الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه.. وتهافت تطبيق الشريعة الإسلامية
الأحد 22/مايو/2016 - 02:07 م
طباعة
حسام الحداد
الكتاب: الإسلام والعلمانية
المؤلف: يوسف القرضاوي
الناشر: مؤسسة الرسالة 1997
يوسف عبد الله القرضاوي (9 سبتمبر 1926)، أحد أبرز العلماء السنة في العصر الحديث، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمقيم في قطر كثيرًا ما نجد له فتاوى شاذة، يخرج فيها على ما تعارف عليه علماء الأزهر المعاصرون له، ولديه خلافات كبيرة في آرائه فمرة يكون مؤيدًا للجماعات المسلحة في سوريا على سبيل المثال ولا يؤيدها في اليمن، وأخرى يكون بشار الأسد لديه بمثابة أمير المؤمنين، وثالثة يكون خائنًا وعميلًا، والخروج على الحاكم المسلم حرام في عهد المعزول محمد مرسي حلال في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، ليس التناقض الحادث في مواقف ورؤى يوسف القرضاوي هو وليد الصدفة لكنه شيئ أصيل في شخصيته ومنهجه الفكري، وما يبين لنا هذا جليًّا كتابه "الإسلام والعلمانية" والذي سوف نتناوله هنا بالتحليل أو إن صح التعبير بالقراءة التحليلية.
يقول د. القرضاوي في ص 106-108- تحت عنوان (العلمانية والشريعة): "أما الجانب الذي تقف العلمانية ضده، من تعاليم الإسلام، بصراحة وقوة، فهو الشريعة، أعني الجانب التشريعي أو القانوني في الإسلام. وقد يتساهل بعض العلمانيين، فيَدَعُون للإسلام التشريع المتعلق بالأسرة، أو ما يسمى "الأحوال الشخصية" من الزواج، والطلاق والميراث ونحوها، على اعتبار أن هذه متعلقة بالحرية الدينية، أو الشخصية للإنسان، وهم حين يصنعون ذلك يعتبرونه مِنَّة منهم على الإسلام". انتهى.
هل يجهل الشيخ القرضاوي أم يتجاهل أن هذه (الحرية الدينية) التي يزعم أن بعض العلمانيين يتساهلون معها "فيَدَعُون للإسلام التشريع المتعلق بالأسرة"؟ إنما كانت حكرًا ولا تزال على الذكور المسلمين فقط. أما النساء المسلمات فلم يرضهن هذا التشريع أبدًا ابتداء من نساء النبي أمهات المؤمنين إلى نساء هذه الأيام؟
مع هذه المعارضة للشريعة الإسلامية من طرف نصف المجتمع على الأقل يقول القرضاوي في نهاية هذا الفصل: "إن العلمانية تقبل القانون الوضعي، الذي ليس له في أرضنا تاريخ ولا جذور ولا قبول عام وترفض الشريعة التي تدين أغلبية الأمة بربانيتها وعدالتها وكمالها وخلودها، وتحس بالإثم والقلق إذا أعرضت عن أحكامها وترى أنها معددة بعقاب الله في الدنيا والآخرة".
لو قمنا بعملية حسابية بسيطة فلن نقتنع بما اقتنع به الشيخ بأن أغلبية الأمة تدين بربانية هذه الشريعة وعدالتها وكمالها وخلودها وتحس بالإثم والقلق إذا أعرضت عن أحكامها وترى أنها مهددة بعقاب الله في الدنيا والآخرة. فالغالبية من النساء: خمسين بالمائة على الأقل ونسبة كبيرة من صغار السن اللاتي رفع عنهن القلم، ونسبة من الرجال ترفض تطبيق الشريعة؛ لأنها تعتبرها غير عادلة. هذه أمثلة من التاريخ ومن الواقع:
في صحيح مسلم الجزء الثالث صفحة 364 لما نزل الوحي {تُرجي من تشاء} [سورة الأحزاب 33 : 51]، {ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك}. قالت عائشة: "والله ما أرى ربك إلاَّ يسارع لك في هواك". لقد كان التمرد والتباغض بين الضرائر صفات لم تكن غريبة عن بيت النبوة الذي يقدمه الإسلاميون كبيت مثالي وبيوت الصحابة، ولهذا رخص النبي ضرب النساء. بقوله: "لَا يُسْأَلُ الرَّجُلُ فِيمَا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ"، بالإضافة إلى آية {واللائي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن}.
وأنا شخصيًّا لم أصادف في حياتي امرأة تقبل بالضرائر رغم أن هذا حق منحه الله للرجل، ومن المفروض ألا ترفض المرأة المسلمة أمرًا إلهيا يجب أن يكون منتهى العدل بالنسبة لأي مؤمن. بل حتى نبي الإسلام محمد نفسه رفض هذا الحق الذي منحه الله للرجل فاستثنى عليًّا صهره منه رغم أن إسلامه يبيح التعدد بدون شروط.
جاء في كتب السيرة: "حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ علي بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَلَا آذَنُ ثُمَّ لَا آذَنُ ثُمَّ لَا آذَنُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا" هَكَذَا قَالَ. رواه البخاري في صحيحه.
كذلك صادفت في حياتي الكثير من الأسر تحرص على مواصلة التكاثر حتى إنجاب الولد الذكر مخافة مشاركة إخوة الزوج في الميراث في حالة وجود البنات فقط. أليس هذا دليلًا على رفض الناس لتشريع إلهي والتحايل على تجاوزه وعدم الخضوع له وعدم الاقتناع بعدالته، أما الحيل الأخرى التي يلجأ إليها الناس، وحتى الفقهاء لتجاوز تشريعات يرفضونها أو يحاولون التخفيف من همجيتها مثل حد السرقة الذي جعلوا له شروطا مضحكة أحيانًا، ومثل حد الزنا الذي جعلوا شرطًا مستحيلا:
"رأى أربعة من الرجال المغيرة بن شعبة، عامل عمر بالبصرة، وهو يزني بأم جميل وشكوه إلى عمر، أمر عمر بضربهم لأن ثلاثة منهم رأوا المرود في المكحلة والرابع رأى المغيرة على المرأة، وهو عارٍ، وأرجلها مرفوعة في الهواء، لكنه لم ير المرود في المكحلة".
هذه الحيل كثيرة للتخفيف من غلواء الشريعة وكان يمكن إبطالها وإراحة الناس من هذه التصرفات البهلوانية الشاقة والصبيانية في آن معًا لولا تصديق الناس بقدسيتها، بالإضافة إلى ما يسود حياة الناس ومواقفهم من نفاق.
حتى الإسلاميون ممن ينتقدون مقالاتي في هذا الموقع يعترفون دون أن يدروا أن غالبية المسلمين يتهربون من الالتزام بالشريعة. أليس هذا ما نفهمه منهم وهم يقولون لنا بأن سبب تخلفنا ليس مرده تطبيق الإسلام بل الابتعاد عنه. أليس هذا ما نفهمه من وصف الشيخ يوسف البدري الشعب المصري بأنه فاجر وفاسق؟
وعليه، فإن سكوت بعض العلمانيين في بلداننا على وجود هذه التشريعات المخجلة في حق المرأة، وفي حق الأبناء المولودين في إطار علاقات (غير شرعية)، لا يمكن اعتباره من قبيل الحرية الدينية ولا يمكن قبوله رغم أنه يمكن رده إلى الترهيب الذي يمارسه رجال الدين على حرية الفكر وبتبعية مجتمعاتنا الذكورية لهم. ومع ذلك فأنا أعرف أسرا مسلمة كثيرة جدا لا تنجب، تبنت أطفالا وسجلتهم سرا في مصالح الحالة المدنية مخالفة لنصوص الإسلام.
أما الحالات التي تمت في ظل القانون الجزائري الذي أباح التبني على أن يقتصر على إعطاء الولد المتبنَّى اسم العائلة دون أن يكون له الحق في الميراث الشرعي فهي حالات محزنة ومخجلة إلى أبعد الحدود تعبر فعلا عن وحشية رجال الدين الذين يعطون الأولوية لبقاء نصوصهم ولو على حساب حق الإنسان في كرامة غير منقوصة بسبب ذنب لم يرتكبه.
هذه الحرية الدينية المزعومة لا أثر لها في حياتنا اليومية، ومن العار على أي علماني أن يقبل هذه الجرائم باسمها.
أما عندما يقول القرضاوي: "فالعلمانية الأصلية، لا تسمح للإسلام بأي مساحة في التشريع، ولو كان ذلك في الأحوال الشخصية، فالدين مكانه ـ عندها- الضمير، أو المسجد فحسب". فهو محق ويجب أن نعمل للوصول إلى هذه الوضعية المتمدنة السوية حقا.
ثم يقول: "وقد رأينا علمانية "أتاتورك" وهي أم العلمانيات في البلاد الإسلامية، تطرد التشريع الإسلامي من كل المجالات، حتى في الأحوال الشخصية، لهذا حرمت الطلاق، وتعدد الزوجات، وسوت بين الأبناء والبنات في الميراث، مخالفة بذلك قطعيات الشريعة، وما علم من الدين بالضرورة.
وفي بعض البلاد العربية في الشمال الإفريقي (يقصد تونس)، رأينا بعض العلمانيات الحاكمة، تقلد العلمانية "الأتاتوركية" في الزواج والطلاق، وأوشكت أن تقلده في قانون الميراث، لولا ضغط الرأي العام". انتهى.
غير صحيح أن تركيا أتاتورك تحرم الطلاق كما زعم الشيخ. فقط حرمته بوصفه حكرا للرجل فقط وصار من حق المرأة التطليق أيضا. الشيخ يقول هذا الكلام لأن المعني الأول بالخطاب الإسلامي هو الذكر المسلم في الدنيا وفي الآخرة ولأن ما يهمه هو الحفاظ على النص المقدس ولو تم ذلك على حساب سعادة نصف مجتمعاتنا [النساء].
فهل من قبيل الجريمة القبيحة أن يمنع أتاتورك تعدد الزوجات ويسوي بين الأبناء والبنات في الميراث !!!؟
يقول: (قطعيات الشريعة وما عُلِم من الدين بالضرورة)، فما رأيه في العائلات المالكة التي استولت على الحكم في كل تاريخ الإسلام واعتبرها الإسلاميون خلافة مقبولة وما رأيه في عائلات الجزيرة العربية وأطرافها حاليًا التي تربعت على العروش بالقوة لتتصرف في مقدرات البلاد وتديرها كما يحلو لها؟
هل الحكم الوراثي من قطعيات الشريعة؟ ما هو ((معلوم من الدين)) أن الحكم يجب أن يكون في قريش، ولهذا رأينا السلالات الحاكمة على مر التاريخ الإسلامي تعمل دائما على ربط نسبها بآل البيت، علويين وفاطميين وعباسيين، أو قرشيين وغيرها من السخافات.
فهل يجرؤ الشيخ على المطالبة بتطبيق هذا المعلوم من الدين بالضرورة في بلاد الإسلام الواسعة فيدعو إلى الإطاحة بالحكام الذين لا ينحدرون من قريش؟ طبعا لا يستطيع وقد رأيناه يندد بالجهوريات العربية الوراثية ويشيد بالملكيات العربية الوراثية أيضا رغم أنها غير دستورية كما هو الشأن في ملكيات أوربا الديمقراطية.
نواصل مع الشيخ إذ يقول: (ترى العلمانية أن التشريع للمجتمع من حقها هي، وليس من حق الإسلام أن يحكم ويشرع، ويحلل ويحرم، أي أنها تغتصب حق التشريع المطلق من الله الخالق، وتعطيه للإنسان المخلوق. والعلمانية بهذا تجعل الإنسان ندا لله، الذي خلقه، بل هي ـ بهذا ـ تعلى كلمة الإنسان على كلمة الله جل جلاله، فهي تمنحه من السلطة والاختصاص، ما تسلبه من الله سبحانه، وبهذا يصبح الإنسان "ربا" يحكم بما يريد، ويأمر بما شاء.
قد تعترف العلمانية لله في هذا الكون، بالخلق ولا تعترف له بالأمر، والإسلام يقوم على أن لله الخلق والأمر جميعا (ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين) (سورة الأعراف:54). وإذا تسامحت العلمانية، واعترفت لله بحق التشريع، فإننا نجدها تعطي الإنسان حق النسخ لما شرع الله، بدعاوى باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، فهي تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله، وتسقط ما فرض الله، وتعطل ما شرع الله.) انتهى
وكم خدع هذا الكلام المعسول الناس، خاصة شبابنا فانطلقوا يضعونه موضع التطبيق، وكان التكفير وكان الإرهاب وكانت الحروب الأهلية وكانت الكوارث التي حلت بمجتمعاتنا وزادت في مزيد من الانسداد الحضاري وفي مزيد من فشل برامج التنمية.
يتهم الشيخ العلمانية بأنها ترى أن (ليس من حق الإسلام أن يحكم ويشرع، ويحلل ويحرم). وأنا أتهمه بجريمة التعتيم على الحقائق وإخفائها خدمة لأنظمة قروسطية بائدة. أسأله: إذا سلمنا لك أن في الإسلام شريعة سامية بحلالها البيّن وحرامها البيّن، فكيف يحكم الإسلام يا مولانا؟ هل الإسلام كائن مادي بوسعه أن يتربع على كرسي السلطة ويطبق نفسه بنفسه فيدير المحاكم والسجون وينفذ الحدود ويعاقب ويكافئ؟ هل تجسد الله يوما ما في شخص حاكم مسلم وطبق شريعته العادلة حتى امتلأت الأرض عدلا بعد أن ملأها العلمانيون والكفار جورا؟
نحن نعرف أن البشر هم من حكموا باسم الله وباسم رسالاته. فكيف وصل هؤلاء البشر إلى الحكم؟ قديما كان الحكام يزعمون أن لهم حقا إلهيا في السيادة على الناس. وكان رجال الدين يباركونهم فيصدقهم الناس ويسلمون لهم أمره. لا يستطيع القرضاوي ولا غيره اليوم أن يقول بذلك.
وبما أننا نعرف أنه ليس في الإسلام نظرية سياسية لتنظيم الحكم مثل النظريات السياسية الحديثة التي أبدعها البشر (الناقصون) فصار الحكام تعبيرا عن إرادة شعوبهم بعيدا عن أية عصمة أو قداسة: يُنْتَخَبُون ويُعْزَلُون ويُحاسَبون ويُنتَقدون ويتظاهر الناس احتجاجا على طر يقهم في الحكم، فكيف كان يجري تداول الحكم في الإسلام؟
قال معاوية بن إبي سفيان مبررا توريثه الخلافة لابنه يزيد: "أيها الناس قد علمتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض (توفي) ولم يستخلف أحدا فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعته بيعة هدى، فعمل بكتاب الله وسنة رسوله، فلما حضرته الوفاة رأى أن يستخلف عمر، فعمل عمر بكتاب الله وسنة رسوله، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة نفر اختارهم من المسلمين. فصنع أبوبكر ما لم يصنعه رسول الله وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر، كل ذلك يصنعونه نظرا للمسلمين. فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ونظرا لهم بعين الإنصاف" (عن الإمامة والسياسة لابن قتيبة(
وعليه فإن الشيخ القرضاوي وغيره من رجال الدين عندما يطالبون بتحكيم الإسلام، فإنهم يقصدون في نهاية المطاف، تحكيم شيوخ الإسلام بوصفهم علماء هذا الدين سواء بصفة مباشرة عندما يتولون بأنفسهم إدارة شئون البلاد مثلما هو الشأن في جمهورية إيران الإسلامية أم عبر حكومات تأتمر بأوامرهم أو تتحالف معهم مثل تجربة الحكم الإسلامي في السودان أو طريقة حكم آل سعود وغيرهم من الأسر الحاكمة في بلاد المسلمين بما في ذلك هذه الأنظمة (الجمهورية) الهجينة التي يتهمها الإسلاميون بالعلمانية والعلمانية منها براء.
ليس في نصوص الإسلام ولا في تجارب الحكم التي طبقت في تاريخه أي نظرية للحكم يمكن مقارنتها بنظرية الحكم الديمقراطي اليوناني أو الروماني. أما أن نقارنها بتجارب الحكم الديمقراطي العصرية فهو عبث. وبما أن حكم الإسلام الذي يطالب به القرضاوي غير ممكن إلا عبر تولي البشر (الناقصين) مهمة إدارة شئون الناس، ونظرا لغياب أي توجيه إسلامي للكيفية التي يمكن بها اختيار الحكام، نظرا لهذا البؤس والفقر النظري الحقيقي في هذا المجال فإن هذه المطالبة هي خداع في خداع.
شخصيا قرأت أهم كتاب في (التنظير السياسي) الإسلامي وهو كتاب الأحكام السلطانية للمارودي، فلم أجد فيه شيئا يسترعي الانتباه يمكن التعويل عليه اليوم، عدا هذه العموميات القروسطية السبع التي أوردها كشروط لتولي الحكم مثل اشتراط العدالة على شروطها الجامعة والعلم المؤدِّي إلى الاجتهاد في النَّوازل والأحكام وسلامة الحواسِّ من السَّمع والبصر واللِّسان؛
ليصحَّ معها مباشرة ما يدرك بها وسلامة الأعضاء من نقصٍ يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح والشجاعة والنجدة المؤدِّية إلى حماية البيضة، وجهاد العدوِّ ليختمها بشرط أكثر حمقا من الشروط السابقة مثل شرط النسب وهو أن يكون من قريشٍ لورود النصِّ فيه وانعقاد الإجماع عليه.
والماوردي وغيره يلتزمون صمت القبور حول الكيفية التي يتم بها اختيار الخليفة إلى حد أنهم، مخافة الفتنة، نصحوا الرعية بالرضا بالحاكم كيفما كانت طريقة استيلائه على السلطة (ظلم غشوم خير من فتنة تدوم). كذلك مبدأ الشورى الذي يعارض به الإسلاميون الديمقراطية، فهو خديعة كبرى. مجلس الشورى أو أهل الحل والعقد يختارهم الحاكم حسب هواه ممن تتوفر فيهم شروط الولاء، وليس على الحاكم أن يأخذ برأيهم إذا أراد.
أهذا هو حكم الإسلام يا مولانا؟
لا ينتبه القرضاوي إلى كل هذه الغيوم والظلمات التي تحيط بالحكم الإسلامي ولهذا يقول عن العلمانية (إنها ـ في قرارة نفسها ـ لا تقدر الله حق قدره، حين تستبعد أن يحيط الله تعالى شأنه، بما يحدث للبشر، برغم تغير الزمان، وتبدل المكان، وتطور الإنسان، وأن يشرع لهم من الأحكام، ويضع لهم من القواعد، ما يصلح لهم، ويصلحهم ويرقى بهم، أفرادا وجماعات، وإن مضى عليه أربعة عشر قرنا من الزمان).
فأين هي الأحكام والقواعد التي أصلحت حال المسلمين ورقت بهم أفرادا وجماعات حتى نأخذ بها اليوم لنصلح حالنا ونرقى بها؟ هل يعقل أن يكون عندنا كل هذا الخير ولا ننتبه إليه ولا نستفيد منه لإصلاح أمرنا والخروج من تخلفنا؟ الراجح أننا نشبه، إلى حد بعيد، ذلك المريض الذي ظل يتعاطى، بدون جدوى، دواء غير صالح أو تقادم عهده. هي حالة تشبه الخبال.
وطبعا لا يمكن أن يخرج من هذه الحالة من يشارك القرضاوي في قناعته وهو يقول: (والإسلام يقوم على عقيدة راسخة بأن الله العظيم، لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه شيء في السموات ولا في الأرض، وأن الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة له سواء، فهو يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون. (وما تكون في شأن، وما تتلو منه من قرآن، ولا تعملون من عمل، إلا كنا عليكم شهودا، إذ تفيضون فيه، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، إلا في كتاب مبين) (سورة يونس:61.)
هذا الذي يصفه القرضاوي بأنه (لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه شيء في السموات ولا في الأرض، وأن الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة له سواء، فهو يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون.)، نراه يقول في مكان آخر من القرآن بأنه هو (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور).
ومن هو في هذه الحالة من اللاعقلانية لا بد أن يصدق القرضاوي وهو يقول أيضا (إن "الشريعة" هي العدو الأول للعلمانيين في البلاد الإسلامية، لأنها هي التي تنقل الإسلام من عالم النظريات والمثاليات إلى دنيا الواقع والتنفيذ. وهي التي تهيئ للمجتمع سياجا من القوانين، يحميه من عدوان العادين، وهي التي تردع من لم يرتدع بوازع الإيمان).
فلماذا وقفت هذه الشريعة عاجزة عندما انهار العالم الإسلامي في انحطاط يتواصل منذ ألف عام؟ ألم تكن الشريعة معمولا بها طوال هذه المدد المتلاحقة؟ بلى.
الصحيح أن فترات الازدهار التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية في القرون الأربعة الأولى هي تلك الفترات التي خفت فيها وطأة الشريعة على الناس فانفتحوا على العالم فاستفادوا وأفادوا، وكانت فلتات سرعان ما نجح رجال الدين في إعادة أصحابها إلى القطيع بعد إحكام غلق الأبواب والنوافذ بتعاليم هذه الشريعة بالذات.
وهذا ما يفعله القرضاوي اليوم عندما يقول: (إن العلمانية تقبل القانون الوضعي، الذي ليس له في أرضنا تاريخ ولا جذور ولا قبول عام، وترفض الشريعة، التي تدين أغلبية الأمة بربانيتها، وعدالتها، وكمالها، وخلودها، وتحس بالإثم والقلق، إذا أعرضت عن أحكامها، وترى أنها مهددة بعقاب الله في الدنيا والآخرة).
إنه مزيد من التخويف والترهيب والتأثيم ضد كل من يدعو للتفتح على الغير المختلف والاستفادة من التجارب العالمية الناجحة والمشاركة الإيجابية في الجهود التي تبذلها البشرية نحو عالم أفضل وأعدل.
وأخيرا، فأننا نزعم أن شعوبا تتبنى مثل هذه الأفكار التي جئنا على قراءتها وكشف مراميها، لا يمكن أن تقدر على إنجاز أي مشروع حضاري كفيل بدفع بلدانها نحو الانخراط الجدي في بناء الحضارة والخروج من حالة الجمود الذي فشلت كل الجهود لزحزحته من مكانه.