جورج صليبا والفكر العربي والعلوم الإسلامية
الإثنين 26/فبراير/2018 - 08:44 م
طباعة
حسام الحداد
چورچ صليبا مفكر لبناني الأصل مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو أستاذ للعلوم العربية والإسلامية في جامعة كولومبيا, نيويورك, الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1979، له عدة كتب وأبحاث حول تاريخ العلم العربي ترجم منها للعربية (العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية) و(الفكر العلمي العربي: نشأته وتطوره).
حصل جورج صليبا على بكالوريوس علوم في الرياضيات في 1963 وماجستير في الآداب في 1965 من الجامعة الأمريكية في بيروت. وحاز بعد ذلك على درجة الماجستير في اللغات الشرقية والعلوم الإسلامية من جامعة كاليفورنيا-بركلي. وحصل على العديد من الجوائز, منها جائزة تاريخ العلوم من أكاديمية العالم الثالث للعلوم في عام 1993, و جائزة تاريخ الفلك في عام 1996 من مؤسسة الكويت لتنمية العلوم.
ويقول صليبا عن نفسه في صفحته الخاصة على الويب: "لقد درست تنمية الأفكار العلمية في الفترة من أواخر العصور القديمة حتى أوائل العصر الحديث، مع التركيز على مختلف النظريات التي واكبت الحضارة الإسلامية وتأثير تلك النظريات على علم الفلك في أوروبا.
وقد قام صليبا بعمل أبحاث حول إمكانية نقل العلوم المعرفية في الرياضيات والفلك من العالم الإسلامي إلى أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر
أجرى معه الحوار كل من يوسف الصمعان ومحمد الرشودي، لصالح مجلة الحكمة والذي فضل فيه جورج صليبا ان يبدأ بقوله "ان المقارنة بين ما حدث في أوائل إرساء دعائم الدولة الاسلامية وما تسمّيه بالديانتين السابقتين، اليهودية والمسيحية، هو مجحف بعض الشيء لان مثل هذه المقابلة تتناول النواحي الدينية فقط بدون الرجوع الى الابعاد الحضارية التي نشأت هذه الديانات الثلاثة في رحابها. ثانيًا هذه الديانات الثلاثة لم تكن على نفس السوية التي يمكن مقارنتهم جميعًا من خلالها. إنما ما يجب التركيز عليه هو أن نشوء الدولة الاسلامية عبر ترسيخ منهج الخلافة التي اتت به هذه الدولة الناشئة – هذا المنهج الذي لم يكن يعرف في الديانات الاخرى – كان عليها أن تلتزم بتأسيس دولة تحضن جميع مقوماتها وتؤمّن لهم الاسباب المعيشيّة والإدارية. ما حدث من انتقال علوم وقيام مقومات دولة جديدة جاء نتيجة لهذا الالتزام وهذه التطورات الحياتية ولم يحدث استجابة لمتطلبات الدين الاسلامي لكي يصح مقارنة ما حدث بما كان يحدث في الديانات الاخرى.
وحول بداية الترجمة من اليونانية واللاتينية والسنسكريتية وغيرها من اللغات الى العربية هل كانت بمبادرات فردية من حاضرة العرب والمسلمين؟ أم كانت قرارا من أعلى الهرم ‘السلطة في دمشق ثم بغداد ‘؟ يقول "ان ما حدث في أوائل الدولة الاسلامية من ترجمات تَعمُّ معظم اللغات التي كانت معروفة آنذاك، والتي كان فيها بعضًا من العلوم التي كانت الدولة الناشئة بحاجة إليها، ذلك لم يحدث من قبيل حب الاطلاع وإنما حدث نتيجة لاعتبارات إدارية ومعيشية كانت الدولة الناشئة تتعهد بإرسائها. ولذلك لم تكن هذه المبادرات مبادرات فردية حبًا بالاطلاع على إنتاج الحضارات الاخرى. بل كان استجابة لرغبات القيمين على نصاب الدولة الذين كان نشوء الدولة وتركيزها على دعائم متينة إحدى غاياتهم. فديوان العراق الذي تُرجم إلى العربية أيام خلافة عبد الملك بن مروان – والذي كان حسب تقديري بدايةَ حركة الترجمة من لغة الى أخرى كما يقول النديم في كتابه “الفهرست” – قام به والي عبد الملك على العراق آنذاك، الحجاج ابن يوسف. وكان الحجاج هو الذي استدعى المترجمين واختارهم للقيام بهذا العمل الذي أثنى عليه الخليفة عبد الملك فيما بعد. فحركة الترجمة التي توسعت فيما بعد كانت بداياتها تُحاك في كواليس الإدارة التي كان الخليفة ووزراؤه وكتّابه على رأس الهرم منها.
وحول ممانعة اهل الحديث لنقل العلوم الغربية قال جورج صليبا "لا شك أن أي تحرُّكٍ على المستوى الاجتماعي العام – كمِثْل قيام حركة ترجمة تتبناها السلطة على أعلى مستوياتها – لا بد وأن يكون له تَبِعات تطال جميع مرافق المجتمع. ولما كانت حركة الترجمة قد تركزت بالدرجة الاولى على النواحي العلمية والإدارية التي تطال الحياة اليومية لم يكن فيها مجال لرجال الدين يتعاطون من خلاله مع ما كان يحدث حولهم إلا فيما كان يتعلق بزعزعة سلطتهم الدينية التي لم تكن قد ترسخت بعد. فقيام الحركات الفكرية الكلامية كحركة المعتزلة وغيرها في تلك الفترة لم تكن سوى رد فعل سياسي بالدرجة الاولى ومحاولة لإعادة تمركز هذه القوى سياسيًا بالنسبة إلى المؤسسات التي كانت السلطة تُرسي قواعدَها. ولم يكن يصعب تصور الوضع آنذاك حيث كانت السلطة الدينية تعيد صياغة علاقتها بالسلطة المدنية، خاصة في الفترة التي لم تعد فيها سلطة الخليفة سلطة دينية كما كانت من قبل، أيام كان الخلفاء هم أنفسهم من الصحابة ويتمتعون بقسط وافر من السلطة والمرجعية الدينية. ولكن لما كان معظم الترجمات يطال العلوم المدنية والفلسفية بالدرجة الاولى كان لا بد أن ينعكس ذلك ويفسّر على أنه تقليص لدور السلطة الدينية التي كانت هي نفسها تشعر أن جميع نواحي الحياة منوط بها. هذا التناحر السياسي، الذي تمثّل بما كان يدور من الحروب الكلامية كحركة المعتزلة والرد عليها من خلال قيام حركة المحنة وغيرها التي لحقتها في العصور التالية لم يكن إلا محاولة من السلطة السياسية المدنية أن تأخذ لنفسها بزمام الحياة الدينية أيضًا وتُقَوْلبها لكي تتمكن من جميع مرافق الحياة وتضعها تحت سلطتها. ولكن برأيي المتواضع لم يكن كل ذلك ليؤثر على مسار عملية الترجمة التي بقيت تنصبّ على النواحي الفلسفية والعلمية كالطب والفلك والهندسة والحساب الخ. ولكن لا يخفى على أن هذه النواحي العلمية كانت أحيانًا تطال المجالات الفقهية التي كان لعلماء الدين القول الفصل فيها كمثل تحديد قبلة الصلاة، ومواعيدها، والبت في رؤية هلال رمضان، وتقسيم الميراث وما يتبعه على سبيل المثال لا الحصر. وكان ذلك يؤدي في بعض الأحيان إلى منافسة بين الفريقين، فريق علماء الدين، وفريق إدارة الدولة في جميع مرافقها. كل ذلك كان تنافسًا إيجابيًا بنّاءً في معظم الاحيان وكان يستفيد كل فريق من إنجازات الفريق الآخر كما يستفيد أيضًا من إخفاقاته."
وحول البيروني ونقده لأرسطو قال "أولاً لقد آن الاوان أن نترك الاخذ برأي سارطون ومن لف لفه فيما يتعلق بتصنيف العلوم العربية وتقييمها. إذ أن سارطون هذا لم يكن يُلمّ بالعلوم العربية ولا كان هو من الباحثين فيها بالدرجة الاولى. ولكن رغم هذا التحفظ لا بد وان نعترف له بالدور الذي مارسه من خلال عمله في مقدمته لتاريخ العلوم العام بأن أفرد فيه حيزًا للعلوم الاسلامية لا يستهان به. اما فيما يتعلق بالبيروني، فذلك أمر في غاية الأهمية. لأن البيروني، برأيي المتواضع، لم يكن له دور فلسفيّ ذو ابعاد عميقة كما كان لابن سينا وغيره من الفلاسفة. هذا أولاً، وثانيًا لم يحظَ البيروني بالاهتمام عينه الذي حظي به باقي الفلاسفة العرب من امثال ابن سينا وابن رشد وباقي الفلاسفة التي كانت حركة الترجمة من العربية إلى اللاطينية تتمحور حولهم، إذ لم يترجم أيّ عمل من أعمال البيروني إلى اللاطينية على حد علمي. لذلك أرى أن أعمال البيروني قد أُهملت ولم تلقَ نصيبها من النقاش بين المستشرقين وبين أبناء الحضارة الاسلامية عينها، اللهم إلاّ في تلك المجالات التي كانت تطغى عليها المعالم النظرية المحضة من فلك ورياضيات وغيرها. اما مراسلاته الفلسفية مع ابن سينا فإن أي منصف يعرف أنها لم ترتقِ إلى مستوى النقاش الفلسفي الجدّي، وكان لابن سينا فيها حصة الاسد إذ كان هو السابق والأعمق في هذه المجالات.
كذلك لم يكن للبيروني أعمال تطال صميم الرد على الارسطية كما كان لابن تيمية في الرد على المنطقيين، وهو في صميم فلسفة العلوم، ولا كان له على ما يبدو اهتمام خاص بالرد على نظريات بطلميوس الفلكية التي كانت هي الأخرى بحد ذاتها خاضعة للنواميس الارسطية التي رد عليها بشكل أعمق باقي علماء الفلك اللاحقين للبيروني من أمثال مؤيد الدين العرضي(1266م)، ونصير الدين الطوسي (1274م)، وابن الشاطر الدمشقي (1375م)، وغيرهم وفي قمتهم شمس الدين الخفري (1550م). هؤلاء كان لهم الباع الطولى في تقويض قواعد الفلك الارسطي الذي كان قد صاغه بطلميوس القلوذي في القرن الثاني الميلادي وكانوا يطالون هذه الردود على أرسطو من خلال نقاشهم لبطلميوس. والبيروني، على ما يبدو، لم تكن تستهويه هذه الابحاث النظرية وبقي يعمل دائبًا في إطار نظريات الفلك والرياضيات التطبيقية التي لم تحظَ هي الاخرى بالأهمية التي حظيت بها الاعمال النظرية الفلسفية. لذلك بدا وكأن أعماله لم تلقَ الاهتمام الكافي كأعمال الآخرين.
أما أعماله الانثروبولجية في كتابيه “الآثار الباقية عن القرون الخالية” و”تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة” فهي بدون شك من أروع ما أنتجته الحضارة الاسلامية في هذا المجال. ولكن وللأسف ما زالت هذه الاعمال تبحث عن الدارسين الكفؤ الذين يستطيعون أن يتقصوا أبعادها العلمية وإبراز قيمتها الحقة."
وحول المآسي التي تعرض لها العديد من علماء الإسلام (ابن سيناء، وابن رشد، وابن الهيثم، وغيرهم) والتي جعلت الكثيرين ينادون بأن هؤلاء نوابت لا يمكن الاستشهاد بما قدموه للحضارة، بل وينكرون ان ثمة حضارة إسلامية، تعليقكم؟ يقول: "الحديث عن المآسي وما كان يطال العلماء والفلاسفة منها شيء، والانتاج العلمي شيء آخر. إذ مهما تشدق من يتشدق بأولوية الدور الذي لعبه علماء الدين الذين كانوا يسيطرون على مرافق الحياة في الحضارة الاسلامية، ولفترات طويلة من الزمن، فلا يستطيع أحد أن يسلب مثلاً ابن الهيثم حقه في إرساء علم البصريات على قواعد صحيحة ما زال يُعمل بها حتى يومنا هذا. كما لا يستطيع أحد أن يسلب غاليليو حقه في إرساء قواعد علم الطبيعيات الحديث بالرغم من الاضطهاد الذي تعرض له على يد السلطات المسيحية الدينية. أضف الى ذلك أن هؤلاء العلماء كانوا يعيشون في مناخ حضاري تطغى عليه الأبعاد الدينية، ولكنهم لم يكونوا هم القيّمين على الأبعاد والمرافق الدينية لتلك الحضارة ولا هم أدلوا بدلوهم فيها في هذه المجالات.
اما فيما إذا كانوا ممن يُستشهد بهم فيما قدموه للحضارة عامة فهذا لا ينكره إلا المتعسف الجاهل. وقد بيّنت في كتاب “العلوم الاسلامية وقيام النهضة الاوروبية” أن المنصفين من هذه الحضارة الأوروبية الذين تُنسب إليهم نشأة العلوم الحديثة كانوا يعترفون بشكل أو بآخر بالإرث الذي استقوا منه من مرافق الحضارة الاسلامية، ويذكرون هؤلاء العلماء بالاسم عندما كانوا يعرفون أسماءهم. اما فيما إذا كان هناك حضارة إسلامية أصلاً أم لا، فهذا تساؤل لا يصدر إلاّ عن جاهل غير منصف، متعصب أعمى، ونحن بغنى عن الرد عليه والانحطاط معه إلى أسفل المتاهات التي يذهب إليها هؤلاء القوم.
وحول رؤيته لمفهوم القياس كقدرة كامنة فطرية في العقل، أم هو أداة منطقية جاءت مع ترجمة أرسطو؟ قال: "أنا لا أشك مطلقًا أن القياس المنطقي الذي يؤدي إلى معارف جديدة هو من طبيعة البديهة والفطرة الإنسانية. وإلاّ لما دعانا القرآن الكريم بقوله سبحانه وتعالى “أفَلَمْ ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّنّاها وما لها من فروج”. وهذا قبل أن تستحدث ترجمات منطق أرسطوا وغيره بزمن طويل. أما أن يقوم نقاش طوال فترة الحضارة الاسلامية حول دور القياس في الامور الفقهية والعقيدية وفيما إذا كان يجب الاخذ به أو يُستحب أم لا فهذا في قمة الجدال النظري. وإن دل على شيء فيدل على عمق الفهم الذي تبنته الحضارة الاسلامية لمكانة هذه المفاهيم كالقياس وغيرها وابعادها.
وأضاف "أولاً أنا لا أدعو إلى هذا النمط من التفكير ولا أُسلّم بأن هناك عقلاً عربيًا وعقلاً إغريقيًا وعقلاً بابليًا وعقلاً فرعونيًا الى آخره. وإلا لما انتهينا من تعداد العقول وإقامة البوطقات التي تحجم فيها هذه العقول. بل ارى الإنسان، وحتى البعضَ من الحيوان، في جميع أطواره يتمتع بقدرة يميّز فيها العالم حوله، ويهتدي بالقياس والتجربة والاستدلال إلى الطريقة الفضلى لفهم محيطه وتقديره. فهذا العقل، أينما وُجد، يقيس، يعتبر، يستقي النتائج، يستدرك، يستقرئ، الخ، وكلها من مظاهر فطرة التمييز التي يتمتع بها المرء منذ ولادته. لا شك أن هذا الانسان يطوّر هذه الفطرة بأن يتعلم أساليب جديدة لم يكن يعرفها بالفطرة الخام، ولكنه ليس لوحًا ممحيًا يُكتب عليه من جديد. ولا يتلقى عقلاً خاصًا به،كان ذلك العقل عربيًّا أو غيره."
وحول تفسيره ان العرب، وحتى من الأكاديميين الأجانب، من يرى أن العرب اقتصروا على ترجمة العلوم وتنقيتها، ثم نقلت إلى اللاتينية (ربما يمكن وصف بيتر ادمسون من هذا التيار)، والتركيز على آن العرب أفادوا من الاغريق فقط قال: "هذا أيضًا هراء. فالذي يقول بهذا القول لا يعرف شيئًا عن طبيعة النقاش الذي قام في ظلال الحضارة الاسلامية والذي تناول الأخذ والرد والرفض والتعديل والبناء الجديد الذي حدث إبان أخذ الحضارة العربية الاسلامية بمنابع الفكر الإغريقي الذي كان موردًا اساسيًا من موارد الفكر فيها. وهذا الفكر الاغريقي لم يكن هو الآخر بمفرده معزولا عن المعارف الاخرى التي وردت عليه من الشرق كالفكر الفارسي، والجنوب كالفكر الهندي وغيرهم وغيرهم. ومن ينظر الى أعمال علماء القرن التاسع الميلادي يرى توًا معالم النقاش الذي رد به العلماء في الحضارة الاسلامية على الافكار الواردة وهم كانوا حينها ما يزالون في طور الترجمة يتلقفون مصادرها ويردون عليها في آن واحد. كل ذلك كان يحدث إضافة إلى اجتراح علوم بديلة جديدة كعلمي حساب المثلثات، والجبر، على سبيل المثال لا الحصر. وهما العلمان اللذان ارسيت قواعدهما في الفترة عينها ولم يكونا معروفين ومتطورينمن قبل كما عرفهما وطورهما علماء القرن التاسع الميلادي في الحضارة الاسلامية.
وحول ترجمته أحد أجزاء تاريخ الطبري ‘أزمة الخلفاء العباسيين’، وهل كان هذا الاختيار لهذه الحقبة الزمنية مرتبطا باهتمامه في تاريخ العلم عند المسلمين قال: "طبعًا قمت بذلك عن سابق تصور وتصميم. إذ كنت وقتها أريد أن أستكشف الحياة اليومية ومتطلباتها في تلك الفترة بالذات عندما كانت حركة الترجمة في إبان عزها وازدهارها. وكنت أعرف مسبقًا أن ابن جرير الطبري كان من أحرس المؤرخين الذين لم يتركوا شاردة أو واردة إلا وأدرجوها وأفسحوا المجال لاستكشاف أبعادها على أرض الواقع. فهذه الترجمة هي التي أوضحت لي بشكل لا يطاله الشك أن السلطة خلال النصف الاول من القرن التاسع الميلادي في الحضارة الاسلامية كانت تقوم، بجميع أبعادها تقريبًا، على أكتاف عمال الديوان والطبقة الوسطى من المقربين من الخلافة. وتبيّن لي أيضًا من خلال هذه الترجمة مدى عقم الدور السياسي للخليفة آنذاك حيث كان ينطبق عليه تمامًا قول الشاعر: “خليفة في قفص/ بين وصيف وبغا/ يقول ما قالا له /كما تقول الببغا”.
وحول إلقاء اللوم على الإمام الغزالي كمسبب لانحدار الحركة العلمية الإسلامية تكاد مشتركا بين المستشرقين وبعض المؤرخين والفلاسفة العرب، وتعتبر محاجتك في تبرئة الإمام الغزالي من هذا الطرح من أبرز الدفوعات، ليتك تشرح للقارئ حيثياتك، خصوصا أن الغزالي وقتها كان المرجع الأهم من خراسان إلى المغرب (المالكي)، حتى إن ابن تاشفين لم يدخل الاندلس حتى استفتاه. قال: "لا شك أن الإمام الغزالي قد ظُلم من قبل المستشرقين، ومع الأسف ظُلم أيضًا من قبل أبناء جلدته الذين هم أيضًا مستشرقون في عقولهم وفي وعيهم المعرفي الذي أخذوه عن المستشرقين. أما ما قمت أنا به فلم يكن دفاعًا عن الإمام الغزالي بشكل مباشر بل ناديت بالدعوة إلى استقراء الأحداث والأدلة العلمية التي ما زالت مصادرها بين أيدينا. وعندما ننظر إلى هذه الشواهد، في جميع الاتجاهات العلمية، من فلك ورياضيات وطب وهندسة وصناعة حيل أي ميكانيكا لا نرَ سوى الشاهد تلو الشاهد الذي يدل على عمليات الإبداع الأصيلة التي اجترحها علماء كان جميع انتاجهم العلمي يحصل في الفترة الواقعة بعد عصر الغزالي والممتدة من القرن الثالث عشر الميلادي حتى السادس عشر وما بعد. وفي كتاب نشرته لي جامعة نيويوك سنة 1994 تحت عنوان “تاريخ علم الفلك العربي: نظريات حركات الكوكب خلال عصر الاسلام الذهبي”، بينت فيه كيف أن النظريات الجديدة الفلكية بالدرجة الاولى – وهو مجال تخصصي – جاءت في الفترة التالية للغزالي، وكيف أنه يتوجب علينا بناءً على ذلك نقل تسمية العصر الذهبي للعلوم الاسلامية إلى فترة ما بعد الغزالي وليس قبله كما كان يدعي معظم المستشرقين. وبعد استعراض جميع هذه المنجزات العلمية في الفترة اللاحقة للغزالي حتمت علي الأمانة العلمية أن أتساءل: كيف يمكن أن أفسّر مثلاً جميع هذه النتائج الفلكية الأصيلة كنظريات العرضي (1266م) والطوسي (1274م) وابن الشاطر (1375م) وشمس الدين الخفري (1550م) وغيرهم وغيرهم الكثيرين وجميعهم جاء في الفترة اللاحقة للغزالي إذا بقينا نفترض أن الغزالي كان قد تمكن من القضاء على العلوم في الحضارة الاسلامية حسب زعم المستشرقين ومن يتبعهم من جهّال أبناء الحضارة الاسلامية؟ فدفاعي عن الغزالي هو بالحقيقة دعوة إلى إعادة الاعتبار إلى هذه المنجزات العلمية التي جاءت لاحقة له، لكي تُعطى هذه المنجزات حقها من النقاش والتقييم الصحيح.
وحول الاحتكار لبراءات الاختراع (patent) وانه محرم عند المسلمين مما أضر التكسب من الكشف العلمي. وأن في هذا قصورا عند فقهاء الإسلام في “فهم الحالة القانونية” التي لم تكن متكيّفة إلى الحد الكافي لتكون شرطا لاستمرار النهضة العلمية قال: " في هذا المضمار كنت أحاول الرد فقط على من كان يقول إن العلوم العربية انتهت مع عصر الغزالي. وبعد أن بينت الملامح العلمية للأصالة الإبداعية في الفترة التالية للغزالي التي عدت إليها مؤخرًا في كتابي الجديد الصادر عن دار الفرقان (2015) تحت عنوان “معالم الاصالة والإبداع في الشروح والتعاليق العلمية المتأخرة: أعمال شمس الدين الخفري (1550م)”. بعد هذا كان علي أن أبيّن كيف أن العلوم الاوروبية استطاعت أن تنهض في حوالي القرن الخامس الى السادس عشر الميلاديين بينما بقيت علوم جميع الحضارات الأخرى كالصينية والهندية والاسلامية تبدو وكأنها توقفت عن التطور؟ وبعد التعمق في هذا البحث بالذات بدا لي أن الحضارة الوحيدة من هذه الحضارات الثلاث – وقد كانت جميعها آنذاك على نفس السوية العلمية حتى أواخر القرن الخامس عشر تقريبًا – كانت هي الحضارة الاوروبية التي تميزت عن الحضارتين الاخريين بأنها بدأت تصدر المكافآت المادية بشكل براءات اختراع للعلماء في تلك الفترة بالذات. وبعد التمحيص والدرس تبين لي أهمية دورة رأس المال في الانتاج العلمي. وقد عالجت هذه الظاهرة في الفصل الأخير من كتابي عن “العلوم الاسلامية وقيام النهضة الاوروبية”. وعندها أيضًا تبين لي مدى الاجحاف الذي ابتدعته الحضارة الاوروبية في إصدارها البراءات العلمية ومكافأة العلماء على حساب المجتمعات التي كانت تؤمّن لهؤلاء العلماء إمكانية التفوق على منافسيهم بالدرجة الاولى. وتبينت أيضًا أن البراءة ليست سوى شكل من أشكال الاحتكار الذي ذمّته وما تزال تذمّه جميع حضارات العالم قاطبة باستثناء الحضارة الاوروبية الحديثة التي ابتدعته. والدليل على أن حتى الحضارة الغربية الحديثة عينها تعي مدى الاجحاف الحاصل من جراء عملية الاحتكار هذه يكمن في أنها تُصدر البراءة لمدة زمنية محدودة جدًا. وإلاّ لماذا هذا التحديد الزمني لو لم يدركوا أن في جذور عملية إصدار البراءة إجحاف لا يمكن تحاشيه. عندها دعوت المجامع الفقهية الاسلامية إلى دراسة عملية البراءة هذه ليروا فيما إذا كان بالإمكان تغليب مبدأ المصلحة العامة فيها من أجل مكافأة العلماء وتحفيزهم على الانتاج العلمي الجديد دون أن يُلحق ذلك إجحافًا بالمجتمعات الحاضنة لهؤلاء العلماء المبدعين. أنا أتصور مثلاً إمكانية إصدار براءة إلى عالم يجترح اختراعًا جديدًا ولكن يجب أن يُشترط عليه أن يعيد جزءًا من القيمة التي يكسبها هذا العالِم إلى مؤسسات خيرية كمثل تلك التي ضمنها الفقه الاسلامي في سياق مؤسسات الأوقاف الخيرية التي تعيد الى المجتمع بعضًا من حقوقه وترفع عنه الإجحاف اللاحق به. لكن حلولاً كهذه يجب أن تقونن وأن يسري مفعولها بتمام الشفافية لكيلا تبقى مجتمعات الدول الناشئة ناشئة فقط دون التمكن من المشاركة في الحياة العلمية والاقتصادية العالمية. هذه فقط رؤوس أقلام، وللحديث فيها شجون ومتاهات، أدرك تمامًا مدى خطورتها. آمل أن أعالجها في كتاب مستقل في المستقبل.
وحول الربط بين نظرية ابن الشاطر وحركة الأجرام عند كوبرنيقس قال: "هنا يجب أن نكون على حذر فلا ندّعي ما ليس قابلاً للبرهان. إذ يجب أن نعترف أولاً وأصلاً أن كوبرنيقوس (1543م) كان حقًا هو الذي اعاد الاعتبار الى نظرية مركزية الشمس الذي كان قد اقترحها عالم الفلك اليوناني القديم المدعو أريسطرخوس (القرن القالث ق.م.) والتي لم يُؤخذ بها لعدم توفر البرهان القاطع على صحتها آنذاك. ولكن كوبرنيقوس هذا – ولاسباب تتعلق بالحلول الرياضية النظرية لحركات الكواكب كما تبدو للعيان أثناء الرصد – رأى أن ما كان ابن الشاطر الدمشقي (1375م) وغيره من علماء الفلك العاملين في الحضارة الاسلامية السابقة قد اتوا به مفيدًا له في حل المشاكل الرياضية التي كان كوبرنيقوس يواجهها. وهكذا إذا صحّ القول استعار كوبرنيقوس من أعمال ابن الشاطر وغيره – التي سنعود إليها للتو – بعض هذه الحلول الرياضية وترك نظرية مركزية الارض التي كان ابن الشاطر وجميع علماء الفلك السابقين لعصر نيوتون يعملون بها – باستثناء اريسطرخوس كما أشرنا. ما بيّنته أنا ورعيل من مؤرخي علم الفلك الذين كثر عددهم في السنوات الخمسين الفائتة هو أن أعمال كوبرنيقوس في الفلك الرياضي كانت تتقاطع مع الانتاج الفكري الذي كان سائدًا في الحضارة الاسلامية السابقة له على ثلاثة محاور في غاية الأهمية:
المحور الاول يبدو واضحًا في أعماله عندما أعاد صياغة الهيئة الفلكية لدوران أفلاك القمر التي نرى من خلالها ما نراه من هذه الحركات بالتجربة والرصد. وهنا نرى أن الهيئة التي استقرّ رأي كوبرنيقوس عليها وتبنّاها – دون القول بأنه ابتدعها بنفسه – لحركات القمر هذه، كانت هي عينها الهيئة التي كان قد اجترحها ابن الشاطر الدمشقي قبله بحوالي مائة وخمسين عامًا تقريبًا والتي كانت منذ البدء إبداعًا جديدًا لم يسبق إليه ابن الشاطر كما أقرّ بذلك هو بنفسه.
المحور الثاني يدور حول إمكانية تفسير حركات الكواكب العليا، أي كواكب زحل والمشتري والمريخ ويضاف إليهم كوكب الزهرة، لتشابه حركاتهم جميعًا، عبر الهيئة التي كان مؤيد الدين العرضي (1266م) قد ابتكرها من بنات أفكاره هو الآخر قبل حوالي مائتي سنة قبل كوبرنيقوس. وكان قد أدخل فيها نظرية رياضية جديدة لم تكن تعرف من قبل. وإذا بكوبرنيقوس يستخدم هذه الهيئة نفسها التي كان العرضي قد ابتكرها مع تعديل بسيط بنقله مركزية الهيئة من الارض إلى الشمس. وهذه النقلة ليست بذات أهمية من الناحية الرياضية المحضة التي كان يعمل عليها كوبرنيقوس إذ كان مدارها في أخذ أحد طرفي الخط الواصل بين الارض والشمس على أنه الطرف الثابت والآخر هو المتحرك. ويمكن عكس ذلك بسهولة تامة دون تغيير معطيات الهيئة الاخرى. وهذا الخيار يجوز في الحالين دون أن يؤثر على باقي المدارات الرياضية التي تتألف منها الهيئة التي تصف حركات الكواكب.
المحور الثالث، وهو الأهم وبيت القصيد، كان محور حركات كوكب عطارد البالغ الصعوبة من الناحية الرياضية. وهنا أيضًا نرى كوبرنيقوس يتبنى الهيئة عينها التي كان قد اجترحها ابن الشاطر الدمشقي قبله بحوالي مائة وخمسين عامًا. ولكنه لم يفهم مفادها تمامًا إذ فسرها بأنها توجب أن يظهر كوكب عطارد، للراصد على الارض، في حضيضه، عندما يكون الكوكب على بُعد تسعين درجة من اوجه، عوضًا عن أن يكون على بُعد مائة وعشرين درجة كما كان يراها ابن الشاطر وبطلميوس من قبله. والدارسون لهذا المحور، من أمثال سويردلوف الذي قام بترجمة أوائل أعمال كوبرنيقوس الفلكية وشرحها، يرون أن هذا الخطأ هو الدليل الدامغ الذي يُظهر مدى تأثير ابن الشاطر على أعمال كوبرنيقوس.
فمن خلال هذه المحاور يمكن القول إن النتائج التي توصل إليها كوبرنيقوس أثناء صيغته لهيئته الجديدة لم تكن مُشابهة إلى هذا الحد من المشابهة لأعمال الفلكيين العاملين في رحاب الحضارة الاسلامية من قبيل وقع الحافر على الحافر والصدفة. بل تُبين مدى التأثير المباشر الذي تأثر به كوبرنيقوس خصوصًا وأنه على ما يبدو كان يأخذ أفكارًا عن ابن الشاطر لم يكن قد أدرك أبعادها تمامًا.
ولكن الامر الأكثر أهمية والذي ما زلنا نجهله هو كيف توصل كوبرنيقوس الى الحصول على هذه النتائج ليتأثر بها مع افتراض أنه لم يكن يعرف العربية على حد علمنا ولا كانت أعمال الفلكيين العاملين في الحضارة الاسلامية التي استلهمها وأخذ عنها قد ترجمت إلى اللاطينية.