دراسة.. المسيحية والسياسة منذ عصر الرومان وحتى عصر التنوير
الثلاثاء 01/نوفمبر/2016 - 01:28 م
طباعة
دراسة مهمة رغم أنها مختصرة لكنها عبرت بصدق عن تاريخ العلاقة بين السياسية والمسيحية منذ النشاة. الدراسة كتبها الأب الدكتور جمال خضر الكاهن في بيت لحم بفلسطين وجاء فيها عندما انطلقت المسيحية، كانت الدولة الرومانية هي العدو الأكبر لهذا الدين الجديد. فمنذ البداية كان الوالي الروماني هو من أصدر الحكم بالصلب على السيد المسيح. وعندما انتشرت المسيحية، تعرضت للاضطهاد على يد الامبراطورية الرومانية. هنالك أسباب تاريخية عديدة لهذا الاضطهاد، إلا أن السعي إلى وحدة الامبراطورية بتوحيد الديانة تم رفضه من قِبَل المسيحيين، فكيف يمكن لهم ان يقدموا الذبائح لالهة وثنية، خاصة إذا كانت هذه الآلهة بشر أو أباطرة أعلنوا أنفسهم آلهة؟ هذا الرفض أدى إلى اضطهاد المسيحيين وقتلهم في الساحات العامة وفي المدرجات المخصصة للألعاب الدموية.
ديانة رسمية
في عام 313، رفع الامبراطور قسطنطين الحظر عن الديانة المسيحية بمرسوم ميلانو الشهير، فتمتعت الكنيسة بهدوء نسبي، على الرغم من عودة اضطهاد المسيحيين على يد الامبراطور يوليانوس بين عامي 361 – 363. وفي عام 298، أصبحت الديانة المسيحية الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية الشرقية. ومع الامبراطور قسطنطين، بدأ عهد جديد في العلاقة بين الكنيسة والدولة. فالمسيحية هي الديانة الرسمية، والامبراطور هو المدافع عن مصالح الكنيسة، فهو الذي يدعو لعقد مجامع مسكونية للبت في الخلافات اللاهوتية، وهو الذي يضمن تطبيق قرارات المجامع، ولو تطلب منه ذلك استعمال القوة. فوحدة الامبراطورية تدور حول وحدة الدين، ولا تحتمل التعددية الدينية، كما أن انقسام الكنيسة يعدّ خطرا على وحدة الامبراطورية. وبالمقابل، فان الكنيسة تدعم الامبراطور وتصلي من اجله. في هذه الفترة ظهرت أول نظريات مسيحية حول مفهوم "الحرب العادلة". هذا المفهوم الذي لا تزال الكنيسة متمسكة به إلى الآن- راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الصادر عام 1992، رقم: 2309.
القرون الوسطى
وفي القرون الوسطى، من كان يتحكم بمن؟ الدولة تتحكم بالكنيسة وتسيرها كما تريد وتتدخل في شئونها؟ أم الكنيسة التي تعين الملوك والأباطرة، معتبرة أن لها سلطان يفوق السلطة الزمنية للملوك؟ الواقع كان متغيرًا والتاريخ معقد، لكن العلاقة كانت جدلية: فإذا كان البابا صاحب شخصية قوية كان يفرض ما يريد في الشئون السياسية، حتى إن بعض البابوات أقاموا دولة بابوية يحكمونها بشكل مباشر. واستمر ذلك حتى عام 1870 في إيطاليا. ولكن الملوك استطاعوا في أحوال كثيرة التدخل في شئون الكنيسة واختيار البابوات أنفسهم، بالإضافة للأساقفة أيضًا.
التنوير
مع عصر التنوير في أوروبا، وظهور الدول القومية، قامت حركات تطالب بعزل الكنيسة عن كل سلطة أو تدخل في الشأن العام. وهذا ما حدث بعد الثورة الفرنسية مثلا، وتأسيس مبادئ الجمهورية الثالثة عام 1906، بفرض العلمانية على النمط الفرنسي، أي خصخصة الدين وعزله في الشأن الخاص داخل الكنيسة وبعيدا عن المجال العام. رأى البعض داخل الكنيسة ذلك هزيمة للكنيسة ولدورها، ورأى البعض الآخر تحرر للكنيسة من عبء الشئون السياسية، وبداية جديدة للكنيسة في علاقاتها مع العالم الذي نعيش فيه. وكان المجمع الفاتيكاني الثاني نقطة انطلاق في بناء علاقة سوية مع عالم السياسة وانفتاحًا على حاجات العالم التي تتناسب مع رسالة الكنيسة: "إن آمالَ البشرِ وأفراحَهم، في زمننا هذا، إنَّ أحزانَهم وضيقاتهم، لا سيما الفقراء منهم والمعذَّبين جميعاً، لهي أفراحُ تلاميذِ المسيح وآمالُهم، هي أحزانُهم وضيقاتهم. وهل من شيءٍ إنسانيٍّ حق إلا وله صداهُ في قلوبهم". (فرح ورجاء، رقم 1).
حدث هذا التطور في أوروبا، ولكن فهم الكنيسة لذاتها تأثر بهذا التاريخ وبهذه التجربة. ويعد العرض السابق لعلاقة الكنيسة مع الدولة مختصرًا إلى حد الاختزال، فلم نتحدث عن أصلاحات البابا غريغوريوس السابع في القرن الحادي عشر ودوافعه، كما لم نتحدث عن الحروب الصليبية ودور الكنيسة فيها في فهمها لذاتها ومسئولياتها في ذلك الزمن. إن أي سعي لفهم افضل للتاريخ يجب ان يصاحبه عدم الحكم على التاريخ بعقلية اليوم أو بمقاييس الزمن الذي نعيش فيه، وإلا تمت الإساءة للتاريخ نفسه.
واليوم، ما هي علاقة الكنيسة بالدولة؟ وكيف يجب أن تكون؟ تتنوع الإجابة بحسب الدول وخبراتها، وخاصة أن طبيعة العلاقة بين الكنيسة والدولة في الشرق تختلف عن مثيلتها في الغرب. أما إذا أردنا أن نجيب على هذا السؤال استنادًا إلى رسالة الكنيسة، فإن التصاق الكنيسة بالدولة تركز على كون الكنيسة مؤسسة أكثر منها رسالة. وانفصالها عن الدولة يمهد الطريق لحرية الرسالة النبوية في الكنيسة. كان الأنبياء يتمتعون بحرية انتقاد الملوك والحكام لعدم اتباعهم شريعة الله وعدم اتكالهم عليه، من خلال ثقتهم الزائدة بقوتهم العسكرية أو بجبروتهم. وقد دفع الأنبياء ثمنًا باهظًا أحيانًا لجرأتهم في انتقاد الحكام. وللكنيسة رسالة نبوية، هي رسالة يسوع المسيح الذي أعلن أن الله مسحه "لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ". (لوقا 4، 18 – 19).
إذا فهمت الكنيسة ذاتها على أنها "مؤسسة"، فمن الطبيعي أن تسعى لحماية مصالحها وحقوقها وامتيازاتها. وإذا جعلت من رسالتها في الدفاع عن الفقراء والمظلومين أولوية في حياتها وفي بشارتها، فلا بد من تباينها عن الدولة لتستطيع أن تحمل هذه الرسالة، وتوجه رسالتها النقدية إلى أصحاب السلطة والقوة، لا أن تكون منهم.
إذا كان عالم اليوم هو عالم الأقوياء والأغنياء الذين لا يتورعون عن التضحية بالفقراء والضعاف، وجب على الكنيسة أن تكون ضميرًا لهذا المجتمع، وأن تكون قلب عالم لا قلب له.