عن الدار المصرية اللبنانية وفي ثلاثِمِئة وسبع عشرة صفحةً من القطع المتوسط، صدر كتاب "نواب الله" للكاتب والشاعر "أحمد الشهاوي"، الذي يخوض فيه غمارًا مُختلفًا عن الشعرِ وإن لم يخلُ من هذا المنبع الذي يرتبطُ يقينًا بكينونتِه كإنسانٍ في المقامِ الأولِ، وما لهذه الكينونة من ملامحَ جوهرية سبغها اللهُ في عبادِه، حيثُ نعمةُ العقل لا تفتأ تمتزجُ بالحسِ وصولًا إلى نهمِ المعرفةِ، في ظل موكبِ الخيالِ الذي يواصلُ المسير، ومن ثمّ الخلق المجازي، فالإبداع.. ليأتيَ الكتابُ مواكبًا لحدَثٍ وحديثٍ لا يزالان عالقيْن بجادةِ طريق الواقعِ المعيش، خصوصًا بعد تفاقمِ نكباتِ هذا الواقعِ عبر صراعاتِ السياسة في أحطِّ صورِها، تلك التي رسّخت منذ قديم الأزل للتجارةِ بالدين رغمّ سموّه، لتحقيق مكاسب دُنيا أُبيحت في سبيلِها البوائقِ في أشكالِها كافة، وليس أقلها مصادرة الفكر، واحتكار الحقيقة ومحاكمة التفكير، والتدخل في علاقة البشر بربهم، ومحاربة الخيال، وقمع الحرية، حتى تجلت نتائج هذا السلوك في بزوغ آفة "داعش"، ذلك التنظيم الدموي الذي لا يبتعدُ كثيرًا عن مُجريات الواقع السياسي كامتدادٍ للتنظيمات الدموية المسلحة، والذي يغلب على عملية التعاطي الإعلامي معه نزقٌ يحققُ ضمنيًا جزءًا من مآربه، وليس أدناه في اعتمادِ تسميته بتنظيم "الدولة الإسلامية"، في حين أنه مُقوِضٌ لمفهوم الدولة، ويُجافي كُليةً روح "الإسلام"، التي يعرضُ الكتاب لاستدلالات منها.

يتناولُ الشهاوي في مقدمة كتابِه فضلَ الكلمةِ وملازمةَ الخيال للإبداع، وملازمتهما معًا للمعرفةِ والممارسةِ والتجريب في بيئةٍ تخلو من اتهاماتٍ بمعاداةِ الدين والخروج عن العُرف، وأن الإنسان خُلق ليسعى ويتأمل ويسأل و"الشاطح أو ابنُ الخيال مُخلصٌ للحق والحقيقةِ، ليس واهمًا.... وهو ابنٌ للحدس والعرفان والحس والتاريخ، وابنٌ لوجدِه".

ثم يتعرض الكاتب لثقافةِ الحرق كجزءٍ من التاريخ "الإسلامي"، وهنا تجدر الإشارة إلى احتياج وصف التاريخ أو العصر أو الشخصيات بالإسلامي والإسلاميين إلى فصلٍ في مسألة النسب للإسلام، أو للأديان عمومًا وأن هذا النسب مجرد نعتٍ تأريخي يعبرُ عن المرحلة، لا عن جوهر الديانةِ التي تدعو أول ما تدعو إلى السماحةِ والسلم، وإن أسيء استخدامُ النص القرآني في إيجاد وتبرير سلوك القمع والقتل، في تأويلات بشرية قابلةٍ للأخذ والرد، وأنها جاءت في سياقات زمنية مغايرة، ناهيك عن الأحاديث الضعيفة وشروحها.

يؤكد الشهاوي أن ممارسات داعش لا تبتعد عن سلوك أمراء الخلافة المتعاقبين ضد معارضيهم في الرأي، وقد أوضحت مؤلفات عدة لأعلام التراث طرائق الحرق كمروج الذهب ومعادن الجوهر، والأغاني، وبدائع الزهوروتجارب الأمم، والعيون والحدائق وغيرها، وكيف أن آلافًا من الشعراء والمتصوفة وأناسًا من عامة المسلمين تم قتلهم حرقًا، ومن ذلك أن جاريةً بن قُدامة السعدي، أحد قادة علي بن أبي طالب، قد أحرق سبعين رجلًا، كانوا قد تحصّنوا في دارٍ مع قائدِهم عبد الله بن الحضرمي، الذي أرسله معاوية بن أبي سفيان، وكذا حرق "وزير السختياني الذي ظل يتلو القرآن وهو يحترق، وكان ذلك بأمرٍ من "خالد القسري" أمير  العراق الذي كان يستهويه موتُ خصومه حرقًا بصب النفط على الخشب وتُلهب النارُ من يوضع فيها.. وتحت عنوان "أُمّةُ حرق الكتاب"، ينتقل الكاتب إلى حرق الكتب والوقائع التي شهدتها المُدن العربية وأشهرها محرقة مكتبة الإسكندرية، وأن أصابع الاتهام لا تزال تشير إلى عمرو بن العاص بأمرٍ من الخليفة عمر بن الخطاب كما يُشاع في كتب التاريخ، كما أن هناك مصادرَ كثيرةً تنفي عنهما تُهمة المحرقة، وأنه مثلما قُتل بشر كثيرون فإن كُتبًا كثيرة جدًا تعرضت "للقتل" في صورة الحرق، وأيضًا للإغراق في الماء، مؤكدًا أن كل من يحرق كتابًا هو بالضرورةِ ضعيفٌ وقاصرٌ وأحمقُ، يكره الحرف ويفتقدُ للرحمة فالكتاب كالإنسان يئسن ويبكي ويأسى على من رجحوا التشدد على التعدد، مثلما حدث مع "ابن رشد" الذي أُرغم على مشاهدة كُتبه تُحرق أمام عينيه.

يشير الكاتب إلى واقعة حرق داعش لكتب "محيي الدين بن عربي" وأنه أمرٌ ليس جديدًا على الأمة العربية، فقد تعرض كتاب "الفتوحات المكية" للحظر أكثر من مرة، منها رؤية الإخوان عام 2011 عبر برلمانهم أن ابن عربي صوفيٌّ متطرف، وقد اعتادت الجماعة ورموزها على تكفير الناس خصوصًا في مجال الثقافة والفنون، وهناك العديد من طلبات الإحاطة التي توثق ذلك، وهو الأمر ذاته الذي حدث مع كتاب المؤلف "الوصايا في عشق النساء"، مشيرًا إلى وقائع كثيرة ومتباينة في هذا السياق، وأن ما فعله الإخوان والسلفيون والمتشددون من مختلف الجماعات والفرق فعلته داعش وما أكثر الدواعش في بلادنا، ويدل الشهاوي هؤلاء إلى "جلال الدين السيوطي" الذي يعتمدونه مرجعًا، وكتابه "تنبيه الغبي في تبرئة ابن عربي"، الذي شهد فيه لابن عربي، ووصف منتقديه ومكفريه بالأغبياء.

ويعرج الكاتب إلى مسألة تدمير وطمس الصور والمنحوتات الفنية متسائلًا عن نص حديث البخاري ومسلم "إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامةِ المصورون"، فإن لم يكن نصًا مكذوبًا أو موضوعاً، فلماذا لم يوصِ النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعده من الخلفاء بتدمير تماثيل مصر الفرعونية، وليس بين أيدينا نص صريح بهدم ما تركته الحضارة المصرية القديمة، وكثير من المسائل المتعلقة بهذا الشأن كالصورة والتماثيل في البيت في صورة أسئلة تدعو لإعمال العقل وضرورة تنقية التراث من شوائب علقت به.

ثم يتناول "القتل إغراقًا في الماء"، كأن فقهاء داعش ينقلون من كتب التراث طرائق أمثالهم في التعذيب، ومن يقرأ هذا التراث سيدرك يقينًا أن التغريق بالماء يتكررُ بحذافيرِه، فيما زاد الداعشيون أمر التصوير الاحترافي بالفيديو والقفص الحديدي المُغلق بقفل، ومن يطالع تاريخ الاغتيالات في الإسلام سوف يدرك أن القتل تحت راية الدين كان يتم في العائلة الواحدة التي تتوارث الحكم.. وهكذا يتناول الكاتب القتل وأساليبه عند الدواعش المحدثين والقدامى، وتشابه تلك الأساليب وتشابه دوافعها أيضًا مستنكرًا بالسؤال: أبعدَ كل هذا القتل تريدون الخلافة؟

كما تحدث الكاتب عن إحياء ظاهرة الرق مستعرضًا جانبًا من تاريخ الظاهرة، ثم إحياءَها من جديد على يد الدواعش الذين يسعون إلى الخلافةِ بعودةٍ حتمية إلى الاسترقاق والسبي والجواري والإماء والقيان والمحظيات، مشيرًا إلى أن سنة حكم الإخوان شهدت خروج أصوات تنادي باتخاذ الرجال جواريَ لهم، ليستمتعوا بما ملكت أيمانُهم في دعوةٍ صريحة لعودةِ الحروب ومن ثم السبي والاختطاف.

يتناول الشهاوي في كتابِه فقهاء السلطان الذين ظهروا في كل العصور، ليبرروا للحكام ما يصدر منهم سواء أكان خطأ أم صوابًا، ويصفقون بالفتاوى وإخضاع الآيات والأحاديث لذلك، حتى أن السلطان ذاته يصدق ذلك فيتصور أنه مُنزّهٌ من أي عيب وقديسٌ في مصاف الآلهة، مشيرًا إلى وقائع في ذلك منها واقعة السهروردي الذي دس الفقهاء ضده عند صلاح الدين الأيوبي معتبرينه خطرًا على الدين وسببا للفرقة بين المسلمين، ومحرضًا ضد الدولة الأيوبية، وقد ألحَ العلماءُ في قتله وكان أكثر منهم علمًا ومعرفةً، وقد قُتل لأن فقهاء السلطان حقدوا عليه وأظهروا حسدهم، فأباحوا دمه، كما قُتل في العصر الحالي الشيخ المصري "حسن شحاتة" الذي كان ضد الوهابية،  وله رأي في ابن تيمية وموقف السلفيين منه حيث يقدسونه ويضعونه في مراتب أعلى.. وهناك الكثير من الوسائل فضلًا عن القتل لكنها، التي حورب بها المفكرون والذين يدعون إلى إعمال العقل كالتكفير وإباحة الدم والتطليق ودفعهم إلى الهجرة والاغتراب، مثلما حدث مع "نصر حامد أبو زيد" وأحمد صبحي منصور.

وهكذا يتجولُ الكاتب في أنحاء ظواهر العنف والمصادرة والتحدث باسم الله ممن رأوا في أنفسهم "نوابًا لله في الأرض"، مستدلًا على تكرار المشهد المظلم في حياتِنا بفصولٍ وأحداث جلية من التاريخ القديم والحديث، وضاربًا الأمثلة التي تؤكد هذا الفهم الخاطئ للدين ومحاولات استغلاله، وضرورة تحرير الإسلام من خاطفيه، مشيرًا إلى المرجعيات التي اتخذها هؤلاء دستورًا لهم وميثاقًا متبعًا لأهوائهم، مثل

سيد قطب الذي مثل مرجعية فكرية أساسية للإخوان عارضًا سيرته وبما أن الشهاوي شاعر بالأساس فقد انطلق من الخلفية الشعرية في قراءة تراث السيد قطب «شاعر الغزل»وقال الشهاوي لا يذكر الإخوان لـ«سيد قطب» سوى كتبه الدينية بعد التحاقه بالإخوان مثل «معالم في الطريق» و«في ظلال القرآن» فيما كتب قطب بين عامي 1924 و1957 نحو 140 قصيدة كفيلة بخلق اسم راسخ له في تاريخ الشعرالعربي وإن كان شعره نظمًا ذهنيًا لا وجدانيًا، فضلًا عن كتبه الأدبية لكن الإخوان دائما ما يغيبون مالا يخدم مصالحهم أو يتعارض مه نهجهم وقال في نهاية هذه القراءة المطولة أنه لا يبرئ قطب من مسئولية كل مسلم يقتل أو يكفر آخر، فـ"برغم أنه أُعدم وهو في سنٍ ليست كبيرة، فإن أفكاره التكفيرية ملأت الدنيا وبقيت تُغذي كُل معتدٍ أثيم ممن يحاولون الطمس ويسعون دومًا للإقصاء والنفي والحذف"

كما تعرض الكاتب للفنون وعلى رأسها الغناء والموسيقي في الإسلام بين المشروع والممنوع وتكالب الفرق الإسلامية المعاصرة المتطرفة النزعة على تحريم الغناء باعتباره حرامًا، وواجه هذا الاعتقاد بدحضه بمواقف من الأثر وكتب التاريخ الإسلامي، مناقشًا هذا في موضوعين تحت عنوان «ولم يصح منها حرف واحد» و«هل قرأ السلفيون القرآن والسنة؟» وقال إن المحدثين من المحرمين استندوا في تحريماتهم إلى أحاديث ضعيفة أو موضوعة حتي أن الشهاوي –بين ما استشهد به – استشهد بكتاب يوسف القرضاوي «فقه الغناء والموسيقي في ضوء القرآن والسنة» والذي وصف الأحاديث التي استند إليها السلفيون في تحريم الغناء والموسيقي بأنها مجهولة ولاسند لها ومعلولة وغريبة وقال الشهاوي إنه كان هناك مغنون في عهد النبوة وزاد عددهم وعددهن في أيام الصحابة حتى أن عبدالله بن الزبير كان في بيته جوار يعزفن على العود كما أن مذهب الإمام مالك يبيح الغناء بالمعازف (الآلات الموسيقية).

وقبل الختام يتناول الكاتب صورة المصري وتدينه وأن "أهل مصر متدينون، والإسلامَ فيها وسطيٌ لا تشدد فيه ولا تطرّف، ولا تعصب، وأن ما نراه من خروج هو طارئٌ وقادمٌ من الصحراء، وليس من طباعِ أهلها الذين هم منذ آلاف السنوات قبل "الفتح العربي" لمصر، محافظون بدرجةٍ عظيمةٍ، فقد تمسك المصريون أيما تمسك بالعادات والأخلاق التي توارثوها عن أجدادهم الأولون، كما شهد بذلك علماءُ المصريات الذين درسوا تاريخ مصر القديمة، وقدموا كشوفاتٍ مهمة ولافتة للعالم".