تدوين السنة ووهم تطبيق الشريعة
الجمعة 30/نوفمبر/2018 - 12:47 ص
طباعة
حسام الحداد
عنوان الكتاب: تدوين السنة
المؤلف: إبراهيم فوزي
الناشر: رياض الريس
تحاول الجماعات الاسلامية المنتشرة على امتداد العالم الاسلامي ان توهم الجماهير الاسلامية بفكرة تطبيق الشريعة الاسلامية وتعمل على استثارة المشاعر الدينية لدى الجماهير لاستمالتها في المطالبة بتطبيق هذه الشريعة باعتبار أنها من الدين الإسلامي، أو انها هي الدين الإسلامي، وايهامها بأن التخلي عنها والأخذ بالعلوم الاجتماعية التي تقوم عليها التشريعات الحديثة إنما هما خرق للدين الحنيف وابتعاد عنه، دون أن يكون لدى هذه الجماهير مفهوم واضح وجلي عن الشريعة الإسلامية، وبماذا تتعارض مع المبادئ والأسس التي تقوم عليها التشريعات الحديثة، ودون أن يعم هؤلاء الدعاة على تجميع نصوص هذه الشريعة وإبرازها لأعين الجماهير، مجردة من التفسيرات والاجتهادات التي نسجوها حولها، وقد طمسوا معالمها وأوهموا جماهير المسلمين ان تلك الاجتهادات على اختلاف مذاهبها هي الشريعة الإسلامية أو هي الدين الإسلامي. فصار لا بد لفهم هذه الشريعة من تجريد نصوصها من تلك الاجتهادات ، ونزع الصفة الدينية عنها، ووضعها في النطاق التاريخي للعصر الذي ظهرت فيه، وتقويم أحكامها بالنسبة للمعطيات العلمية التي تقوم عليها التشريعات الحديثة، وإفراز ما يصلح منها للتطبيق في عصرنا، وما يجب إسقاطه منها بحكم التقدم العلمي والحضاري الذي حققته البشرية في حصرنا، في جميع مجالات الحياة.
يستعرض هذا الكتاب الذي بين ايدينا الشريعة الاسلامية واختلاف مفهومها بين الفقه القديم والفقه الحديث اختلافا كليا واشكاليات تدوين السنة وما تسبب فيه هذا التدوين من ثبات العقل العربي عند لحظة زمانية ماضوية لا تلتقي بالحاضر المعاصر مما تسبب في انتاج هوة واسعة بين العالم الاسلامي الذي يعيش في الماضي وعالم اخر اخذ بالتطور والتقدم في شتى المجالات مما كان سببا في وجود صراع بين العالمين انتج لنا موجات ارهابية متتالية.
وحسب الكاتب فان الشريعة الإسلامية في الفقه الإسلامي تجمع بين العبادات من صوم وصلاة وحج وزكاة وما يتعلق بها ... وبين القواعد والأحكام التي تفرض على الناس في علاقاتهم الاجتماعية داخل المجتمع، والتي أطلق عليها رجال الفقه الإسلامي اسم (المعاملات) ،كأحكام البيع والايجار والرهن .. والزواج والطلاق والإرث ... والعقوبات التي تفرض على مرتكبي الجرائم.
ان هذا الدمج بين العبادات والمعاملات في شريعة واحدة، وإخضاعها لقواعد واحدة وأصول واحدة أعطى للشريعة الإسلامية في المعاملات صفة دينية ثابتة، غير قابلة للتغيير والتبديل مهما تغير المجتمع، وتبدلت حياة الناس، واختلفت مصالحهم بين زمان وآخر.
فالعبادات هي الواجبات الدينية المفروضة على الانسان تجاه خالقه، وهي من الدين، وهي ثابتة وغير قابلة للتغيير والتبديل. وأما القواعد والأحكام والتشريعات التي تنظم شؤون المجتمع، وتفرض على الناس في علاقاتهم مع بعضهم داخل المجتمع، فهي خاضعة بطبيعتها للتطور والتغير بتغير المجتمع وتبدل حاجات الناس الاجتماعية ، والتاريخ ينبئنا بأن المجتمعات البشرية قد تطورت وتغيرت عبر مسيرتها التاريخية الطويلة، فانتقلت من العائلة الى القبيلة ومن القبيلة إلى المدينة، ومن المدينة إلى الدولة. ويتصور كثيرون أنه سيأتي على البشرية اليوم الذي ستصبح فيه جميعها هيئة اجتماعية واحدة، أعضاؤها البشر جميعا.
وهذا التطور والتغير في الهيئة الاجتماعية من شأنه إحداث تغيرات في علاقات الناس مع بعضهم داخل المجتمع، تستدعي تنظيمها بقواعد حقوقية جديدة تحل محل القواعد القديمة. وليس لهذه القواعد التي نسميها بالشريعة أو القانون قيمة في ذاتها، مستقلة عن مصلحة الناس الذين وضعت لهم. فقد خلقت للإنسان ولم يخلق الانسان لها. وهي تفقد قيمتها متى تغيرت المصلحة وحلت محلها مصلحة جديدة، تستدعي تنظيمها بقواعد حقوقية جديدة. فالعمل التشريعي والمجتمع طرفان في معادلة جبرية، فعندما يتغير أحد جانبيها فإن الجانب الآخر سيتبعه في التغير لامحالة.
وقد عبرت الشريعة الإسلامية عن هذه التغيرات التي تطرأ على الشريعة بالنسخ. وقد نص القرآن على النسخ بالآية : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ). فبينت هذه الآية أن الغرض من النسخ هو إحلال حكم شرعي متأخر محل حكم شرعي متقدم، هو خير منه.
وهذا التعليل للنسخ لا يختف عن تعليله في الفقه المعاصر سوى أن رجال الفقه الإسلامي قالوا بعدم جواز النسخ في الشريعة بعد وفاة النبي (ص) وانقطاع الوحي، دون تمييز بين العبادات والمعاملات. وهذا القول يصح في العبادات لأنها من الدين، وهي ثابتة، لا يعتريها تغيير ولا تبديل، مهما تغير الزمان والمكان واختلفت مصالح الناس، ولكن هذا القول، لا يبدو صحيحا بالنسبة للمعاملات، التي هي بطبيعتها متغيرة ومتبدلة، تبعا لتغير المجتمع واختلاف مصالح الناس وحاجاتهم الاجتماعية بين زمان وآخر، وهي ليست من الدين في شيء.
وقد كان لهذا الخلط بين العبادات والمعاملات في الشريعة الإسلامية أن وضع هذه الشريعة في قالب من الجمود، وأبعدها عن وظيفتها الاجتماعية في متابعة نمو المجتمع وتطوره وتحقيق مصالح الناس، وقد حصرت حاجات الناس الاجتماعية في نطاق العصر الذي ظهرت فيه، وهو العصر الجاهلي، حيث كانت العلاقات فيه علاقات قبلية وبدائية، مما باعد بين هذه الشريعة وحاجات عصرنا.
لقد وضعت الشريعة الإسلامية في النطاق التاريخي للعصر الذي ظهرت فيه، وهو عصر قبلي. ومن البديهي أن تحمل في طياتها كثيرا من سمات ذلك العصر لتتلاءم أحكامها مع حاجات الناس القليلة والبدائية آنذاك، ومع قدراتهم الفكرية والأخلاقية على استيعابها والأخذ بها.
وقد تطور المجتمع الإسلامي ونما في نطاق التشريعات التي جاء بها الإسلام، وقامت حضارة إسلامية عندما كانت الشريعة قريبة من مفاهيم الناس ومداركهم ، وكافية لاستيعاب النمو الاجتماعي. ثم لم يلبث المجتمع الإسلامي أن توقف عن النمو، وبدأ يضمر، وانهارت الحضارة الإسلامية عندما بقيت الشريعة الإسلامية جامدة، لم تساير تطور المجتمع ونموه، وضاقت عن استيعاب الحاجات الاجتماعية الجديدة.
وحسب الكاتب فان الشريعة الإسلامية التي ينادي الأصوليون بتطبيقها في عصرنا لا يقتصرون فيها على العقيدة والعبادات والنواحي الروحية والخلقية التي هي لوحدها تشكل الدين الحنيف، وإنما يتجاوزونها إلى أنظمة الحكم والتشريع والقواعد التي تنظم شؤون الدولة والمجتمع، والعلاقات الاجتماعية بين الناس، دون أن تكون لديهم أية أسس أو مرتكزات في الشريعة أو في تجارب الماضي تصلح لأن يستمدوا منها الأنظمة والتشريعات اللازمة لإقامة مجتمع حضاري متقدم.
ونستعرض فيما يلي، بإيجاز الملامح الأساسية لنظام الحكم في الإسلام، والقواعد التي قام عليها المجتمع الإسلامي، والتطبيقات الفعلية للشريعة الإسلامية التي طبقت في المجتمعات الإسلامية على توالي العصور حسب ما جاء في الكتاب.
أولا: في نظام الحكم؛ لقد كان الحكم في الإسلام على توالي العصور يقوم على الحكم الفردي الاستبدادي المطلق، القائم على إرادة فرد واحد هو الخليفة أو الإمام أو السلطان، والذي لا يعلو عليه إمام ولا سلطان، ولا تقوم إلى جانبه هيئة أو جماعة لها صفة شرعية، تقاسمه الحكم، أو تسدي اليه المشورة والنصح في إدارة شؤون الدولة. ولم يعرف المسلمون الحكم الشعبي، وقد خلت الشريعة الإسلامية من أي تشريع يتعلق بنظام الحكم في الإسلام، سوى آية وردت في القرآن وهي : ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ) [ سورة الشورى، الآية 38.].وقد تجنب رجال الفقه الإسلامي البحث في هذه ( الشورى )، وفي أي بحث آخر يتعلق بنظام الحكم في الإسلام، لما له من مساس بسلطة الخليفة المطلقة. وكان الحكم في الإسلام ينتقل من خليفة إلى آخر ومن سلطان إلى سلطان بطريقة الاستخلاف، أي بعهد من الخليفة السابق الى الخليفة اللاحق، والذي يكون عادة من أسرة واحدة. وقد استمد المسلمون هذا النظام وقواعده من النظام القبلي الذي كان سائدا في الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام واستمر قائما على توالي العصور.
ثانيا: كان الناس في المجتمع الإسلامي منقسمين الى طبقة أحرار وطبقة أرقاء، وإلى طبقة رجال وطبقة نساء، ولم يكن الناس متساوين في الحقوق بين طبقة وأخرى، وكان الأرقاء يعتبرون في عداد الأموال والحيوانات التي تباع وتشرى وتورث، دون أن يكون لهم حقوق البشر. وكانت المرأة الرقيق تستعمل للمتعة الجنسية، دون أن يكون لها حقوق الزوجة. وقد بقى هذا النظام قائما على توالي العصور الى أن زال في عصرنا بفضل الحضارة الحديثة ، التي ألغت الرق في العالم، واعتبرته جريمة إنسانية، وأعلنت المساواة في الحقوق بين الناس، الذي ألغى التمييز بين اليشر، وساوى في الحقوق بين المرأة والرجل.
ثالثا: كان المجتمع الإسلامي على توالي العصور خاليا من السلطة التشريعية اللازمة، التي تشرع للناس على الدوام حاجاتهم الزمنية المستجدة. وقد حصر رجال الفقه الإسلامي أحكام الشريعة بما جاء في الكتاب والسنة، ولم يعطوا حق التشريع لأي إنسان أو جماعة بعد وفاة النبي ( ص ). لا بتغيير وتبديل ما شرعه الله ورسوله، ولا بتشريع ما لم يشرعاه، وبقي نظام الحكم في الإسلام على توالي العصور خاليا من السلطة التشريعية التي هي أساسية وضرورية في تقدم المجتمع وازدهاره.
رابعا: لقد نشأ عن غياب السلطة التشريعية في المجتمع الإسلامي أن حل الاجتهاد محل هذه السلطة، لاستنباط أحكام للمسائل التي لم تنص عليها الشريعة، ولم يحصر رجال الفقه الإسلامي حق الاجتهاد بفرد أو جماعة. وإنما أعطوا لكل مسلم حق الاجتهاد، دون أن يكون لاجتهاد أحد صفة الإلزام لأحد آخر. وقد اختلفت الاجتهادات وتشرذم الناس حولها، بسبب الصفة الدينية التي أعطيت لها، ونشأ عن اختلافها قيام المذاهب الفقهية، التي تحولت إلى مذاهب دينية طائفية، وصار القضاة في كل مذهب يستمدون أحكامهم من اجتهاد أئمتهم وكأنها هي الشريعة الإسلامية، واختلفت التشريعات بين المذاهب، وتباينت الحقوق بين المسلمين، وباعدت بينهم.
خامسا: جمع رجال الفقه الإسلامي بين العبادات والمعاملات وكونوا منها شريعة واحدة هي الشريعة الإسلامية، وصبغوها بصبغة دينية ضيقة ذات أبعاد محدودة، غير قابلة للتغيير والتعديل والتوسع حسب مقتضيات تطور المجتمع ونموه.
سادسا: تنحصر أحكام الشريعة بالنسبة للمعاملات، في ثلاث مسائل فقط هي: المعاملات المدنية التي تنظم العلاقات الخاصة بين الناس من بيع وإيجار ورهن وهبة ... الخ. وأحكام الأسرة من زواج وطلاق ونفقة وإرث. والعقوبات التي تفرض على مرتكبي الجرائم. وان كل ما جاءت به الشريعة في غير ذلك لا يدخل في نطاق التشريع، ولا يشكل تشريعا عاما يصلح للتطبيق في المجتمع.
ان الأبحاث الطويلة التي طرحها رجال الفقه الإسلامي حول هذه المعاملات واختلفوا فيها ليست هي الشريعة الإسلامية، وهي غير ملزمة للأخذ بها. فمعظم أحكام الأسرة التي نصت عليها الشريعة الإسلامية كانت أيضا استمرارا للعادات والأعراف التي كانت سائدة في الجاهلية ، عند ظهور الإسلام، ما عدا القليل منها الذي ألغته أو عدلته.
فقد كان تعدد الزوجات شائعا في الجاهلية، دون أن تكون له حدود معينة، وقد أقرته الشريعة الإسلامية بعد أن قيدته بأربع زوجات. وكان الطلاق في الجاهلية بيد الرجل، وكانت المرأة محرومة من حق الطلاق، لأنها كانت بعرف الناس ملكا للرجل الذي اشتراها من أهلها بماله ودفع لهم ثمنها وهو المهر. وهي لا تستطيع الانعتاق من ملكيته ما لم يسترد من أهلها المال الذي دفعه ثمنا لها، وكانوا يسمونه ( الخلع ).
وكان الطلاق في الجاهلية يقع باللفظ. وكان اللفظ هو الأسلوب الوحيد للتعبير عن الإرادة في إبرام سائر العقود والتصرفات بسبب انتشار الأمية بين الناس. وبقي الطلاق في الإسلام يقع باللفظ للسبب نفسه وهو الأمية. فقد كان غالبية الصحابة أميين، وكان النبي ( ص ) أميا كما نصت عليه الآية ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم) [ سورة الجمعة، الآية 2.] والآية ( فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي ) [ سورة الأعراف ، الآية 158 ].
وبالنظر للصفة الدينية التي أعطاها رجال الفقه الإسلامي للشريعة الإسلامية، دون تمييز بين العبادات والمعاملات، فقد ألبسوا الطلاق اللفظي ثوبا من القدسية، واعطوه القوة الدينية والقضائية القادرة على تفكيك الأسرة وتشريد الأطفال بمجرد التلفظ به، ولو صدر من فم رجل أحمق أو متوحش، أو كان غب حالة غضب أو خطأ و غير ذلك. وهم في عصرنا، على الرغم من انتشار الكتابة وانتظام القضاء متمسكون بهذا الأسلوب البدائي للطلاق، المتوارث من العصر الجاهلي، ويعارضون التخلي عنه.
وكان المهر في الجاهلية شرطا أساسيا في الزواج لا يصح بدونه، لأنه كان ثمن المرأة، وبقي المهر في الإسلام شرطا إلزاميا في الزواج لا يصح بدونه.
وكان يجوز في الجاهلية زواج الصغار، ذكورا واناثا قبل ادراكهم سن البلوغ، وبقي هذا العرف جاريا في الإسلام. وقد أباحه الفقهاء استنادا إلى زواج النبي (ص) من السيدة عائشة وهي في سن التاسعة.
وفي الإرث كانت المرأة في الجاهلية محرومة من هذا الحق، فجاءت الشريعة الإسلامية ومنحتها حق الإرث في متن القرآن على أساس (( للذكر مثل حظ الأنثيين)) ولكن أصحاب المذاهب الأربعة أسندوا إلى النبي (ص) أحاديث نسخت أحكام القرآن، وقصرت هذا الحق على درجتين فقط من درجات القرابة الى الميت، هما الأولاد والأخوة، وبقي حق الإرث فيما عدا ذلك قائما على ما كان عليه في الجاهلية، وهو توريث الذكور وحرمان النساء من الميراث.
وتقوم خلافات كثيرة بين أصحاب المذاهب حول أحكام الزواج والطلاق والإرث والوصية والحقوق الزوجية، بالاستناد إلى أحاديث جاءت في السنة، اختلفت المذاهب في صحتها، فأخذ بها بعضهم ولم يأخذ بها آخرون، مما جعل الشريعة الإسلامية لدى كل مذهب مغايرة لما هي عليه لدى غيره، وهي مطبقة حاليا في البلاد الإسلامية على أساس مذهبي. وان الذين ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية هم متقوقعون ضمن مذاهبهم، ويعارضون التخلي عنها لوضع أحكام موحدة تستجيب لحاجات العصر.
أما العقوبات في الشريعة الإسلامية فهي تقتصر على بضع جرائم لا تتعدى الأربع أو الخمس، وقد حددت عقوبات جسدية على فاعليها وهي القتل والجلد وقطع الأيدي والأرجل والرجم.
وإذا كان الجرم اعتداء على حياة الانسان أو على بدنه فتكون عقوبة الجاني على أساس المماثلة، أي معاقبته بمثل جنايته، فإذا قتله بالسيف يقتل بالسيف، وإذا قتله بحجر يقتل بحجر، وإذا قتله رميا من شاهق يرمى من شاهق. وإذا فقأ الجاني عين آخر تفقأ عينه، وإذا جدع أنف غيره يجدع أنفه وإذا قطع أطن غيره أو ضربه عليها فأفقده سمعها تقطع أذنه أو يضرب عليها حتى تفقد سمعها ... الخ، وهي شريعة نص القرآن على أنها مفروضة على اليهود فطبقها رجال الفقه الإسلامي على المسلمين.
ان جميع العقوبات الجسدية التي جاء بها المشترع الإسلامي أصبحت في عصرنا محرمة دوليا، وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الانسان على منعها وتحريمها. وقد ألغيت هذه العقوبات في جميع بلدان العالم تقريبا، ومنها البلاد الإسلامية التي انفصلت عن الدولة العثمانية منذ أن أخذت هذه الدولة في عام 1858 بالتشريع الجنائي المعاصر، ولا يجوز للأصوليين بعد هذا أن يتحدوا إجماع الرأي العالمي على تحريم هذه العقوبات وأن يطالبوا بتطبيقها على المسلمين.
أما الجرائم التي لم يرد في الشرع عقوبات على فاعليها فقد تركت سائبة دون تحديد وترك الفقهاء لولي الأمر أو القاضي الحق بأن يعاقب على هذه الجرائم بعقوبات كيفية متروكة لرأيه وتقديره، أطلقوا عليها اسم ( عقوبات التعزير ). وهذه العقوبات التي لم تنص عليها الشريعة كانت في العصور الماضية مصدر الظلم والطغيان، وكان من أولى المبادئ التي نصت عليها شريعة حقوق الإنسان في عصرنا. مبدأ ( لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون)، وأصبح بموجب هذا المبدأ كل انسان حرا في أن يفعل ما يريد إن لم يكن فعله محرما بالقانون، وإن لم يكن القانون قد حدد عقوبة على فاعله .
سابعا وأخيرا : إن جانبا كبيرا من النصوص التي جاءت في السنة، مختلف على صحتها بين المذاهب، لأن السنة لم تدون في عصر النبي (ص) ولا في عصر الصحابة مثلما دون القرآن، وبقيت طيلة القرن الأول لم يدون شيء منها، فتعرضت للتحريف والتزوير والكذب على النبي (ص)، وهذا ما أفدها صفة التشريع الموحد لجميع المسلمين.
ان الخلافات التي قامت في الإسلام حول تشريع السنة، والتي قسمت المسلمين إلى مذاهب مختلفة، ترجع إلى سببين رئيسيين هما:
السبب الأول: ان النبي (ص) نهى عن كتابة أي شيء عنه، فقال كما رواه مسلم في صحيحه : ( لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار). ولم تكتب السنة في حياة النبي (ص) ولا في حياة الصحابة بحديث النهي عن كتابتها، وحارب الخلفاء الراشدون، وعلى رأسهم الخليفتان أبو بكر وعمر، كتابة السنة. ومضى القرن الأول للهجرة ولم يكتب شيء منها. وقد انتشر الكذب على النبي(ص) خلال هذه الفترة الطويلة لعوامل مختلفة. وبقيت السنة طوال هذه المدة سائبة على ألسنة الناس، يتحدثون بها من الذاكرة، دون وجود مستند يؤكد الصحيح فيها من الموضوع. وقد أتيح تدوينها من قبل الخليفة عمر بن عبد العزيز في بداية القرن الثاني، لوضع حد للكذب على النبي (ص)، كما تم جمع جانب منها في القرن الثاني، وأنجز جمعها في القرن الثالث في ستة كتب عن طريق الرواية والسماع من الناس الذين كانوا يحفظونها، نقلا عن أناس قبلهم، سمعوها منهم بالتتابع، واحدا عن آخر حتى تنتهي الى الصحابي الذي سمعها من النبي ( ص ) . وقد اعتمدت هذه الطريقة على الثقة بعدالة رجال الاسناد وصدق الذين رووها وتناقلوها. ولكن هذه الطريقة لم تسلم من تسرب أحاديث كثيرة كاذبة وموضوعة إلى الكتب الستة التي دونت فيها السنة، فكانت موضع خلاف بين المذاهب.
السبب الثاني: لاختلاف التشريع بين المذاهب هو أن السنة شملت العبادات والمعاملات على حد سواء. فأما العبادات فقد تعلمها الناس من النبي (ص) حال حياته، وتناقلوها عنه بالتواتر جيلا بعد جيل، ولم يتعلموها من الكتب، ولم تكن في بداية الإسلام ثمة حاجة لتدوينها، فقد كانت الممارسة الفعلية تقوم مقام كتابتها، ولذلك لم يقع الكذب فيها، ولم يقع خلاف على صحتها إلا ما ندر.
أما المعاملات فقد جاءت على لسان النبي (ص) بشكل أحاديث افرادية، أطلقوا عليها اسم ( أحاديث الأحاد ) . وهي الأحاديث التي رواها صحابي واحد قال انه سمعها من النبي (ص) على انفراد، ولم يرو على لسان صحابي آخر إلا القليل منها. ولم يأمر النبي (ص) بكتابتها مثلما كتب القرآن من قبل كتاب الوحي. ولم يعلن النبي (ص) هذا القسم من الشريعة على عامة المسلمين مثلما كانت تعلن آيات القرآن.
فالقرآن عندما كانت تنزل آياته كان النبي (ص) يتلوها في المسجد أو في مكان عام على ملأ من المسلمين. فكان الصحابة يتلقفونها ويكتبونها ويحفظونها ويتلونها في صلواتهم. أما السنة فإنها لم تلق مثل هذه العناية وذلك الاهتمام. وقد جاءت بشكل أحاديث افرادية بين النبي (ص) وبين شخص أو شخصين. ولم تنتشر هذه الأحاديث بين الناس في حياته، فقد رويت معظم أحكام ( المعاملات) بعد وفاته، وبعضها روي بعد وفاة الصحابي الذي سمعها من النبي (ص) ، كالحديث الذي رواه عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه بعد وفاته فقال ان النبي (ص) لم يبح الوصية لأبيه بأكثر من ثلث تركته، فاعتبر بعض الفقهاء حديث سعد تشريعا عاما لجميع المسلمين، وقالوا بعدم جواز الوصية بأكثر من ثلث التركة. وقد أخذت بعض المذاهب بحديث سعد ولم تأخذ به مذاهب أخرى لأنه يتعارض مع القرآن، الذي أباح الوصية بكل التركة أو بجزء منها للوارث ولغير الوارث، ولم يقيدها بأي قيد.
ومن أحاديث ( الآحاد) التي رويت بعد وفاة النبي (ص) حديث رواه مسلم في صحيحه عن امرأة تدعى فاطمة بنت قيس تحدثت به أثناء خلافة عمر بن الخطاب فقالت أن زوجها طلقها طلاقا بائنا في عهد النبي (ص) وأبى أن ينفق عليها، وليس لها مال ولا مأوى ولا أهل تأوي إليهم، فجاءت الى النبي (ص) وشكت اليه حالها فقال لها: (لا نفقة لك ولا سكن، فاذهبي وانتقلي الى بيت ابن أم مكتوم، فكوني عنده، فهو رجل أعمى، تضعين ثيابك أمامه فلا يراك).فأنكر عمر بن الخطاب هذا الحديث لما سمع به وقال: ( لا نترك كتاب الله وسنة نبيه لقول امرأة لا ندري لعلها جهلت أو نسيت أو كذبت ). وقال : ان للمرأة المطلقة الحق بالنفقة والسكن لقوله تعالى : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ). [ سورة الطلاق، الآية 1].
ويعلق النووي في كتابه ( شرح صحيح مسلم) على هذا الحديث فيقول : ( واختلف العلماء في المطلقة البائن. هل لها نفقة وسكن ام لا؟ قال عمر بن الخطاب وأبو حنيفة وآخرون لها السكن والنفقة. وقال ابن عباس وابن حنبل لا سكن لها ولا نفقة. وقال مالك والشافعي وآخرون يجب لها السكن ولا نفقة لها).
ويلاحظ في هذا الحديث كيف أن أصحاب المذاهب اختلفوا فيه. فمنهم من أخذ بقول المرأة مصدقا لها، ومنهم من أخذ بقول عمر مكذبا للمرأة، ولا يزال هذا الخلاف قائما في تشريعات الأحوال الشخصية للبلاد الإسلامية حتى يومنا هذا. فقانون الأحوال الشخصية للبلاد السوري مثلا قال بعدم استحقاق المرأة المطلقة النفقة والسكن إلا إذا كان الرجل طلقها طلاقا تعسفيا دون سبب معقول، وتبين للقاضي أنها سيصيبها بؤس وفاقة بعده، فإنها تستحق في هذه الحالة نفقة سنة واحدة ( المادة 117 ).
وهذا التشريع المبني على حديث مختلف على صحته، يقابله في التشريعات الغربية أن المرأة المطلقة تشاطر الرجل ثروته، تعويضا لها عن العشرة الطويلة التي قضتها معه في خدمته وتربية أولاده.
ومن أحاديث ( الآحاد )، التي رويت في عصر متأخر، حديث رواه أحد الصحابة ويدعى أبو بكرة رواه أثناء خلافة علي بن أبي طالب وهو أن النبي (ص) قال : ( لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). وقد روى البخاري هذا الحديث وقال أن أبا بكرة تذكره في أعقاب انكسار جيش الأمويين الذي قادته السيدة عائشة إلى البصرة لمحاربة الإمام علي، والذي انتهى بوقعة الجمل. وقد أراد أبو بكرة من رواية الحديث أن يفسر ان سبب انكسار جيش الأمويين كان بسبب أنهم ولوا عليه امرأة. وهذا الحديث الذي أنكره بعض الفقهاء في الماضي، ومنهم الإمام الطبري الذي أجاز تولي المرأة القضاء وغير ذلك، لا يزال بعض الفقهاء يتمسكون به لإبعاد المرأة عن المشاركة في شؤون الدولة والمجتمع، وحرمانها من تولي الوظائف والمناصب، ومنعها نت ترشيح نفسها للمجالس التشريعية.
ومن أحاديث ( الآحاد ) أحاديث أبي هريرة، والتي زادت على الخمسة آلاف حديث، وكان يبرر سبب كثرة أحاديثه عن رسول الله انه كان يلزمه لملء بطنه ويسمع أحاديثه وهما على انفراد، بينما كان غيره من الصحابة منشغلين بأعمالهم، وكان بعض الصحابة يتهمونه بالكذب على النبي (ص) ، وقد هدده عمر بن الخطاب وأنذره بوجوب الكف عن التحدث عن الرسول، فتوقف عن الحديث إلى أن مات الخليفة عمر فعاد يحدث وقال : ( إني أحدثكم بأحاديث لو حدثتكم بها زمن عمر لضربني بالدرة). وظل أبو هريرة يأتي بالأحاديث حتى الفترة التي عاشها بقصر معاوية في الشام.
وفي أحاديث ( الآحاد ) أحاديث من كانوا في سن الصغر عند وفاة الرسول، ويزيد عددهم على العشرة، منهم عبد الله بن عباس، وكان عمره عند وفاة رسول الله عشر سنوات، وبلغت الأحاديث التي رويت عنه في كتب الصحاح والسنن ( 1660 ) حديثا، قال انه سمعها من النبي (ص) مباشرة، وبعض هذه الأحاديث تنسخ أحكام القرآن كما هو في أحكام الإرث.
ان أحاديث ( الآحاد )، التي قيل ان النبي (ص) أفضى بها إلى بعض أصحابه على انفراد، لا تشكل من وجهة القواعد التشريعية، تشريعا عاما لجميع المسلمين، لأن من أبسط الشروط في كل تشريع، قديما وحديثا، هو إعلانه على الناس لكي يلتزموا به ويعملوا بأحكامه. وان الإسرار به إلى شخص أو شخصين على انفراد لا يعطيه صفة التشريع العام الملزم لجميع الناس,
ولذلك كانت أحاديث ( الآحاد ) وحول جواز الأخذ بها منذ عهد الصحابة موضع خلاف بين الفقهاء. وقد كان الخليفة أبو بكر يرفض الحكم بالحديث إن لم يشهد اثنان على الأقل انهما سمعاه من النبي (ص). وقد نحا هذا المنحى الخلفاء الثلاثة الذين جاءوا بعده.
وتعتبر أحاديث ( الآحاد ) عند أغلب الفقهاء أحاديث ظنية، وهي لا ترقى إلى مرتبة اليقين بصحتها، وقد اختلف أصحاب المذاهب على صحة الكثير منها، فما أخذ به بعضهم لم يأخذ به آخرون. وقد روي عن الإمام أبي حنيفة انه لم يثبت عنده سوى سبعة عشر حديثا.
ان موضوع تدوين السنة شغل كثيرا علماء الشريعة في القرنين الثاني والثالث الهجريين بعد أن بقيت طوال القرن الأول بدون تدوين ولا مستند، يكشف الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الموضوعة. وهذا مما جعل نفرا منهم يقوم برحلات إلى أقطار العالم الإسلامي لجمع الأحاديث النبوية المتداولة بين الناس في قطر، والمجهولة في قطر آخر، ومن هؤلاء الإمام البخاري الذي خرج من بخارى، موطنه الأصلي وطاف في البلاد الإسلامية بين بخارى ومصر، ودامت رحلته ستة عشر عاما، جمع فيها – كما يقول – نحوا من ستمائة ألف حديث عن رسول الله، وقال انه كان يحفظ مئة ألف حديث غير صحيح أو ضعيف. وقد اختار في كتابه الذي سماه ( الصحيح ) سبعة آلاف ومئتين وخمسة وسبعين حديثا. وبعد إسقاط المكرر منها لا يبقى فيه سوى أربعة آلاف حديث تقريبا. ولم يذكر شيئا عن بقية الأحاديث الصحيحة التي كان يحفظها.
ويقول مسلم : ( جمعت كتابي الصحيح من بين ثلاثمائة ألف حديث ) بينما لا تزيد أحاديثه على الأربعة آلاف حديث.
وقد نقل عن الإمام أحمد بن حنبل انه كان يحفظ سبعمائة ألف حديث. وتضمن كتابه ( المسند ) نحوا من أربعين ألف حديث.
وكان يفترض أن يقتصر تدوين السنة على ما هو سنة، أي على الأحكام التي تحوي التشريعات العامة والعبادات. ولكن أصحاب الكتب التي جمعت فيها السنة، جمعوا في كتبهم أحاديث كثيرة نسبوها إلى النبي (ص) ليس فيها سنة ولا تشريع ولا عبادة ولا معاملة ولا علم ولا شيء يفيد المسلمين في دينهم أو دنياهم. ودوّن بعضهم أحاديث ينكرها العلم والعقل ولا تقرها الشريعة، وأحاديث تنسخ القرآن وتلغي أحكامه، وأحاديث متناقضة، وأحاديث تمس بمقام النبوة، وقد ذكرنا في بحثنا مجموعة من هذه الأحاديث.
ان البحث في تدوين السنة يكتسب أهمية بالغة في خضم الجدل الذي يقوم حاليا حول تطبيق الشريعة الإسلامية، لأن هذه الشريعة تستمد معظم أحكامها من السنة، وان الملابسات التي تعرضت لها في العصر الإسلامي الأول والخلافات التي قامت حول تدوينها وحول ما دون منها، أضعفت من قيمتها التشريعية وقدرتها على جمع كلمة المسلمين حول شريعة واحدة غير مختلف عليها بالإضافة إلى السلبيات الأخرى التي ذكرناها والتي تجعلها بعيدة عن الوفاء بالحاجات الاجتماعية لعصرنا.
واذا كانت الدعوة الى تطبيق الشريعة الإسلامية في عصرنا تلقى الاستجابة من الطبقات الشعبية الإسلامية، فلأن هذه الدعوة قائمة على استغلال المشاعر الدينية لهذه الطبقات.
ويلخص الكاتب موضوع الكتاب في أنه "يتضمن عرضا تاريخيا للمراحل التي تم فيها تدوين السنة، والملابسات التي قامت حول امتناع الصحابة عن تدوينها، وما تبع ذلك من انتشار الكذب على النبي (ص) وأسبابه، والطريقة التي اتبعها العلماء في القرنين الثاني والثالث الهجريين لجمع السنة الصحيحة وتنقيتها من الأحاديث الموضوعة، والتخبط في جمع أحاديث وأقوال عن رسول الله خالية من السنة وتسئ إلى مقام النبوة.
وقد تناولنا في دراستنا النصوص التي جاءت في السنة عن المعاملات المدنية وأحكام الأسرة والأحكام الجنائية المدونة في الكتب الستة، والخلافات التي قامت بين أصحاب المذاهب حول صحتها وحول الأحكام التي انبثقت عنها."