كاهن كاثوليكي في الدولة الإسلامية ....اضواء علي المسيحين في العراق

الإثنين 05/يونيو/2017 - 02:20 م
طباعة كاهن كاثوليكي في
 
بمناسبة مرور عشر سنوات على مقتل الكاهن العراقي رغيد كني أصدر الكاهن ربوار أوديش باسا كتابًا بعنوان "كاهن كاثوليكي في الدولة الإسلامية. قصة الأب رغيد كني".
وقد تم تقديم هذا الكتاب الجديد ليومين خليا في مقرّ هيئة مساعدة الكنيسة المتألمة، وهو يسلط الضوء على هذا الكاهن التي قُتل في الثالث من يونيو  من العام 2007 في مدينة الموصل. عشر سنوات مضت على هذا الحادث الأليم وما يزال العراق يعاني اليوم من عنف المجموعات الإسلامية الراديكالية وهو لا ينسى من قضوا على يد هؤلاء الإرهابيين. وقد قرر باسا، الذي كان تلميذاً للأب كني وصديقا له، أن يقصّ سيرة حياة كني الذي كان كاهن رعية الروح القدس وأمين سر أسقف الموصل المطران فرج رحو الذي قُتل هو أيضا في العراق. وقد تابع الكاهن الراحل دروسه العليا في روما وعلى الرغم من اندلاع الحرب في بلاده قرر العودة إلى العراق ليقوم بخدمته في أرض الاضطهاد، وقد كان شاهدا في أكثر من مناسبة على عنف المجموعات المتطرفة وتهديداتها تجاه الجماعات المسيحية المحلية بنوع خاص.
للمناسبة أجرى القسم الإيطالي في راديو الفاتيكان مقابلة مع مؤلّف الكتاب الأب ربوار أوديش باسا الذي روى أن قاتلي الأب كني سألوه لماذا لم يمتثل لأوامرهم ويقفل الكنيسة، فأجابهم أنه ليس باستطاعته أن يقفل بيت الله. ولفت إلى أن كني قُتل وذنبه كان الانتماء إلى الأقلية المسيحية في العراق. وأوضح باسا أن الرسالة الموكلة اليوم إلى المسيحيين تتمثل في الشهادة للإنجيل حتى إذا تطلب هذا الأمر أن يعرضوا حياتهم للخطر. ولفت إلى أن الإرهابيين كانوا يقتلون المسيحيين ويهددونهم ومع ذلك كان الأب كني يشكل خطرا بالنسبة لهؤلاء المجرمين لأنه عرف كيف يجابه مخططات الحقد. واعتبر باسا أن الكاهن الراحل كان شاهدا حتى موته على كيفية أن يكون المسيحي أداة للسلام والمصالحة والرجاء في بلد هدمته الحروب المتكررة.
وفي رد على سؤال بشأن أوضاع المسيحيين اليوم في العراق ذكّر الأب باسا بأن سهل نينوى تم تحريره لأشهر قليلة خلت، أما مدينة الموصل فقد حُررت نسبة تسعين بالمائة منها حتى اليوم إذ ما يزال تنظيم داعش يسيطر على وسط المدينة التاريخي فيما يسعى الجيش العراقي إلى تحريره. ولفت إلى أن المدنيين بشكل عام يدفعون ثمن هذا الصراع المسلح خصوصا وأن تنظيم داعش لا يتردد في استخدامهم كدروع بشرية. وختم حديثه لإذاعتنا مذكرا بأن البابا فرنسيس تذكر في أكثر من مناسبة الكنيسة في العراق وجميع الشهداء المسيحيين الذين يذرفون دماءهم بسبب إيمانهم.
يقول المؤلف  الأب ريبوار عوديش باسه
"الوضع هنا أسوء من الجحيم. تعرضت كنيستي لعدة هجمات منذ أن التقينا آخر مرة. جُرِحَ حارسان الأسبوع الماضي نتيجة هجوم. سنلتقي في المستقبل القريب وسنتحدث عن كل هذه الأحداث. الرب يباركك، رغيد".
هذه كانت من آخر كلمات سطرها الأب الشهيد البطل رغيد عزيز كني في بريد إلكتروني أخير بعثه من الموصل لأستاذه في روما الأب روبرت كريستيان يوم ٢ يونيو  ٢٠٠٧، أي قبل يوم من اغتياله. تلك الجريمة النكراء منعت أبونا رغيد من الالتقاء بأستاذه، وبالتالي لم تسنح له الفرصة بأن يتحدث عن تلك الأحداث المروعة. ولهذا من خلال الكتاب "كاهن كاثوليكي في الدولة الإسلامية، قصة الأب رغيد كني" وبمناسبة الذكرى العاشرة على استشهاد هذا الكاهن الغيور والشجاع مع رفاق دربه الشمامسة بسمان يوسف داود وغسان عصام بيداويد ووحيد حنا ايشوع، نروي تلك الأحداث وما لحقتها وخاصة سيرة حياة الأب رغيد واستشهاده مع رفاقه الشمامسة بشكل تفصيلي لكي نحقق إحدى رغباته. نرويها لا فقط لأستاذه الأب كريستان وإنما للكل، لكي يتعرف الجميع على قصة هذا الكاهن الغيور الذي رغم الاضطهادات والتهديدات والهجمات والخطف والقتل أبى أن يتراجع أو أن ينصاع لأوامر الإرهابين. ذنبه بحسب الإرهابين الذين قتلوه هو عدم غلقه لأبواب كنيسة الروح القدس، حيث وجه إليه أحد القتلة قبل أن يفتحوا وابل الرصاص عليه وعلى رفاقه، قائلاً: "كلتلك عزل الكنيسة، ليش ما سديتها؟" وكان ردّ أبونا رغيد بكل شجاعة ووضوح وبساطة: "ما نسد بيت الله". وذنبه الآخر هو كونه مسيحيٌ عراقي. كان الأب رغيد قد جدد هويته للأحوال المدنية في آخر يوم من استشهاده. وفي لحظة الاستشهاد كان يحمل تلك الهوية في جيب صدره مع صورة يسوع وأيقونة مريم العذراء، فاخترقت الطلقات قلبه الطيب وصورة يسوع وأيقونة مريم وهويته حيث جاءت إحدى الطلقات تحديداً على الكلمات "الجمهورية العراقية" من جهة، و"مسيحي" من الجهة الثانية. وهذا يؤكد على ذنبه الثاني، أي كونه مسيحيٌ عراقي. ننشر نسخة من هذه الهوية للمرة الأولى مع نسخة من دفتره للخدمة العسكرية، شاكرين عائلته الكريمة لتزويدنا بنسخة منهما، إضافة إلى معلومات أخرى قيّمة وصور مؤثرة. دفتر خدمة أبونا رغيد، إضافة إلى شهاداته في الهندسة المدنية واللاهوت تبرهن عن مدى ذكائه، وعظمة محبته وخدمته السخية للصليب وللعلم.
قام بتأليف هذا الكتاب الأب ريبوار عوديش باسه باللغة الإيطالية، وقامت الجمعية الحبرية المعونة للكنيسة المتألمة، فرع إيطالية بنشره. وهو مكون من ستة فصول، على النحو الآتي:
الفصل الأول: شهداء الأقلية المسيحية العراقية.
الفصل الثاني: حياة قصيرة ومملؤة بالمغامرات.
الفصل الثالث: استشهاد الأب رغيد ورفاقه ومراسيم الدفنة.
الفصل الرابع: ذكرى شهيد الألفية الثالثة.
الفصل الخامس: استشهاد أسقف كاهن شهيد.
الفصل السادس: صلوات.
إن قصة اضطهاد الأب رغيد وكنيسته لم تنتهي باغتياله مع الشمامسة الشبان الثلاثة، وإنما كانت كمقدمة وتهيئة لولادة الدولة الإسلامية في العراق والشام، بقيادة أبو بكر البغدادي؛ والتي كانت تسمي نفسها منذ ٢٠٠٦ بالدولة الإسلامية في العراق، وذلك بقيادة أبو مصعب الزرقاوي. وحينما اجتاحت واحتلت الدولة الإسلامية الداعشية مدينة الموصل في حزيران ٢٠١٤ وسهل نينوى في آب من العام ذاته، حاولت القضاء على الحضور المسيحي التاريخي حيث تعود جذوره في المنطقة لفجر المسيحية، وحضور الشعب الكلداني الأشوري الأصيل والذي تمتد جذوره في بلاد ما بين النهرين لنشأة الحضارة الإنسانية. لكن تلك المحاولة الداعشية كمثيلاتها عبر التاريخ باءت بالفشل، لأن الرب قد وعد في إنجيليه بأن أبواب الجحيم لن تقوى على كنيسته (متى ١٦، ١٨)، ولأن ظلمات الجهل والتخلف عمرها لم تنتصر ولن تنتصر أبداً على نور الحكمة والثقافة والعلم والحضارة والإنسانية. وفي تلك الغزوة البربرية حاول المتطرفون الدواعش وشلتهم قتل أبونا رغيد للمرة الثانية، وذلك بكسر حجر قبره ليمحو أثر جريمتهم النكراء. لكننا نرد عليهم بتخليد ذكراه بهذا الكتاب، كي يتعرف الجميع على قصته ويقتدي به المزيد من الشبان والشابات التواقين لعيش قيم المحبة والخدمة والتضحية والتسامح والغفران الإنجيلية حتى في وسط نيران الكراهية والعنف والحرب والقتل والدمار الشيطانية.
يُعَد هذ الكتاب أول محاولة لسرد حياة الأب الشهيد رغيد بشكل مفصل ونشرت فيه بعض وثائق الشهيد للمرة الأولى كهوية الأحوال المدنية ودفتر الخدمة العسكرية كما نوهنا أعلاه، إضافة إلى جمع معلومات وشهادات ونشاطات نشرت بلغات مختلفة قام الكاتب بجمعها وترجمتها للغة الإيطالية كي يستطيع قلب العالم الكاثوليكي أي الفاتيكان وإيطاليا التعرف بشكل أعمق على أحد شهداء الإيمان في مطلع الألفية الثالثة. كما نأمل بأن تساعد المعلومات التي جُمِعت في هذا الكتاب في مسالة تطويب الأب رغيد مع غيره من شهداء الإيمان لكنيسة العراق.
شهادة السيدة بيان آدم بيلا زوجة الشماس الشهيد وحيد حنا ايشوع، الذي اغتيل مع الأب رغيد والشماسين بسمان وغسان، والتي كانت حاضرة وشهدت بأم عينها تلك الحادثة المروعة، روت بكلمات مؤثرة تفاصيل الحادثة وذلك في مقابلة أجرتها معها قناة عشار الفضائية بساعات بعد تلك الحادثة، قائلة:
"… تقريباً، يمكن عشر مرات، تقول يعني عشر مرات، بس ما كانت… ما كان اكو ضحايا، بس هل مرة ضحايا اعطينا احنا، أربع ضحايا. ليش هاكذ ليش؟ اش كن عملنا احنا؟… كمشبيلن كمشبيلن من سيارة، سيارة زوجي فكترا، حتى سيارتهم فكترا كانت، ولون نيلي، وملثمين وعندم رشاشات بيديهم، ’انزلوا من سيارة‘، وانزلنا من سيارة، ’ارفعوا ايديكم‘، وهما رفعوا ايديهم، وبعدين صلوهم صلي، واخذوا السيارة، وانا قمتو اصيح. وكان اكو هونِكا قصاب، ما اعرف وِحِدْ رجال قصاب، هو مسلم كان. اخذُنوا بالسيارة، وخطفونوا هو. بس احنا المسيحيين… ضربوهم وقتلوهم، هذولي كفرة… هيم كانوا اربعة او ستي… انا كنتوا مشوشة بوقتها ما كنتوا أعرف… أي طبعاً، طبعاً يأثر… هو ما يأثر يعني على دينا، بس هو يأثر علينا، لان احنا ما نطيق نروح على بيعة… لأن ما نطيق نستمر هاكذ. نطيق نستمر هاكذ؟ اشلون نستمر هاكذ! بهل ظرف! يعني هما اش يريدون من عدنا؟ أحنا اش كن عملنا؟ نروح عل بيعة ونرجع. أش يريدون من عدنا هيّم! يعني وِحِدْ عل بيعة زي ما يروح، يروح عل جيمع؟ ما عدهم جوامع هيّم؟ إذا نسوانهم وإذا رجيلهم، ليش هاكذ يعملون؟"
وكانت قناة نورسات قد التقت بوالدي الأب الشهيد رغيد. فروى والده السيد عزيز كني عن آخر زيارة قام بها ابنهما الكاهن لهم، قائلاً:
"يوم الاستشهد جا عدنا الصبح، جا شوف صورتو قبل ما يطلع، على أساسا كان يتغدا عدنا بعدين ما تغدا راح… شوف صورتو لأمو، قاله يُوم شوفي شلون صورة كن سحبتوا، اي، قالت وي اشقت حلو هاي الصورة… قال حتى هاي للجنازة مالي حتى لا تحتارين، حضرتوكي هيا (تردد أمه مع ابيه هذه الجملة: حضرتوكي هيا) وكبرتوها للمقبرة يعني للجنازة مالي، للتشيع مالي. يعني بنفس اليوم الي أنقتل. هاي نفس الصورة".
أما والدته كرجيه سليمان فركزت على التهديدات بالقتل التي كان يتلقاها ابنها الكاهن وكيف كان يواجهها بكل شجاعة وعزم:
"كان يقلي يُومْ هي الموتي وحدي، اش اموت هسعتا، اش اموت بعد عشر سنين. كان يقلي يوم يضربون السكين على رقبتي اول من يضربوها تجعني، وبعد ما احس على كل شي. يعني هاكذ كل الأحتمالات كن خلا قدامو. كنتُ اقولو لكن انت كن هددوك! وكان يقلي لا كل الكنائس مهددة كنت أقولو اعرف كل الكنائس كن هددوهم بس انت شخصيتك كن هددوها. كان يضحك ما كان يجاوبني كل شي. إلى ان صارت هذه الحادثة".
نستذكر بمناسبة الذكرى العاشرة لاستشهاد هؤلاء الشبان الأربعة بعض ما قاله رؤساء الكنيسة، مبتدئين بقداسة البابا بندكتوس السادس عشر الذي كان قد أرسل للأسقف الشهيد بولس فرج رحّو برقية تعزية على أثر تلك الجريمة، وذلك في ٤ حزيران ٢٠٠٧ من خلال سكرتير دولة الفاتيكان نيافة كردينال تارجيسيو برتوني، والتي جاء فيها:
"تألم الأب الأقدس كثيراً لدى تلقيه نبأ القتل الأهوج للأب رغيد عزيز كني والشمامسة بسمان يوسف داؤد وغسان بيداويد ووحيد حنا. يسأل لطفكم بإيصال تعازيه القلبية إلى ذويهم. يشارك قداسته الجماعة المسيحية في الموصل في تسليم أرواح الشهداء لرحمة الله اللامتناهية وأبينا المحب، وفي تقديم الشكر له لشهادتهم السخية للإنجيل. وفي الوقت عينيه يصلي بأن تُلهم تضحيتهم الثمينة قلوب جميع الرجال والنساء من ذوي الإرادة الصالحة عزماً متجدداً لرفض طرق الكراهية والعنف ومجابهة الشر بالخير (روم ٢١، ١٢)، والتعاون في تعجيل بزوغ فجر المصالحة والعدل والسلام في العراق. ولكل عوائل الشهداء والذين ينعون موتاهم يمنح قداسته ومن كل قلبه بركته الرسولية كعهد للتعزية والقوة في الرب النابعين من الإيمان والرجاء اليقين بالقيامة" (صحيفة الرقيب الروماني؛ الاثنين ـ الثلاثاء، ٤ ـ ٥ حزيران ٢٠٠٧، ص ١).
وكان قد صدر في ٣ حزيران ٢٠٠٧ بيان من مثلث الرحمات البطريرك مار عمّانوئيل الثالث دلّي وأساقفة السينودس الكلداني، جاء فيه:
"بقلوب مِلؤها الأسى والحزن يستنكر المسيحيون جميعاً وفي مقدمتهم البطريرك مار عمّانوئيل الثالث دلّي وأساقفة الكلدان اسـتشهاد الأب رغيد عزيز كني، والشمامسة بسمان يوسف داؤد اليوسف، وغسّان عصام بيداويذ، ووحيد حنا ايشوع بعد إقامتهم المراسيم الدينية في كنيسة الروح القدس الكلدانية في الموصل نهار الأحد ٣ حزيران ٢٠٠٧.
جريمة نكراء يَندى لها الجبين، ويستنكرها كل ذي ضمير حي، فإن مقترفي هذه الجريمة إرتكبوا عملاً شـنيعًا ضد الله والإنسانية، وضد إخوتهم المواطنين المخلصين المسالمين، ألا وهم رجال قدّموا صلواتهم وتضرعاتهم إليه تعالى من أجل أن يسود السلام والأمن والإستقرار في ربوع العراق.
إن الأساقفة الكلدان الملتئمين في مجمعهم البطريركي، يطلبون للشهداء الأبرار الراحة الأبدية، ويقدّمون لأهلهم التعزية والسلوان، ولراعيهم الجليل المطران بولس فرج رحّو ولإخوته الكهنة وأبناء خورنته ولأبناء رعاياهم في العالم أجمع، طالبين منهم التماسك والوحدة في هذه الظروف القاسية.
بهذه المناسبة المؤلمة، نذكّر بما قلناه في بياناتنا السابقة عن إضطهاد المسيحيين في العراق، وتهجيرهم القسري وإجبارهم على ترك دينهم، ونطالب المسؤولين في العراق والهيئات الدولية بإتخاذ الإجراءات اللازمة لردع مثل هذه الأعمال الإجرامية ووضع حد لها".
أما غبطة أبينا البطريرك مار لويس روفائيل ساكو، الذي كان في ذلك الحين رئيس أساقفة كركوك للكلدان، كان قد بعث برقية تعزية بعد تلقيه خبر استشهاد الأب رغيد ورفاقه، نستذكرها هنا:
"سيادة المطران بولس فرج رحّو والأباء الكهنة وعائلات الشهداء الأب رغيد وبسمان وغسان ووحيد بألم كبير وحزن عميق سمعنا نبأ استشهاد الأب رغيد ورفاقه الشمامسة الثلاثة. كان النبأ كالصاعقة علينا وكالنزاع على الصخرة، حدث مروع في هذه الظروف الصعبة، وكما ليسوع في بستان الزيتون لم يبق لنا إلا الآب. اننا اذ نقدم تعازينا لكم يا صاحب السيادة وللكهنة ولأهلهم ولأخوتنا في الموصل، ننضم اليكم في الصلاة والرجاء بأن دماءهم الطاهرة ستنبت حياة وسلاما، وأن صحراء محنتنا وظلام دنيانا ستتحول الى واحة نعمة ونور".
وفي ٢ شباط ٢٠١٣، أي بعد يومين من انتخابه بطريرك بابل على الكلدان (٣١ كانون الثاني ٢٠١٣)، ذكر غبطة البطريرك مار لويس روفائيل ساكو في مقابلة مع وكالة الأنباء سير الإيطالية (Agenzia stampa Sir)، الشهيدين المطران بولس فرج رحّو والأب رغيد كني، وذلك في إجابته على صحفي سأله قائلاً: "الآن وأنتم في بداية المسيرة، لمن تعهدون رسالتكم؟". فكان جواب غبطته:
"أود أن أعهدها لذكرى شهداء كثيرين من كنيسة العراق، المطران بولس فرج رحّو، أسقف أبرشية الموصل للكلدان، والأب رغيد كني وآخرين كثيرين من الشهداء. مثالهم يدعونا لعدم الخوف من أن نشهد للمحبة الأخوية والفغران والمصالحة التي يريد الله منا عيشها".
نستذكر أيضاً بعض كلمات المطران الشهيد مار بولس فرج رحّو بعد أيام من استشهاد ابنه الروحي أبونا رغيد، كتبها لموقع عنكاوا:
"إن حدث اغتيال حبيبنا الأب رغيد ورفاقه الأبرار، كان وقعه على أبرشية الموصل، كوقع الصاعقة، وخصوصا على قلبي أنا مطرانه، لقد كان العمود الفقري لمجلس كهنة أبرشية الموصل. وبكل صراحة أقول: أن غيابه كسر ظهري وبتر يميني…".
وفي مقابلة أجرتها معه راديو SBS، سأله الصحفي:
"سيدنا بيِكِتْبوا عنك وبيقولوا تأثرت كثيراً بغياب الأب الشهيد رغيد. كيف تصفلنياه؟"
فأجاب المطران الشهيد بولس فرج رحّو، قائلاً:
"صدق كان رجل ذكي، نشيط، متحمس،… هاي كنيسة الروح القدس بين فترة وفترة كانت تنضرب إما بقذائف إما بكذا وهو حالاً كان يروح… كلش يعني متعلق بكنيسته. بس مع الأسف، أنه أنا، قبل يوم الحادث بأربعة أيام، أنا وعدتونو بأنه راح اخلينو يروح يكمل دراستو حتى يأخذ الدكتوراه، وصار الحدث. يعني أنا الثلاثاء القبلو وعدتونو بأن يرجع إلى روما حتى يكمل الدراسة حتى يأخذ شهادة الدكتوراه، ويوم الأحد صار الحدث… لا يكون يوجد مخطط بإفراغ العراق من المسيحيين مثل ما عملوا في الحرب العالمية الأولى، بإفراغ تركيا….".
قدم نيافة الكردينال فرنادو فيلوني، عميد مجمع تبشير الشعوب، الكتاب بكلمة وشهادة، ننقلها هنا للعربية للقراء الأعزاء:
"هذا الكتاب مفيد، ليس لمن هو في سلام المسيح ويتنعم بالطوبى المحفوظة للشهداء، "طوبى لكم، إذا شتموكم واضطهدوكم… إن أجركم في السموات عظيم…" (متى ٥، ١١ ـ ١٢)، وإنما هو مفيد لنا نحن الباقين على قيد الحياة بفضل شهادة دمٍ أُعطِيت ولاءاً للمسيح ولكنيسته. كل شاب يشعر بأنه مدعوٌ للكهنوت، وكل كاهن شاب بدأ حياته الراعوية ينبغي عليه معرفة قصة حياة قصيرة للأب رغيد عزيز كني، عضو أبرشية الموصل الكلدانية (العراق)، الذي قتل بوحشية في ٣ حزيران ٢٠٠٧ عن عمر ناهز ٣٥ سنة.
قرأت بنفس واحد هذا الكتاب لسببين، أولاً: لأنه يتيح للكل معرفة من كان الأب رغيد، كاهن فرحٌ وذكيٌ ومُحبٌ بعمق لما اختاره بالحياة وراعيٌ سخيٌ. ثانياً: كونه يعيدني إلى السنوات التي كنت أعيش فيها في العراق. شهادة الإيمان الرائعة للأب رغيد هي فعلاً كذلك، ويجب أن تبقى حاضرة في ذاكرة الكنيسة. هذا الكتاب الذي يأتي بمناسبة الذكرى العاشرة لاستشهاد الأب رغيد، يؤكد على أنه سيبقى حياً في ذاكرة الأقارب والأصدقاء والكنيسة الكلدانية والكنيسة الكاثوليكية بأسرها. البابا فرنسيس أحيا هذه الذكرى في ٢٢ نيسان ٢٠١٧، حينما زار كنيسة القديس بارتلماوس الواقعة على جزيرة تيبيرينا في روما، التي تحتضن ذخائر شهداء الإيمان من القرنين العشرين والحادي والعشرين. ترأس قداسته رتبة الكلمة التي أقيمت هناك، وقال في موعظته: "كم من الجماعات المسيحية في أيامنا تعاني من الاضطهاد!".
أكرم قداسة البابا بجانب الأب رغيد المطران بولص فرج رحّو، الذي شاركه في شهادة الإيمان بالدم في ١٣ شباط ٢٠٠٨ في الموصل. ويُذكر بأن قداسة البابا بندكتوس السادس عشر كان قد أدان تلك الجريمة بشدّة واصفاً إياها بـ "عمل عنفٍ لا إنساني" يضاف للأعمال الإجرامية الأخرى. يعتبر كثيرون تضحية المطران فرج رحّو والأب رغيد كقربان شعب الله للمسيح نفسه.
عرفت شخصياً الأب رغيد في العراق، خلال فترة خدمتي بصفة السفير البابوي. وكنت قد التقيت به في بغداد ثم في الموصل. وانذهلت بحيويته وحماسه الكهنوتي بالرغم من صعوبات تلك الفترة. ففي الواقع، منذ سقوط نظام صدام حسين، دخل الشعب العراقي بأسره في محنة كبيرة: الحرب والانفجارات والهجمات والنهب والقتل والابتزاز.
منذ ذلك الحين غدى المسيحيون في العراق هدفاً مفضلاً للمتطرفين الإسلاميين والمجرمين، وكانت بغداد اولاً ومن ثم الموصل مركزين للعنف المنظم. ففي ٧ كانون الأول ٢٠٠٤ تمّ تفجير مطرانية الموصل، وقال لي الأب رغيد بأن "الميليشيات الإسلامية أرادت تدمير تلك البناية". فحينما قام الإرهابيون بذلك الهجوم، كان الأب رغيد النائب العام لرئيس الأساقفة، متواجداً في المطرانية، وذهب للاحتماء في زاوية ليتجنب إلقاء القبض عليه. وبعد أن انفجرت القنابل التي وضعت داخل المطرانية، تهدمت أجزاء كبيرة منها. أما الأب رغيد فقد خرج سالماً، وقال لي: "عندما خرجت حياً بفضل الله، لاحظت في صالة استقبال المطرانية حائطاً لم يسقط وقد بقيّ رمزان ثابتان عليه، وهما: الصليب وصورة البابا يوحنا بولس الثاني. فاستنتجت فوراً من ذلك المشهد، بأن هؤلاء المجرمون يستطيعون تدمير المباني، ولكن ليس الكنيسة التي هي لله". 
بتقديمي لهذا الكتاب، يسعدني أيضاً أن أبدي شهادتي وتشجيعي لكم. ولك يا أبونا رغيد أقول شكراً، لأنك علمتنا أن نعيش ككهنة شجعان وعشاق لخدمتنا الكهنوتية ومخلصين ليسوع المسيح وخدام شعب الله. تتشرف الكنيسة بك كابن تقيّ، وتؤمن بأنك من ضمن جمع كثير من الشهداء الذي لا أحد يستطيع أن يحصيه، حسب وصف سفر الرؤيا في حوار رائع يرد في الإصحاح السابع. تفسر الآيات ١٣ ـ ١٤ من ذلك الفصل بأن هؤلاء اللابسون الحلل البيضاء "هم الذين أتوا من الشدة الكبرى، وقد غسلوا حللهم وبيضوها بدم الحمل". في هذا الجمع اللابس حللاً بيضاء رأيتك يا أخي العزيز في الكهنوت أبونا رغيد، بوجهك الشبابي وابتسامتك الطيبة، وخلفك رأيتُ مبتسماً المطران بولس فرج رحّو، ذي لحية بيضاء وعينين عميقتين وراء نظارات وتعابير وجهه المملؤة من حنان أبوي، ومن ثم الشمامسة بسمان يوسف داود وغسان عصام بيداويد ووحيد حنا ايشوع، وهم حاملين بأيديهم سعف النخل، رمز استشهادهم. صلوا الآن من أجل السلام!".
من كلمات الاب رغيد 
"الإرهابيون يريدون أخذ حياتنا، ولكن الافخارستيا تستردها لنا… في بعض الاحيان أنا نفسي أشعر بالضعف وأمتلئ خوفاً عندما أقول وفي يدي القربان: "هذا هو حمل الله، الذي يحمل خطايا العالم". اشعر بقوّته في داخلي، أنا احمل في يدي القربان، ولكن في الحقيقة هو من يحملنا جميعاً، إنه هو من يتحدى الإرهابيين، ويحفظنا متحدين بمحبته اللامتناهية… يحاول الإرهابيون قتلنا جسدياً، أو على الأقل روحياً، من خلال إغراقنا في الخوف. بسبب أعمال عنف المتطرفين ضد الشبان المسيحيين، هربت عائلات عديدة… لا يعي المرء في أوقات السلم أهمية العطية الكبيرة التي حصل عليها. فمن خلال أعمال عنف الإرهاب اكتشفنا بأن الافخارستيا، التي ترمز للمسيح المائت والقائم، تعطينا الحياة. وهذا ما يدفعنا على الثبات والرجاء".

شارك