بطريرك العراق: هذه القواعد الفاصلة بين الكنيسة والسياسة
الخميس 17/مارس/2016 - 12:23 م
طباعة
هناك جدلية مستمرة حول عمل الكنيسة في المجالات السياسية الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات من هنا تأتي أهمية الرؤية التي طرحها بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق البطريرك روفائيل ساكو كدراسة وضع فيها مبادئ مهمة حول الكنيسة والسياسة خاصة أن هذه الرؤية من موقع بطريركي مسئول وجاء فيها:
من وحي بشرى الإنجيل
المسيحية بشرى فرح لحياة الإنسان كابنٍ لله وأخٍ للجميع "أنتم كلكم اخوة" (متى23/8). وكان كلّ هم يسوع ان يكوّن جماعة-كنيسة-أُخُوّة تعيش في المحبّة والسعادة والكرامة: "وكان جميع الذين آمنوا جماعة واحدة" (2/44-46). هذه البشرى لا تقتصر على مجال واحد، بل تشمل جميع مستويات الحياة حتى السياسية منها. ليس في تعليم يسوع، ثنائية تناقض، انه يصرح: "اتيت لتكون الحياة للناس وبوفرة" (يوحنا10/10). بل ليسوع مواقف قاسية تجاه السياسيين، لذلك للكنيسة كلمة وموقف للدفاع عن المظلومين والفقراء وترسيخ العدالة الاجتماعية، ولها دور هام في إحياء الأفكار الوطنية ودفع التطور والتوازن. يكفي مراجعة الرسائل العامة للباباوات وخطاباتهم ومواقفهم ومنهم البابا الرائع فرنسيس.
أين يكمن الفساد؟
بعد ما سبق ذكره، للمسئول الكنسي الأعلى كلمته وموقفه ومن باب أولى في أوقات الازمات، وذلك للدفاع عن الشعب وحقوقه. ولكن أين يكمن الفساد؟
يكمن الفساد والخروج عن الموقف الانجيلي المبدئي، عندما تنتقل الكنيسة إلى سدّة الحكم وتتحول إلى قوّة سياسية وعسكرية تحكم باسم الدين كوحدة مشتركة كما الحال اليوم في بعض دول منطقتنا، وكما حصل للمسيحية مع الامبراطور قسطنطين في مرسوم ميلانو سنة 313 وإعلان المسيحية دينًا للإمبراطورية وسنّ هو وخلفاؤه قوانين وسياسات بهذا الاتجاه وترأس هو بنفسه مجمع نيقية عام 325، وفقدت الكنيسة بالتالي زخمها النبوي- التلقائي وحريتها مما دفع ببعض المؤمنين إلى الهروب إلى الدير- الصحراء أو الجبال، وما درج على تسميته ( الهروب من العالم fuga del mondo) لعيش جذرية الانجيل بعيدا عن صخب المملكة وامتيازاتها وفسادها، وغدت اديارهم مع الزمن مراكز ثقافية وعلمية.
يعود الفصل بين الدين والسياسة إلى عصر النهضة من خلال:
- أصوات نبوية كنسية صارخة في البرية، كان من شأنها اعداد الكنيسة إلى حركة اصلاح نبوية ضمن المجمعية الاسقفية، لفصل الدين عن السياسة بنحو سلمي منسجم، لولا تشابكات ظروف وتعقيدات تاريخية أدت إلى نحو انقسامي، على اثر ما عرف بحركة الاصلاح اللوثري، لمارتن لوثر سنة 1517.
- وكذلك اندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789 والتي قامت تحت شعار: حقوق الإنسان وفصل الدين عن الدولة.
ما لقيصر وما لله: الدين والدولة مجالان متميزان.
أجل رسالة الدين رسالة روحية وإنسانية تعارض المظالم، أما مجال الدولة فهو إدارة شئون السياسة والأحزاب وتطبيق النظام، وعليه فالشأن السياسي مستقل عن رسالة الكنيسة لأن الانجيل يعلن صراحة: "أعْطُوُا إِذَاً مَا لِقَيْصَرْ لِقَيْصَرْ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ" (لوقا 20/25)، لكن هذا لا يعني إقصاء رأي الهيراركية الكنسية من السياسة. والشأن العام: فمن واجب الكنيسة في المجال الاجتماعي ألا يقتصر نشاطها على الأعمال الخيرية للمعوزين، بل من صميم رسالتها أن تعارض القوانين التي تتعارض مع حقوق الإنسان، وأن تدعم القوانين التي تعزز العدالة الاجتماعية والتنمية والقضاء على الفقر والجهل والتمييز العنصري، وهكذا قدمت المسيحية، عبر الأجيال، شهداء قديسين من مختلف المراتب الكنسية، نذكر على سبيل المثال أسقف السلفادور – أمريكا اللاتينية أوسكار روميرو.
موقف الكنيسة الكلدانية
في زمن يشهد حرية التعبير والكتابة الإلكترونية بين الغث والسمين، وليس ثمة طائل للردود والتعقيب، لكنه كان لا بدّ أن نؤكد بأن الكنيسة الكلدانية تحافظ على استقلاليتها، لا تدعم الأحزاب أو تعارضها. ولا يستجدّ اهتمام بما يشيّعه البعض وهو عار عن الصحة!
أجل قد تنتقد البطريركية أداء وتبعية البعض، لكنها أيضًا لا تريد أن تكون قوة ومرجعية سياسية. والبطريرك لا يسعى أبدًا ليكون زعيمًا قوميًّا للكلدان ولا قطبًا سياسيًّا للمسيحيين. يكفيه ما له من مسئوليات وأعباء، لكن من واجبه كأب وراعٍ وفي ظل البيئة السياسية والاجتماعية والأمنية الحالية على إثر الصراعات المتعددة وظهور داعش وتداعياته، أن يدافع مثل معلمه المسيح عن المظلومين والمقهورين والمهجرين والفقراء، وأن يدعو إلى تحقيق المصالحة الوطنية والشراكة الفعلية لبناء دولة قوانين عادلة ومؤسسات، ووطن شامل يحتضن الكل على حدّ سواء. من هذا المنطلق بعينه، وبغية أن "نبقى معًا" دعا إلى تكوين مرجعية سياسية مسيحية من نخب وأحزاب وتنظيمات ذات اقتدار لتكون الصوت السياسي للدفاع عن حقوق المسيحيين الاجتماعية والسياسية الكاملة، وتقوم بدور وطني رائد بالتعاون مع المرجعيات السياسية الاخرى. وهذا المنطلق بحد ذاته، يبين ضحالة ما يشاع من آراء غير واقعية، والعقبة أمام تشكيل كذا هيئة هو التشدد القومي والطائفي!
كذلك الأمر فيما يخص الرابطة الكلدانية التي أثارت ضجة كبيرة وكأن المسيحيين متحدون وهي تقسمهم. الرابطة مؤسسة علمانية مدنية تسعى لربط العائلات الكلدانية في العالم ببعضها في المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي خصوصًا أن الكلدان يفتقرون إلى تنظيمات من هذا النوع. مبادرة تأسيس الرابطة جاءت من قبل البطريركية، لكن من دون أن تكون تنظيمًا حزبيًا أو سياسيًّا ولا أن تكون للبطريركية وصاية عليها. من حق البطريركية أن تفكر وتخطط وتؤسس جماعات تعمل لخير الناس، والساحة المسيحية حافلة بالأمثلة: هكذا تفعل جماعة سانت إيجيديو San Egidio أو "شركة وتحريرcommunione e liberazione، وحركات العمل الكاثوليكي. إنها مجموعات علمانية تشجع الحوار وتدفع من اجل تحقيق العدالة وتدافع عن المظلومين.
والبطريرك من جانبه سعى بموقف مبدئي للقيام بما يمليه عليه ضميره ومسئوليته: طالب بنظام ديمقراطي يقوم على مبدأ المواطنة لجميع العراقيين؛ ومواقفه الوطنية حسّنت الصورة العامة للكنيسة في نظر العراقيين؛ عارض بقوة قانون البطاقة الموحدة، وطالب بتحرير المناطق المحتلة وعودة المهجرين قسرًا إلى بيوتهم وبلداتهم، وطالب بإعادة بيوت المسيحيين المغتصبة، وحذر من مخاطر تشكيل فصائل مسلحة مسيحية منعزلة خشية على حياتهم، ونصح بأن يشاركوا في الجيش النظامي الرسمي والبيشمركة.
لا غرو أن للناس آراء وتطلعات مختلفة ومتباينة، وترضية الناس غاية تدرك، إلا أننا نستطيع أن نخلص إلى القول بأن المرجعية المسيحية أن تشكلت والرابطة الكلدانية ستخففان من وطأة عمل البطريركية لمتابعة تفاصيل شئون المسيحيين اليومية!