تطور مفهوم التوحيد من النزاعات المذهبيَّة إلى القتل باسم الله
الجمعة 30/أغسطس/2019 - 12:43 م
طباعة
ارتبط مفهوم افتراق الفرق والنزاع على الحقيقة الدينيّة بتبنّي تصوّرات مختلفة حول الذات الإلهيّة جعل غاية كلّ فرقة الإقناع بأنَّها صاحبة الحقّ المطلق وأنَّ سائر الفرق من الهالكين. ثمَّ أضحى مفهوم التّوحيد في عصر النهضة وسيلة لمواجهة المشاكل التي فرضها الواقع الاستعماريّ وما كان يهدّد الهويّة من أخطار خارجيّة. أمَّا مفهوم الحاكميّة، فهو نتيجة منافسة رمزيّة بين أنظمة مختلفة، خلفيَّات أصحابها سياسيّة بالأساس. وقد سوّق له دعاته في إطار مشروع الإسلام السياسيّ الذي أوّل الدّين تأويلاً سلطويَّاً، فجعل من أهم أولويّاته الوصول إلى السلطة باعتبارها الوسيلة الأقوى لنشر الإسلام وتطبيق الشريعة. ولكنَّ تلك الدعوة لم تكن تخلو من إهدار لأبعاد أنطولوجيّة للدّين، وصراع صداميّ مع المختلفين سياسيّاً باعتماد التّكفير والعنف.
هذا ما قدم به عمار بنحمودة بحثه المتميز الذي تضمنه ملف خاص بعنوان " التوحيـد بين الأصل الإسلامي والتأويل الجهادي: الأعلام والنُّصوص" صادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، والذي تناول فيه الباحث تطور مفهوم التوحيد بداية من افتراق الفرق والمذاهب وصولا الى نشأة مفهوم الحاكمية مع حركات الاسلام السياسي مرورا بمفهوم التوحيد عند ابن تيمية وفي عصر النهضة العربية.
وحسب الباحث قد اعتبر الأشعريّ (ت 330هـ) مثلاً أنَّ الفرقة النّاجية هي التي تقول إنَّ الله على عرشه ولا تجسّمه، وأنْ لا يقال إنَّ أسماء الله غير الله، وأن تثبت مشيئة الله، وأن لا يشرك في قدرته وخلقه بأحد، وهو صاحب القضاء والقدر، والإقرار بأنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنَّ المؤمنين دون غيرهم يرون الله يوم القيامة بالأبصار، ولا يكفّرون أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه، ويقرّون بشفاعة النبي وبعذاب القبر والحوض والصراط والبعث والمحاسبة والوقوف بين يدي الله، ويقرّون بأنَّ الإيمان قول وعمل، وأنَّ الله ينزل الناس حيث شاء ثواباً وعقاباً، وينكرون الجدل والمراء في الدّين والخصومة في القدر والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتبعون الثقات من العلماء، ويقرّون بفضل جميع الصحابة دون الخوض فيما شجر بينهم، ويصدّقون ما رُوي عن النبيّ من أحاديث وبفضل الأئمة، ولا يخرجون عليهم بالسيف، وأن لا يقاتلوا في الفتنة، ويؤمنون بتفاصيل البعث كما تصوّرها السنّة، ويكفّرون السحرة ومسائل أخرى..، وانطلاقاً من هذا المبدأ حاول علماء الكلام الإقناع بأنَّ من شروط التّوحيد اتّباع نهج الفرقة الناجية في تصوّرها للذات الإلهيّة. ورغم أنَّ كلّ الفرق تتّفق في وحدانيّة الإله، فإنَّها تفترق حول تصوّره تشبيهاً أو تجسيداً أو تجريداً أو تنزيهاً، وتتجادل حول صفاته. ولذلك فقد كان الوجه الآخر للتوحيد تكفير المخالفين واعتبارهم مارقين وهالكين، من ذلك مثلاً أنَّ الغزالي (ت 505هـ) شمل الفلاسفة بالتكفير سواء الدهريّون والطبيعيّون والإلهيّون على أساس إخلالهم بشروط التوحيد. واعتبر أنَّ أصل الإيمان هو الإيمان بالله واليوم الآخر. وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر، وإن آمنوا بالله وصفاته. فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميّين كابن سينا (ت 427 هـ) والفارابي (ت 339هـ) وأمثالهما. وقد ظلّت ثنائيّة التّوحيد والتّكفير أو النّجاة والهلاك تحكم علم الكلام على اختلاف المذاهب فيه اعتزاليّة أو أشعريّة أو شيعيّة إسماعيليّة أو صوفيّة.
وينتقل بنا الباحث إلى مفهوم التوحيد عند ابن تيمية فيؤكد أنَّ ابن تيميّة لا يضيف جديداً في تأويل مفهوم التوحيد. فكلامه استعادة لمواقف أهل السنَّة. وقائمة الكفّار هي ذاتها التي أجمع عليها علماء تلك الفرقة، مثل الباطنيّة الذين اعتبرهم من الملاحدة لتأويلهم الصلوات الخمس بأنَّها الاطلاع على أسرارهم وتأويلها، والصيام بأنَّه كتمان أسرارهم، والحجّ بأنَّه السفر إلى شيوخهم. وقد أقرّ ابن تيميّة مبدأ التفويض بديلاً عن التأويل في المسائل التي اعتبرها مستعصية على الفهم البشري، وعدّها من الجوانب الغيبيّة التي يكتفي فيها المؤمن بترديد ما وصف به الله دون السؤال عن الكيفيّة. "ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض ـالذين يوجبون فيما نفوه، إمَّا التّفويض وإمَّا التأويل المخالف لمقتضى اللفظ - قانون مستقيم". وإنَّ شرط استقامة الإيمان والتوحيد أن يصدّق المؤمن بما جاء في الكتاب والسنَّة، "وإن لم يفهم معناه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمّة وأئمّتها، مع أنَّ هذا الباب يوجد عامّته منصوصاً في الكتاب والسنّة، وهو متّفق عليه بين سلف الأمّة. وما تنازع فيه المتأخّرون نفياً وإثباتاً، فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه، حتّى يعرف مراده. فإذا أراد حقّاً قبل، وإذا أراد باطلاً ردّ، وإن اشتمل كلامه على حقّ وباطل، لم يقبل مطلقاً، ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسّر المعنى". وتبدو خطورة هذا الموقف في كونه يعتبر الحقيقة الدينيّة مكتملة، وأنَّ على المؤمن أن يؤمن بميراث السلف بكلّ علله وتناقضاته، وأن يستقيل عقله، فالإجماع كفيل بالإجابة عن كلّ أسئلته، وأنَّ كثيراً من الأسئلة لا بدَّ أن تتوارى أمام اللفظ.
وحسب الباحث قد أعاد الفكر الإسلاميّ الحديث صياغة تصوُّره للتوحيد وسط تنوّع كلاميّ وإرث خلافيّ يحتاج إمَّا للاصطفاف ضمن خانة من الخانات الطّائفيّة التي تؤمن بأنَّ تأويل الفرقة النّاجية للتوحيد هو التأويل المثاليّ للحقيقة الدّينيّة المؤدّي إلى الفوز في الدنيا والآخرة، أو هو صياغة لرؤية حداثيّة تسعى إلى التوفيق بين الرؤى المتنازعة على الحقيقة الدينيّة، أو إبداع مفاهيم جديدة قد تمثّل وجهاً من وجوه التجديد في الخطاب الدّيني.
ولقد ساهم محمَّد عبده (ت 1905 م) من خلال تعريبه لرسالة السيّد جمال الدين الأفغاني (ت 1897 م) في الردّ على الدهريّين. وهي رسالة تعكس اهتمام المفكّرين المسلمين منذ أواخر القرن التاسع عشر بأثر انتشار المذاهب الطبيعيّة الملحدة الواردة من الغرب في تقويض الإيمان التقليديّ، وكانت غايتها إثبات قيمة الدّين وضرورته للإنسان وأثره في رقيّه وأثر الإلحاد في انحطاطه. وقد حاول الأفغاني في هذه الرسالة إثبات أنَّ الإنسان أشرف المخلوقات، ويرسّخ يقين المؤمن بأنَّ أمّته أشرف الأمم، ويعتقد أنَّ حياة الإنسان رحلة نحو عالم أرفع ودار أوسع.
وقد حاول محمَّد عبده في رسالته إعادة التوحيد إلى نقائه وتجريده من الخلافات المذهبيّة والخلفيّات السلطويّة، وغايته أن يتحرّر العقل الإسلاميّ من عقليّة التخاصم ويحوّل التوحيد إلى عامل تجديد. وبذلك فقد حاول مفكّرو الإصلاح استعادة قوَّة التّوحيد، وتجاوز الخلافات التي أدّت إلى توظيفه في الصراعين المذهبيّ والسياسيّ بين الفرق الإسلاميّة المختلفة أو بين أصحاب السلطة ومعارضيهم. وقد اختلفت مقاصد عبده عن الأفغاني أو محمّد إقبال وتباينت تصوُّراتهم للتوحيد. فقد كان الوعي قائماً بأهمّيَّة إعادة النظر في مفهوم التوحيد من أجل مواجهة ما يهدّد المسلمين من مخاطر وما يطمحون إليه من مشاريع النهضة، ولكنّ سبل تحقيق تلك الأهداف كانت مختلفة. ويبدو أنَّ الخلفيّات المذهبيّة كان لها أثرها، وإن توارت وراء خطاب دينيّ وعقليّ سعى إلى تجاوزها.
وأخيرا حسب الباحث ظهر التوظيف السياسيّ لمفهوم التوحيد بشكل صريح وجليّ في الحركات الإسلاميّة المعاصرة مع فكر المودودي (ت 1979 م) الذي ميّز بين حكم البشر للبشر. وقد ارتبط مفهوم التوحيد بتطبيق شريعة الله والإعراض عن حكم البشر. ومعنى ذلك أنَّ تطبيق القوانين "الإلهيّة" في السياسة يعني تحويل الطاعة إلى الله. وأوّل خاصّية للدولة الإسلاميّة التي دعا إليها المودوديّ أنَّه "ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدّولة نصيب من الحاكميّة، فإنَّ الحاكم الحقيقيّ هو الله والسّلطة الحقيقيّة مختصّة بذاته تعالى وحده، والذين من دونه في هذه المعمورة إنَّما هم رعايا في سلطانه العظيم". والقانون الذي يحتكم إليه البشر في إطار هذه الدولة هو قانون سماويّ مقدَّس يستوجب الطاعة وتنفيذ أمر الله في أرضه.
وحسب قراءة الباحث للمودودي فإنَّ تطبيق شرع الله يعني مخالفة الحكم الديمقراطي القائم على سلطة الشعب. فالديمقراطيَّة في نظره ليست من الإسلام في شيء، فضلاً عن كونه يعتبر أنَّ تطبيق حكم الله لا يعني سلب الناس حريّتهم، لأنَّ الله أعطى الناس في شريعته حريتهم الفطريّة، وأنَّ الحكم إذا قام على رأي العامّة غلبت عليه الميول والعواطف والشهوات وضاعت حدود الله. وقد صار التوحيد بذلك مرتبطاً بالحاكميّة. وهي لا يمكن أن تقوم إلّا بتطبيق حدود الله التي تشمل جميع المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ويكون الحاكم الأعلى فيها هو خليفة الله في أرضه، ولذلك فحاكميّة الله تعني الإقرار بدولة الخلافة. وهو يعتقد أنَّ تطبيق تلك الحدود يحقّق العدالة الاجتماعيّة، وهو ما تعجز الأنظمة الشيوعيّة حسب زعمه عن تحقيقه.
يبدو مفهوم الحاكميّة توظيفاً سياسيّاً للتوحيد. فجملة صفات الحاكميّة مثلما تصوّرها "المودودي" وسلطاتها مجتمعة في يد الله، وليس في الكون أحد يحمل هذه الصفات أو ينال هذه السلطات. فهو قاهر كلّ شيء، مسيطر على كلّ شيء، بيده كلّ السلطات، حكمه نافذ ولا قدرة لمخلوق على ردّه أو تأخيره. ولذلك فحقّ الحاكميّة في الأمور البشريّة له وحده، وليس لأيّة قوّة سواه - بشريّة أم غير بشريّة - أن تحكم بذاتها أو تقضي بنفسها. ويقرّر القرآن الكريم أنَّ الطاعة لا بدّ أن تكون خالصة لله، وأنَّه لا بدّ من اتّباع قانونه وحده، وحرام على المرء أن يترك هذا القانون ويتبع قوانين أخرى أو شرعة ذاته ونزوات نفسه. فتلك أحكام جاهليّة كافرة.
وهنا يبدو ارتباط مفهوم التّوحيد بالمقاصد السلطويّة التي تتمثّل في إقامة دولة الإسلام على أنقاض الأنظمة الجاهليّة الكافرة أمراً مرتبطاً بواقع ذاتيّ عاشه "سيّد قطب" وبظروف تاريخيّة جعلته يتبنّى موقفاً صداميّاً ضدّ الأنظمة الأخرى. ولكنَّه في الحقيقة يمتدّ إلى أصول قريبة تتمثّل في فكر "أبي الأعلى المودودي"، وأصول قديمة وظّف فيها مفهوم التوحيد للردّ على الفرق الأخرى التي لم تكن مجرَّد فرق افترقت في تأويلها للذات الإلهيّة عمَّن اعتبروا أنفسهم أصحاب الفرقة الناجية والتأويل الصحيح، وإنَّما جماعات سياسيّة مثّلت منافساً للسلطة القائمة وحركات ثوريَّة هدّدت الكيان السلطويّ. ومثلما كانت القائمة إلى حدود ما ألّفه "ابن تيميّة" مرتبطة بالباطنيّة والمشبّهة والمجسّمة، فقد تحوّلت مسمّيات الفرق بتحوّل المنافسين الرمزيين على الحقيقة الدينيّة. ولكنَّ المقصد العدائيّ في فكرة التوحيد ظلَّ ثابتاً. فقد صار كفّار العصر من الشيوعيّين والعلمانيّين فضلاً عن الوثنيين واليهود والنصارى أو الأنظمة التي تخرج الدّين من نظامها الاجتماعيّ. فلا خلاص من الجاهليّة إلّا بتطبيق شريعة الله التي قرّرها في نصّه ولا اجتهاد مع النصّ. فإن لم يكن هناك نصّ، جاء دور الاجتهاد عبر قنواته الرسميّة المسيّجة بالإجماع، وهي مقرّرة سلفاً. "فليس لأحد أن يقول لشرع يشرّعه: هذا شرع الله إلّا أن تكون الحاكميّة العليا لله معلنة، وأن يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه لا الشعب ولا الحزب ولا أيّ من البشر، وأن يرجع إلى كتاب الله وسنَّة رسوله لمعرفة ما يريده الله". وقد كانت تلك النظريَّات التي غذّت عقول كثير من شباب المسلمين في حاجة إلى قادح لتحقّق أهدافها وتحقّق حلمها بنشر الدعوة الإسلاميّة ومقاومة الغزاة الكافرين. وقد وجدت تلك الدعوات استجابة ممَّن اعتقدوا في قداستها وآمنوا بمنهجها في تغيير الواقع. فتجسّدت جماعات مقاتلة في الحرب الأفغانيّة ضدّ السوفيات. ثمَّ تحوّلت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى جماعات تعتبر الغرب كافراً وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكيّة. فنفّذت هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ثمَّ استقرّت في أفغانستان وأرض العراق والشام لتعلن من بعد "جهادها" الغزاة الأمريكيين حرباً مقدَّسة ضدّ من اعتبرتهم بغاة من الشيعة والحكّام الطواغيت. وكلّ تلك الحروب كانت، فضلاً عن أسبابها المادّيَّة، نتيجة تأويل لمفهوم التوحيد، كما كانت توظيفاً سياسيّاً جعل من الحاكميّة سلاحاً ضدّ من عُدّوا كفّاراً صليبيين، أو بغاة وطواغيت.