لكل مسيحي مستقيم الرأي وبين سياسة (أنا باكره سياسات إسرائيل) والتي هي واجب على كل مواطن صادق بالعكس إسرائيل الآن تغازل اللاهوتيين الأمريكان والغربيين، وتقدم لهم التسهيلات لدراسة أركيولوجيا الأراضي المقدسة، مما يغني خطابهم الديني ورصيدها الأصولي في ظل الغياب المأساوي للمسيحية الشرقية، إلا إذا اعتبرنا أن أصوليات النواح والبكاء والشجب من صالونات أوروبا والقاهرة وبيروت المكيفة هو حضور لاهوتي لا يمكن تحجيم الغزو الثقافي المتصهين إلا بالتعب والدراسة واستعمال نفس سلاح العدو الثقافي والعلمي والتقني، وهذا دور يقع على عاتق الجميع وبالأخص علماء المسيحية الشرقيين والوطنيين فعلًا.
* ما هو علم الآباء؟ وهل يمكن نستفيد منه في الثقافة العامة؟
- علم الآباء باليونانية والقبطية (باترولوجيا) وهي كمعظم الكلمات اليونانية تتكون من مقطعين (باتير) أي "أب" والمقطع الثاني (لوغوس) أي "حديث" في الآباء، وهي فعلًا تقابل علم الكلام عند العرب وهم العلماء الذين يسميهم المسيحيون (آباء).
ودور علماء اللاهوت أي الآباء في تاريخ المسيحية هو دور ثقافي رائد، ولقد حقق الآباء تقدمًا يذهل العلماء اليوم في تحقيق التثاقف بين الوحي المسيحي وثقافات الشعوب؛ ولهذا لم يعش المسيحيون صدامًا مع الثقافات ولا رفضًا للفكر البشري ولا تقزيمًا للإنسان وإنجازاته الفنية والأدبية والعلمية والثقافية؛ لأن الآباء- وهذا ما درسناه في السوربون- قد نجحوا في عقد قران شرعي بين وحي السماء وثقافات الناس. وثقافات الناس هنا هي الفلسفة الهيلينية بكل جبروتها وعنادها وشموخها، وإذا أردنا تخليص المسيحية من التصهين والتهود لا بد من أن ندرس كيف خلص الآباء الفكر المسيحي الناشئ من التفذلك، ووضعوه في إطار ثقافي وحواري وما أروع حضور هذا الفكر في البنية الثقافية للشرقيين، خاصة في بلادنا مصر سوف يكون له أثر كبير في إغناء الثقافة العامة. ولعلك تذكر أن العودة إلى التراث اليوناني واللاتيني اللغوي والفلسفي والثقافي هي دعوة الأستاذ الدكتور طه حسين في مشروع كتابه المشروع مستقبل الثقافة في مصر .
* لماذا لا يدرس علم اللاهوت في الجامعات العامة وأقسام الفلسفة كمقابل لعلم الكلام؟
- لقد نادينا وننادي، ولقد كتبت شخصيًّا مقالًا عن (نظرات يونانية في الهوية المصرية)، وكان بمناسبة عودة الحرارة للعلاقات بين جناحي الثقافة الكونية اليونان ومصر، وأثنيت على دعوة سيادة رئيس مصر عبد الفتاح السيسي بالإصلاح الديني، وقلت: إن الإصلاح سيأتي من إدخال علوم اللاهوت إلى الجامعات وخضوعها لتقنيات العلوم الحديثة وتمصيرها وشرقنتها، بعد أن طال تغربها، ولكن قبل أن تسأل الدولة: هل تملك يا صديقي أبو الفوارس علماء وكوادر تقدر أن تدرس اللاهوت في الجامعات المصرية؟ هذه ستكون نقلة حضارية كبيرة وحتى لا أكون نظريًّا أنا أضع إمكانياتي الضعيفة تحت تصرفكم، وأعرف علماء من كل بقاع الأرض يتمنون هذا اللحظة، ووقتها ستكون أفضل رسالة للعالم عن مصر الحاضنة للاهوت، وكما ولدته في صحاريها وإسكندريتها لا بد أن تربيه وتكبره وتخاويه، وقتها سيخرج علم اللاهوت من سجن حارة النصارى، وسيقف على منارة مصر، وأعتقد أن هذا مطلب عادل؛ لأنه ليس بالحوائط وحدها سيحيا المسيحيون في مصر.
* لماذا نجح لاهوت التحرير في الغرب ولم ينجح في الشرق؟
- سؤال رائع ولا أدعي القدرة على الإجابة في هذه العجالة، ولكني أشعر أن الأرضية الغربية كانت مهيأة لهذا اللون من اللاهوت، بمعنى أن الإنسان الغربي كان ينمو ثقافيًّا وسياسيًّا ولاهوتيًّا، ويميز بين الغث والثمين، ويمارس النقد الذاتي والموضوعي، ويحيا في مناخ يتفاعل ويتمخض ويتطلع ويتمرد، ويراقب رجال الكنيسة وأحوال الوطن، وبكلام آخر: لقد وجدت ثيؤولوجيا التحرير انثروبولوجيا ناضجة على الأرض، بينما الإنسان الشرقي "الغائب والمغيب عن صنع القرار اللاهوتي" لم يكن مهيأً لهذا اللون، وربما لو صارت محاولة جادة من المفكرين المسيحيين الشرقيين لهضم لاهوت التحرير الغربي ونقله في قوالب شرقية لاهوتية تحريرية حقيقية، أقول: ربما كان يمكن الاستفادة.. هذا لا يلغي المحاولات الجيدة لشرح هذا اللاهوت على يد علماء شرقيين خاصة في لبنان ومصر.
* كيف تشخص انهيار الثقافة القبطية والتنوير بينهم؟
- اسمح لي التحفظ على تعبير "انهيار"؛ الثقافات لا تنهار ولكن يتم طمرها وردمها تحت ركامات عصور مختلفة في ظروفها، والثقافة القبطية إذا قبلنا تعبير أنها انهارت فهي انهارت وقتما انفصلت عن ثقافة مصر وتاريخ مصر، وأقامت مع ثقافة مصر معركة وهمية قام بها بعض رجال الدين الأصوليون (المسيحيون هذه المرة)، واتهموا هذا التراث المصري العريق بالصنمية والوثنية. هذا التراث الذي شكل شخصية نبي عظيم مثل موسى حسب شهادة سفر الأعمال 7 العدد 22 كيف يصير بين ليلة وضحاها وثنيًّا وصنميًّا، ويسير الفكر المسيحي المصري بدونه بل وبعداوة معه، ربما يفسر هذا أحد أسباب فشل الخطاب المسيحي المصري أن يصير خطابًا لاهوتيًّا ووطنيًّا للجميع بعيدًا عن حفلات المجاملات الشكلية والشعارات الجوفاء!!! ولم تُقِم المسيحية المصرية مع الفكر المصري العريق حوارًا كما فعل اليونانيون مع ماضيهم الفلسفي والوثني، مع أني لا أقبل هذا التعبير؛ لأنه- وحسب بولس- لا يوجد وثن في العالم.. الوثن هو في الضمير والعقل؛ ولهذا كله أنا لا أميل لاستعمال تعبير قبطي بل مصري، وأزمع أن تعبير "قبطي" هو صيغة التصغير للكلمة اليونانية (ايجيبتيوس) أي مصري. العربي لم يخطئ لغويا "كما يقال"، حينما أطلق لقب قبطي على المصري، فقد كان هناك علماء لغة أكابر، بل هو أراد إشعار القبطي بأنه أقلية لغةً وثقافةً وسياسةً واسمًا على مسمى، وهذا هو ما حدث بعد انفصال مصر العنيف وغير المبرر وغير المدروس عن بيزنطية، وصيرورة الأقباط أقلية مغلوبة على أمرها ومعزولة عن الثقافة الكونية وقتها، ثم جاءت مرحلة التنازلات تارة عن اللغة، وتارة أخرى عن الفكر وتارة عن الهوية اللاهوتية، حتى استعرب القبط ومنهم من تأسلم فكرًا إن لم يكن فعلًا! لا ينكر عاقل أن هناك جهدًا معاصرًا في الكنيسة المصرية لاسترداد الهوية المصرية المفقودة والجو السياسي والثقافي في بلادي يتمخض ويئن متوقعًا استعلان الثقافة القبطية في ثوبها المصري القشيب، وهذا يتطلب جهدًا علميًّا وأكاديميًّا وتخصصات وحرية في البحث ونرجو لها النجاح.
* تخدم في كنيسة الروم الأرثوذكس. من هم الروم الأرثوذكس؟ وما هي عقيدتهم وأفكارهم؟
- لغويًّا الاسم "رووم" كما ورد في المصادر والمراجع العربية هو اسم عربي الأصل للاسم الأعجمي "الرومان"، والروم عند العرب قبل الإسلام وبعده هم الرومان وخلفاؤهم البيزنطيون، والبيزنطيون هم الرومان؛ لأن الاسم الدولة البيزنطية أطلق على الامبراطورية الشرقية الرومانية، والتي شملت الشعوب التي كانت تمثل العالم المتحضر وقتها، بغض النظر عن انتمائهم القومي (راجع الدراسة الرائعة لسيادة المطران نقولامتروبوليت طنطا للروم الأرثوذكس في التقويم الكنسي لعام 2012 صفحة 84-97 .
عقيدتهم هي عقيدة المجامع المسكونية السبعة وهم يفتخرون بأنهم حافظوا على الإيمان المسيحي من القرن الأول إلى اليوم، بينما توقف الكثيرون من المسيحيين في الطريق، وخاصة بعد المجمع المسكوني الرابع في 451 ميلادية وفي القرن الحادي العشر الميلادي وفي القرن السابع عشر.. القاعدة الأساسية في لاهوتهم تتركز على هاجسهم الكبير المتعلق بخلاص الإنسان وعودته إلى إنسانيته الأولى ولهذا يؤمنون بالثيئوسيس أي أن الإنسان في المسيح مدعوٌّ أن يشارك الله في لاهوته من خلال ناسوت المسيح بدون أن يصير الإنسان إلهًا بالجوهر، بل إنسانًا حقيقيًّا؛ لأنهم يؤمنون أنه في المسيح تم إيجاد اللاهوت كاملًا والناسوت كاملًا في اتحاد في شخص الابن الوحيد.. الإنسان يقبل الشركة في المسيح الإنسان لكيلا يشارك المسيح الإنسان في شركته مع الأب أي اللاهوت، بدون أن يتحول الإنسان إلى إله، بل هو يتأله بالنعمة هذه عقيدة أساسية وأساس كل العقائد عند الروم وبدونها هناك مخاطر كبيرة على كل البنيان الروحي واللاهوتي للكنيسة، ولا يوجد مبرر لمقاومتها بحجج غير لاهوتية وفذلكات نفسانية ومحاذير لا توجد، بل دراستها بعمق والتمعن في بركاتها وآثارها الروحية والانثروبولوجية والثقافية.. نحن شركاء المسيح في كل شيء، أو لسنا شركاء في شيء، ويصير تأنسن المسيح وتجسده بلا قيمة وجودية للإنسان وعبارة عن شوية بركات يعطيها الهيولية والغامضة لا هوية لها ثقافية ولا سند لاهوتي، والله يعطيها في سخائه للجميع إذًا أين ميزات المؤمن؟ إن رفض هذه العقيدة هو تبديد لثروة الكنيسة وللميراث الإنساني، يعاقب عليه القانون الإنساني والروحي والضمير المسيحي، وهنا قيمة الكنيسة وأسرار الكنيسة لا يقبل الروم علاقة مع الله لفظية وكلامية ونظرية، بل هي علاقة وجودية وكيانية ومصيرية من خلال يسوع المسيح، هذا هو لاهوت النعمة والخلاص؛ ولهذا فكل شيء عندهم هو خرستولوجي أي متمركز حول شخص السيد وحتى الكهنوت عندهم يأخذ قيمته من كهنوت السيد المسيح، والقارئ المصري يعرف كتابات الروم من خلال كتابات المطران جورج خضر ومنشورات النور وإصدارات جامعة البلمند الأرثوذكسية الرومية في لبنان، والتي بدأت في الانتشار في مصر ويشكل إقبال الشباب والخدام القبط عليها بادرة خير.
* هل بالفعل كنيسة اليونان أغنى من دولتها؟
- هذا صحيح تاريخيًّا وليس فعليًّا، بمعنى أن دولة اليونان تأسست عام 1821 بعد جلاء الأتراك العثمانيين عنها، وذلك بعد احتلال دامٍ ومُوجِع دَامَ 400 سنة لم يتعلم فيها اليونانيون كلمة تركية، وحافظوا على هويتهم من الانهيار، وثقافتهم من الاندثار عن طريق ما يعرف بالمدارس الخفية في الجبال، وكان للكنيسة ورجالها ونسائها الدور الفاعل والفعال في هذا النهضة الثقافية.. نأتي إلى الناحية المالية حدث أن المحتل التركي قد أذاق اليونانيين الأمَرَّيْن، وعندنا سنكسار خاص بشهداء العهد التركي، وكانت مصادرة الأراضي والاستيلاء على الثروات وسبي النساء، وتجنيد الصبية لخدمة بلاط الباشاوات هي هواية العثمانيين، ولم يكن أمام الشعب المستعبد إلا إعطاء ثرواته للكنيسة، ووقف أراضيه للكنيسة، والتي كان لها حصانة ما عند الباب العالي، وحدث حينما قام اليونانيون بثورتهم واستقلت اليونان وبدأ تكوين الدولة الحديثة.. لم تكن الدولة تملك دراخمة واحدة، وهنا قدمت الكنيسة أوقافها كنواة لتكوين الدولة، على أن تقوم الدولة بدفع رواتب كل طبقات رجال الإكليروس، وهذا سارٍ إلى اليوم.. الكاهن اليوناني ليس موظفًا عند الدولة، بل الدولة هي خادمة الكنيسة وكهنوتها، ولولا الكنيسة ما بقيت اليونان كيانًا حيًّا وفاعلًا.. الكنيسة اليونانية غنية بشعبها، ولعلكم تذكرون حفل تجديد كنيسة مارجرجس اليونانية وديرها في مصر القديمة، ولقد تمت بفضل عطاء رجل أعمال يوناني قدم 5 مليون يورو لتجديد هذا الصرح الحضاري والثقافي واللاهوتي، الشيء اللافت أن اليونانيين يتبرعون لمشاريع ثقافية وخيرية وعلمية وصحية محددة، ويتابعون تأسيسها وتكتب لكنيسة أسماء الذين يقدمون هذه العطايا.
* كيف ترى دور اليونان في حل أزمة اللاجئين؟
- تذكرني بنكتة انتشرت في أثينا أخيرًا (دخل اثنان من المهاجرين إلى حافلة يونانية ونظرا حولهما وسأل أحدهما الثاني مستنكرًا: هم اليونانيون كثروا كده ليه في البلد!)، اليونان دولة صغيرة ولكنها مضيافة وهي عضو في الأسرة الأوربية وتتحمل العبء الأكبر في أزمة الهجرة، وكنا وحدنا في بداية الأزمة إلى أن أدرك الأوروبيون خطورة الموقف يوجد في اليونان 5 مليون مهاجر معظمهم غير شرعي، ونساعد المهاجرين بكافة الطرق، وكنا أول من نادى بضرورة إعطائهم أوراق ثبوتية لكي يذهبوا إلى حيث يريدون، والكنائس تعمل في استقبالهم ورعايتهم وإرشادهم وإطعامهم وكسوتهم.
* كيف ترى مستقبل الحوار الإسلامي- المسيحي؟ ولماذا لا نجد حصادًا له على أرض الواقع؟
- الحوار لغةً كلمة يونانية رائعة (ذيالوغوس) أي اللقاء من خلال اللوغوس والفكر والثقافة، وبالتالي هو لقاء نخبوي بين العلماء على أن يتم وضعه في الخلاط المناسب وتقديمه للناس شرابًا هنيًّا ينشئ ثقافة قبول الآخر والسعادة باختلافه؛ لأن الاختلاف هنا سبب ثراء للتجربة الإنسانية.. هذا يحتاج إلى نسك فكري وتجرد علمي وفقر اختياري واتحاد باللوغوس الكوني أي فكر الكون وسبب وجوده.. الحوار القائم جيد، ويمارس دور رجل الإطفاء في الحرائق الطائفية مرة، ودور التأبين والتعزية في الضراء ودور المهنئين في السراء، هذا حوار اجتماعي تفرضه ظروف الجيرة والناس في مصر مسيحيين ومسلمين يضحكون على هذا الحوار المظاهر؛ لأنهم في حوار يومي وصراع مشترك مع لقمة العيش وقضايا الحياة، والدليل الانتخابات الأخيرة.. الكثيرون من المسلمين اختاروا أقباطًا، والكثيرون من الأقباط اختاروا مسلمين، أليس هذا حوارًا يوميًّا الناس تحتاج من النخبة إلى توثيق علمي وتاريخي ولاهوتي لفقه الحوار ويصير سلوكًا، ويتعلمه التلاميذ في المدارس والطلبة في الجامعة ويوزع كتبًا مجانًا أي يصير ثروة ثقافية.. وأن يتربى الجميع على أن الأرض للجميع والثقافة للجميع، ولا يوجد محظورات وممنوعات وقوانين للعيب؛ لأن العيب الوحيد هو الجهل بجيراني وثقافة معاداتهم... "مرة أمي بدأ القرأن يقرأ في التليفزيون بصوت عالي فقام أخوي بعصبية يقفل التليفزيون جريت أمي وعنفته وقالت له عيب جيراننا المسلمين يزعلوا. أمي عايزة جارتها المسلمة تسمع القرآن من بيتنا".. الآن ما نشهده على الساحة المصرية هو انقطاع شعبي لكل حوار.. المسيحي يسمع قداسًا على الموبايل.. المسلم يسمع قرآنًا.. الفضائيات الدينية مسيحية وإسلامية في سباق محموم وخطاب غير حواري، نحن نتكلم نحن نسمع، كأنه لا يوجد في البلد غيرنا! الكارثة هي أن هذه الممارسسات تقطع أواصل ما تبقى من حوار الجيران الصامت في الضراء والصاخب في السراء. والضحية الناس وأمهات "كتار زي أمي".