دراسة: الطائفية والمثقف في لبنان.. شحنات وقنابل قابله للانفجار
الإثنين 20/نوفمبر/2017 - 02:57 م
طباعة
كل ما يحدث في لبنان يصب او ينبع من الطائفية .للاسف هذه هي حقيقية مؤكدة بفعل التاريخ والتنظيم الدستوري اللبناني .وعلي ارض الواقع بعد الازمة التى سببتها استقالة سعد الحريري من السعودية يعود الحديث مجددا عن الطائفية التى تعد في وقت الاستقرار النسبي والقليل مصدر ثراء وغني في لبنان .وتعد نفسها وقت القلق المستمر والكثير مصدر للانفجار .من هنا تاتي اهمية الدراسة التى اعدها الكاتب اللبناني " احمد بزون " ونشرت في العدد الاخير من مجلة الفيصل السعودية .لانها تكشف الكثير عن واقع لبنان الذى يرقد علي برود وقنابل والغام وتناولت الدراسة الطائفية من زاوية المثقفين وجاء فيها
لا يمكن الكلام عن المثقف اللبناني والطائفية من دون معرفة فصول التاريخ الطائفي المتجذر في لبنان، واستكشاف هذه النبتة السامة التي تفرخ حروبًا كل مدة من الزمن، ولا شك في أن تنوع الأديان والمذاهب في لبنان الذي نفترض أنه يشكل غنى حضاريًّا وثقافيًّا في هذا البلد الصغير، هو ذاته يشكل أرضًا خصبة لمن يريد استثمار العصبيات الطائفية لمصالحه السياسية، فالحساسيات تخبو وتستعر بحسب مقاييس الربح والخسارة لدى الزعماء اللبنانيين والمحركين الخارجيين.
لقد كانت المرحلة العثمانية من المراحل الطائفية الأكثر خصوبة في تاريخ لبنان، لما مثله العثمانيون من اتجاه إسلامي وضع لبنان في حال تنافر طائفي ومذهبي، فاعتبار السلطان العثماني نفسه خليفة للمسلمين، أخرج المسيحيين من دائرة الرضا والحظوة، كذلك أثرت ارتدادات الصراع العثماني الصفوي في موقف الشيعة تحت الحكم العثماني، ومن ضمنهم شيعة لبنان. ومن هنا بدأ التغلغل الأوربي في المنطقة يتخذ من الطوائف والمذاهب متكأً لمناهضة الحكم العثماني، وبالتالي تطور الوضع ليرث الأوربيون في النهاية تركة الرجل المريض. وفي ظل الحكم العثماني المريض أنشئ «نظام القائم مقاميتين» (1843- 1861م) الذي قسّم بموجبه لبنان (بحدوده السابقة) بين قائمقامية درزية جنوب خط بيروت الشام وأخرى مارونية شماله، ومنذ ذلك الحين بدأ التجاذب الدولي للطوائف اللبنانية، بحيث بدا كأن البريطانيين يدعمون القائم مقامية الدرزية والفرنسيين القائم مقامية المارونية. وقد أتى ذلك بعد الحرب الأهلية الأولى في لبنان التي حدثت عام 1841م بين الدروز والموارنة. ثم أتى نظام المتصرفية بعد أحداث 1860م أيضًا، ليستمر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، الذي تولّت بموجبه الدول الأوربية حماية الطوائف والمذاهب اللبنانية في دولة جبل لبنان، فرعَت فرنسا الموارنة، وروسيا الأرثوذكس، والنمسا الكاثوليك، وإنجلترا الدروز، في حين بقيت الطائفتان السنية والشيعية تحت حكم السلطة العثمانية.
ومع بدء الانتداب الفرنسي عام 1920م، وإعلان «دولة لبنان الكبير» بحدودها الراهنة، بقيت المجالس التمثيلية موزعة على الطوائف، وبقي المسلمون معترضين على انضمامهم إلى دولة تجعلهم أقلية، في حين كانوا في الحكم العثماني في ظل أكثرية مسلمة. وكان الميثاق الوطني أول اتفاق يجمع اللبنانيين على صيغة واحدة في ظل الاستقلال عام 1943م، وُزّعت فيه الرئاسات الثلاث على المسيحيين والشيعة والسنة (عرفًا لا نصًّا) كما هي حاليًّا، في حين وُزّعت الوظائف بنسبة سبعة للمسيحيين مقابل ستة للمسلمين. ورغم أن المادة 95 من الدستور نصّت على اعتبار الطائفية مؤقتة، فإنها استمرت لتكون سببًا أساسيًّا في تجدد اشتعال فصول من الحروب الطائفية، فحصلت أحداث 1956م، ثم الحرب الأهلية عام 1975م، لتتغير صيغة التوزيع الطائفي رسميًّا من خلال مؤتمر الطائف عام 1989م إلى توزيع الوظائف مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك النواب والوزراء، مع تخفيف صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي.
هذا التاريخ الذي يمتد من الحكم العثماني حتى اليوم يشير إلى أن كرة الثلج الطائفية لا تزال تكبر وتكبر حتى يومنا هذا، حتى في بلد الحريات، وإن تغيرت أطراف الصراع، وبات التناحر السني الشيعي يحتل اليوم المشهد السياسي والأمني في لبنان، مع تواري الصراع المسيحي الإسلامي. ويعتبر المفكر المغربي محمد عابد الجابري أن غياب الديمقراطية الصحيحة في لبنان هو السبب: «العلمانية وحرية الفكر والتعبير لا تعوضان الفوارق، كما أنهما لا يمكن أن تخففا إلى الأبد من وقع الظلم الناتج عن استئثار فئة من الفئات بالقسط الأكبر من السلطة السياسية والاقتصادية. لقد كبر جسم لبنان على قميص الديمقراطية الذي أُلبِسه في الأربعينيات، فكان لا بد أن يتمزق ليظهر الجسم على حقيقته، جسمًا مريضًا بالطائفية» («الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، 1996م، ص 109). ويتابع الجابري تعميم الفكرة بالقول: «وليس ما يجري في لبنان سوى نموذج لما يمكن أن يجري في أي بلد آخر يكون فيه توظيف الدين في السياسة حاجة سياسية» (ص 120). هكذا بات لبنان أرض صراع طائفي بغيض، وباتت الأحزاب الطائفية هي الفاعلة في السياسة المحلية، وهي التي تستقطب الأجيال الجديدة، بعدما كانت هذه الأحزاب تتقاسم الحضور السياسي مع أحزاب يسارية وعلمانية. على أن هذا الصراع ما كان ليحتدم لولا الاحتضان الدولي له.
مثقفون ضد الطائفية
خلال تلك المراحل التاريخية كانت مواقف المثقفين مشتتة، لكن عددًا كبيرًا من الأسماء المعروفة كانت ضد الطائفية والمذهبية، بدءًا من أحمد فارس الشدياق (1804-1887م) المعروف بتمرده على الأديان وتحرره وابتعاده من العصبيات، و«تجوّل» بين الطوائف والمذاهب، وقد جاء في كتابه الشهير «الساق على الساق في ما هو الفارياق»: «وأنتم يا سادتي الحكام والمشايخ والكبراء والمطارنة جربوا مرة أن تجتمعوا بأهلكم وأزواجكم مع أهل جيرانكم.. وأن ترفعوا فرق المذاهب من بينكم فذلك أدعى لكم إلى الحظ والسرور» (ص 474)، ثم جبران خليل جبران، الذي هاجم رجال الدين وحمَّلَهم مسؤولية الانقسام، ومارون عبود، شيخ النقاد العرب في لبنان، الذي اختار لابنه اسم محمد رفضًا للعصبيات الطائفية، وصولًا إلى ميخائيل نعيمة وسواه الكثيرون، وتوفيق يوسف عواد الذي استشرف الحرب الأهلية الطائفية في لبنان في روايته الشهيرة «طواحين بيروت». وتحضرنا مجلة «الأديب»، لصاحبها ألبير أديب، التي كانت لها مكانة في الصحافة الأدبية (1942 – 1982م)، وكان مبدؤها الابتعاد من الطائفية والسياسة، مثلها مثل عدد من المجلات الأدبية التي ظهرت في تلك الحقبة، وكان همها أن تصل إلى كل المثقفين العرب بانتماءاتهم الدينية والمذهبية كافة، ونذكر منها «الآداب» و«شعر» و«الثقافة الوطنية»، ولعل التنوع الطائفي فيها يدل عليه ضمها أدباء ومفكرين بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم، ولذا رأينا من أعضاء «الأديب»: الشيخ عبدالله العلايلي والشيخ إلياس خليل زخريا، والدكتور نقولا فياض، ونور الدين بيهم، والشاعر محمد علي حوماني، والشاعر صلاح الأسير، وألبير أديب. واستمرت على نهجها الوطني والقومي حتى إقفالها.
تبدل وجه الحرب
صحيح أن الطائفية في نصوص الدستور اللبناني وأعرافه بقيت عبارة عن عبوات معدة للتفجير في أي ظرف مناسب، لكن الحرب الأهلية التي انفجرت عام 1975م، وكان الوجود الفلسطيني المسلح سببًا وحجة لتسريع اشتعالها، كان ظاهرها بين اليمين ذي الطابع المسيحي واليسار الذي احتضن المقاومة الفلسطينية وتحالف معها في حربها ضد العدو الإسرائيلي، وباطنها الغليان الطائفي، وقد استمرت فصولها الأخيرة طائفية بشكل مكشوف، بعدما تبلورت الأطراف وظهرت قوى أكثر جذرية من تلك التي انطلقت مع الحرب مع مساهمة ياسر عرفات في تفريخ ميليشيات سنية وشيعية (المرابطون وحركة أمل مثلًا) بعد جولات من الحرب، فتهمش دور القوى العلمانية وذابت أخيرًا في المد الطائفي. ويصف المفكر اليساري فواز طرابلسي الوضع من زاويته: «في عام 1975م كان في لبنان مشروع تغيير جذري، توّج عقدًا كاملًا من التحركات الشعبية غير المسبوقة في تاريخه. ما لبث الحراك من أجل التغيير أن تحوّل إلى حرب أهلية» (جريدة «السفير» 10 إبريل 2013م).
ما يهمنا هنا أن نركز على هذه المرحلة التي استمرت من بداية حرب 1975م ولمّا تزل حتى يومنا هذا، تتفاوت بين حروب صغيرة وكبيرة، مسلحة مرة وسياسية كيدية مرة أخرى. يرى أدونيس، (في مقالته الأسبوعية «مدارات» جريدة «الحياة» 20 نوفمبر 2003م) أن «الطائفة، اليوم، في بيروت، تخرج من «دِينيّتها» وتصبح حزبًا سياسيًّا. إنها ظاهرةٌ تُضْمِرُ تطوّرًا يقلب جميع الأسس التي قام عليها لبنانُ – البدايات. بل يمكن القول: إن لبنانَ هذا مهدّد بخطر الانتهاء». ومقارنة بين بيروت الأمس واليوم، «كانت الطائفيّة في لبنان تملك عَقْلَ الإنسان، واليوم أخذت تملك جسمَه كذلك. أصبح اللّبناني أسيرَ طائفته على نَحْوٍ كامل، عقلًا وجسمًا. صار مستعبَدًا في عمق أعماقه. مجرّدَ رَقْمٍ، مجرّدَ شيء. وفي هذا تلتقي البنية الطائفيّة بالبنية الفاشيّة». والمثقفون ليسوا بعيدين من هذا الواقع، ففي هذه المرحلة التي كان الانقسام فيها آخذًا شكلًا ملتبسًا، عشية هذه الحرب الأهلية، كان اليسار اللبناني أكثر استقطابًا للمثقفين، مسلمين ومسيحيين؛ إذ كانت أحزابه علمانية، يعبر فيها المسيحي عن وجوده تمامًا مثل المسلم، ويضم أصحاب التوجه القومي العربي والقومي السوري والأحزاب الماركسية. وكانت المقاومة الفلسطينية قد استقطبت عددًا من المثقفين العرب، الذين أتوا إلى بيروت، إما هربًا من جور الأنظمة، أو طوعًا للتعبير عن قناعاتهم، ولا ننسى أن بيروت كانت في الستينيات والسبعينيات عاصمة الثقافة العربية، لما كانت تتمتع به من حريات هي خبز المثقفين وحاجة إبداعهم وما تعنيه من انفتاح على الغرب.
وهنا لا بد من أن نذكر أسماء مثقفين عرب كُثُر كانوا في طليعة اليسار والفضاء الثقافي العربي، من أمثال محمود درويش، وأدونيس، وخالدة سعيد، ونزار قباني، ومؤنس الرزاز، وسعدي يوسف، وعبدالوهاب البياتي، ومحمد الماغوط، وسواهم كثر بدأت بيروت تفتقدهم واحدًا تلو الآخر مع تقدم أعمال الحرب. وكان من اللبنانيين خليل حاوي، وسهيل إدريس (مؤسس مجلة «الآداب») وحسين مروة، وفواز طرابلسي، وأحمد بيضون، وعلي حرب، وعباس بيضون، ومرسيل خليفة، وروجيه عساف، ونضال الأشقر، وسواهم من الأسماء اللامعة، في حين مثل التيار القومي اللبناني شارل مالك، وسعيد عقل، وكمال الحاج، وفؤاد أفرام البستاني وسواهم، وقد شارك مالك وعقل في تأسيس الجبهة اللبنانية التي ضمت ميليشيات الأحزاب المناهضة لعروبة لبنان والمقاومة الفلسطينية والاتجاهات اليسارية اللبنانية.
تحولات
ولا شك في أن طبول الحرب عندما قرعت وتلاطمت أمواج حقدها حصلت تحولات كثيرة على المستوى الثقافي، يمكن اختصارها فيما يأتي:
أولًا- بدأ النشاط الثقافي في بيروت يضعف شيئًا فشيئًا، حتى إن بعض الأطراف السياسية طلبت من مثقفيها الانخراط في المعارك العسكرية.
ثانيًا- شهدت الساحة الثقافية هجرة عدد لا بأس به من المثقفين، ولا سيما الذين يعملون في الصحافة، إلى قبرص والخليج العربي ولندن وباريس بشكل أساسي.
ثالثًا- بدأ دور بيروت الثقافي يضعف، ومن ثَم بدأت تفقد شيئًا فشيئًا لقبها كعاصمة للثقافة العربية.
رابعًا- بدأت القدرة الشرائية تتراجع مع تدهور الليرة اللبنانية، خصوصًا في السنوات التي تلت اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982م ووصولها إلى العاصمة بيروت، وانسحاب المسلحين الفلسطينيين، وسحب عرفات الأموال التي كانت لفتح في البنوك اللبنانية، وقدرها 13 مليار دولار أميركي.
خامسًا- بدأ الفرز الطائفي بين المناطق يتبلور، وبدأ احتساب مثقفي كل منطقة على الطرف السياسي المهيمن فيها، وإن بقيت بعض الأسماء بعيدة من الانتماء المباشر لأي طرف، والمثل الساطع على ذلك بول شاوول الذي كان زمن الحركة الطلابية مع اليمين اللبناني (حركة الوعي) المنفتح على الحوار، وطاردته «الكتائب اللبنانية» في المنطقة الشرقية (المسيحية) من بيروت، فلجأ إلى المنطقة الغربية، وبقي محافظًا على استقلاليته فيها. وفي حوار معه في مجلة «المجلة» (23 نوفمبر 2013م) قال: «رفضت طائفية طائفتي، ولم أذهب لتأييد طائفة أخرى حين بدأت الحروب الطائفية والمجازر الطائفية. أنا أعتبر أن الطائفية هي سرطان لبنان، وكل طائفي هو عدو للبنان».
سادسًا- شهدت المنطقتان الغربية والشرقية حال انقطاع في النشاط الثقافي إلا ما ندر، حين ساهم الراحل منح الصلح في مد جسور التلاقي مع «الحركة الثقافية- أنطلياس»، عبر الكاتبين عصام خليفة وأنطوان سيف. وكان هذا الجسر من الجسور الثقافية النادرة التي تصل المناطق، في حين كانت الجسور التجارية في نشاط مستمر لم ينقطع، وكذلك الجسور السياسية، حيث بقيت مؤسسات الدولة مستمرة في أداء مهامها، وإن بمزيد من التآكل والاهتراء.
سابعًا- لما ترافقت الحرب الأهلية مع عدوان إسرائيلي دائم على أرض الجنوب اللبناني بشكل أساسي، برزت ظاهرة «شعراء الجنوب»، وانتشرت في العاصمة اللبنانية، وكان من بينها: محمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، ومحمد العبدالله، وحسن العبدالله، وجودت فخرالدين… إلخ. لكن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م كان من شأنه أن يغير شعار «كل الجهات الجنوب» الذي طرحه أمين عام المجلس الثقافي للبنان الجنوبي حبيب صادق، ولما اشتد عود الشعراء الشباب، وباتت أسماؤهم معروفة في العالم العربي استصغروا التسمية على أنفسهم، وراحوا يرفضونها عبر وسائل الإعلام حتى زالت.
ثامنًا- تدهورت الروح الوطنية، ذلك أن الانتماء إلى الطائفة بات أولوية، ويأتي الوطن في مرتبة ثانية. يقول علي حرب واصفًا الإسلامي الأصولي بأنه: «يستحيل أن يكون مسلمًا ومواطنًا، ويستحيل عليه مثلًا أن يكون مسلمًا ولبنانيًّا أو سوريًّا أو مصريًّا أو فرنسيًّا أو سويسريًّا… لأن من يفكر ويعمل على هذا النحو، يأتي الدين عنده أولًا، وما عداه يعمل لخدمته، وإلا كان محل استبعاد أو رفض أو إدانة» («المصالح والمصائر، 2010م، ص166).
شحنات طائفية
لا شك في أن الحرب الأهلية التي لم تهدأ تردداتها حتى الآن في لبنان، وقد شهدت مراحل ما بعد «اتفاق الطائف»، الذي نفترض أنه أنهى فصول الحرب، تفجيرات مختلفة للوضع الأمني ونزول المسلحين إلى الشوارع، ولا سيما في المرحلة الأخيرة من الحرب الطائفية التي تبدلت بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري من حرب بين المسلمين والمسيحيين إلى حرب بين السنة والشيعة، وقد شهدت الحرب الأهلية في فصولها الأخيرة ما قبل الطائف تشظيًا ضمن الطائفة الواحدة في حروب طاحنة بين أمراء كل طائفة وأحزابها، وهو ما جعل التعصب للطائفة أو المذهب أكثر تشددًا، وبرز كتّاب كثر يلمّعون بكتاباتهم الطوائف والمذاهب، وينبشون أخبار المنسيين من العلماء والفقهاء والقديسين الذين ينتمون إلى هذه الطائفة أو ذاك المذهب. وفي تلك المدة شهدت معارض الكتب ظهورًا واسعًا للكتب الدينية، وباتت هي الأكثر مبيعًا وجذبًا، وانكبت دور النشر على طباعة المزيد منها، وإحياء الكتب الدينية القديمة التي يزيد أصحابها التعصب تعصبًا، كذلك انكب عدد كبير من الكتّاب على تلميع تاريخ كل طائفة وشخصياتها، حتى إن مطابع لبنان اشتغلت على تصدير عدد كبير من شحنات الكتب الدينية في تلك المدة إلى الأوساط السنية والشيعية في العالم العربي.
وإذا أردنا التمعن أكثر في معارض الكتب، فقد شهدت المنطقة الشرقية معرضًا مسيحيًّا يبرز فيه حضور دور نشر مسيحية أو ظهور الكتاب المسيحي، تقيمه ولمّا تزل بشكل سنوي «الحركة الثقافية- أنطلياس» برعاية رئيس الجمهورية (المسيحي)، وقد استوقفنا رقم جمهور «معرض المعارف العربي الدولي» الذي أقامه حزب الله، وجذب قرابة ربع مليون نسمة في نسخته الثانية والأخيرة، وإذا كان هذا المعرض برعاية السيد حسن نصرالله (الشيعي)، فقد كان هناك معرض آخر برعاية رئيس مجلس النواب الشيعي أيضًا، هو معرض اتحاد الناشرين اللبنانيين، الذي توقف هو الآخر، وبقي «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» (أول معرض كتاب عربي) الذي يقام برعاية رئيس الحكومة (السني) هو المعرض المركزي، الذي لم يكن له عندما تأسس عام 1956م أي طابع طائفي أو مذهبي، وكان ولمّا يزل يديره النادي الثقافي العربي، إلا أن تحولات السياسة جعلته يبدو منحازًا إلى هيمنة تيار «المستقبل» عليه، بعد بروز العصبيات المذهبية، وتجاذب أحزاب الأمر الواقع الطائفية المذهبية للهيئات والمؤسسات والأندية الثقافية والاتحادات المهنية. غير أن هذه العصبية في المعرض الأخير بدأت تخف بعد إلغاء التحديات الأخرى.
اتحاد الكتاب اللبنانيين
اتحاد الكتاب اللبنانيين الذي أسسه سهيل إدريس مع قسطنطين زريق ومنير البعلبكي وأدونيس وبقي أمينًا عامًا له لأربع دورات متتالية، وكان الشيوعيون قبل الحرب، وخلال المدة الأولى منها يتحكمون في هيئته الإدارية، ولم يكن للطائفية مكان فيه؛ سقط في يد حركة أمل الشيعية اليوم، وشلت قدراته، وأفرغ من مضمونه الثقافي، وبتنا لا نسمع به إلا وقت الانتخابات أو إذا أضيف اسمه إلى نشاط جامع، والظريف في الأمر أن الأمانة العامة فيه تمنح من قبل الحركة، شكلًا، لكاتب مسيحي أو سني؛ ذلك لأن المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الذي تأسس عام 1964م، بقي بقيادة الشيعي (غير الطائفي) حبيب صادق. وتمتد يد حركة أمل إلى جمعية الفنانين التشكيليين وجمعيات مهنية أخرى، في سياق الصراع في العمل النقابي العام في لبنان، الذي بات بأكثريته خاضعًا لأحزاب طائفية، بعد عزل الأحزاب العلمانية. المؤسف بالفعل أن يصبح اتحاد الكتاب ذو السمعة الممتازة بين الاتحادات العربية سابقًا مطيةً طائفيةً وفئويةً، بل يصبح مشلولًا، وقد انفضّ عنه كبار الكتاب، وفلتت فيه التنسيبات المزيفة، ويمتطي الزعيم الطائفي وزبانيته ظهور الكتّاب حتى يبروها. والمضحك أن انتخابات جمعية الفنانين التشكيليين تنجب مرة رئيسًا أمينًا عامًّا مسيحيًّا، ومرة أخرى مسلمًا، على أن يكون المسلم مرة سنيًّا وأخرى شيعيًّا. هكذا تتحول الجمعية إلى لعبة شطرنج يتحكم فيها لاعب واحد يوزع الأدوار، وينغمس فيها عدد كبير من الفنانين الذين نراهم خارج الجمعية وفي محترفاتهم ونتاجاتهم الفنية بعيدين كل البعد من أي منطق طائفي، في حين يتقدمون إلى الانتخابات بكل عدتهم الطائفية والمذهبية، كأنما هو انفصام الأمر الواقع.
جِبِلَّة المثقف
إن وجود المثقف بين «بلوكات» طائفية مقفلة، وبين هذا الكم الهائل من المواطنين اللبنانيين المنتمين، سياسيًّا، إلى طوائفهم، ينذر بالشؤم، وكذلك وجود مسؤولين في الحكم ليس لديهم مهمة سوى أن يمثلوا طوائفهم أفضل تمثيل، وأن «ينتزعوا» حقها في قرص الجبنة. ويتوهم البعض، في كثير من الأحيان، في اعتبار المثقفين شريحة فوقية برجية وعاجية وفضية وذهبية بعيدة من الطين والمعادن الرخيصة، تترفع على الخلافات السياسية التي تجري على الأرض، أو تبتعد من الحدث والواقعة لتتمسك بالجوهر وبالجوهر فقط! بينما الحقيقة أن المثقفين ينقسمون ويتناحرون ويتوالدون ويتقاتلون ويتحزّبون ويتعصبون، وأحيانًا يكونون أشد فتكًا لكونهم أكثر معرفة. منهم المسالم الأخضر، ومنهم النازي الأحمر. من الخطأ أن نتعامل مع المثقف على أنه طينة مختلفة أو جِبِلَّة صنعها الله من غير التراب، أو التطلع إلى المثقفين كفئة منزّهة عن التفكير بالمصالح الفردية، المصالح التي يفكر فيها المسؤولون والموظفون وذوو العصبيات العمياء. صحيح أن تجنب الإصابة بمرض الطائفية يحتاج إلى وعي وثقافة، غير أن هذين العاملين ليسا كافيين للتحصن من المرض، فوعيٌ كثير قد يقود إلى الطائفية ووعي قليل قد يقود إلى تجنب الإصابة بها. ولا يستغربنّ أحدٌ، فزعماء الطوائف معظمهم مثقفون أيضًا، والثقافة ليست، كما يأمل كثيرون، حصنًا لأصحابها من الأمراض ومنها مرض الطائفية.
وبذلك تؤكد الدراسة علي تاصل الطائفية في لبنان لكونها متجذرة تاريخيا ومعاشة واقعيا وتجعل كل لحظة في هذا البلد قابله للانفجار