هل ينتج الواقع الردئ أفكار التكفير؟ .. قراءة في كتاب «رؤية جديدة للظاهرة التكفيرية»
الإثنين 20/أغسطس/2018 - 08:48 ص
طباعة
صلاح الدين حسن
إذا كان التكفير موقفًا رديئًا وغير مثمر، إلا أن ذلك يأتي ردًا على واقع ردئ وغير مثمر أيضًا.. يستند كتاب « رؤية جديدة للظاهرة التكفيرية» على تلك الفرضية التي قد تعطي انطباعًا للوهلة الأولى أنها تعطي المبرر لتلك الظاهرة، سيئة الصيت، في التشكل والصعود، بسبب ما تحياه الشعوب العربية والإسلامية من واقع متردٍ.
المؤلفان «اللواء الدكتور محمد المصري والدكتور أحمد رفيق عوض»، قد احتاطا لذلك فنفيا أن يكونا قد قصدا هذا المعنى «التبرير» ، وخاصة عندما وصفا الظاهرة محل الدراسة بــــ «الكونية المتواصلة» إلا أن ذلك لم يكن كافيًا.
إذ أنهما يعودان لتأكيد أن الظاهرة يشتد عودها في لحظات الانكسار، والانحلال، والضعف، وتضمر، وربما تختفي، في حالات القوة والصعود، فيظهر التكفير في لحظات المواجهة، والإقصاء، والظلم، والتهميش، والفقر، والعنصرية، والقتل، وتختفي في لحظات التكافؤ، والعدل واحترام الآخر، واستيعابه، ومشاركته، وبهذا يبدو التكفير كأنه عطب متوقع، أو انكسار محتمل أو حداثة ممكنه خلال السيرورة التاريخية، وهو ما شهدناه في كل الحضارات والجماعات على استمرار التاريخ.
لكن السؤال الذي لم تطرحه الدراسة هو: هل هذه الفكرة تخترق الجسد الجماعي للأمة الإسلامية تحديدًا، دون غيرها، في لحظات ضعف المناعة، والتي تتأتي في مرحلة الضعف، والهوان ، أو أن الفكرة باتت تمثل أحد مكونات هذا الجسد، وأنها تحتاج لمبضع جراح حتى يستأصلها؟
فلم يتمرد «الخوارج» الأوائل على علي بن أبي طالب، لأنهم تعرضوا لظلم وقمع، بل لأنهم تأولوا الآية الكريمة «إن الحكم إلا لله»، ثم أطلقوا حكم التكفير على مرتكب الكبائر، بل هناك من كفَّر مرتكب الصغائر، مستندين لآية « بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».
لكن الكتاب يرى أن «التكفير المتهافت والهش والمتناقض فكريًّا وعقائديًّا، يجد له مسوغات وتبريرات كثيرة في حالات الضعف والانهيار والظلم واشتداد القتل وشيوع الفقر، ولهذا فإن«النقاء» الذي يطلبه التكفيري و«العودة إلى الأصول» الذي يتحول إلى شعار براق هو تعبير عن غياب العدل والمساواة، وهو تعبير عن اختلال العلاقة بين المحكوم والحاكم، وكأن ظاهرة التكفير تقودنا إلى التعرف على أسباب الخلل بأشد الطرق مأساوية ودموية».
فلماذا إذن نمت أفكار التكفير بقوة في مصر في ظل حكم الرئيس الراحل أنور السادات، الذي سمح للإسلاميين بالانتشار بقوة في الفضاء العام والمفتوح، حتى أن تنظيم الفنية العسكرية، الذي يتبني أفكار التكفير، كان قد حاول تنفيذ محاولة انقلاب على الحكم، بعد لحظة انتصار على الدولة العبرية، في عام 1973م، ثم انتهت المأساة بقتل «السادات» شخصيًّا في عام 1981م.
في موضع آخر يتساءل الكتاب : «أليس من الممكن أن تكون أسس الحكم الرشيد هي الوسائل الأكثر صلاحًا وضمانة وسلاسة لدرء بحر الدم المجاني الذي يمكن أن نغرق فيه من خلال قتال التكفير والتكفيرية؟ إن الإيمان بالتعددية السياسية وحقوق المواطن وتبادل السلطة والتوزيع العادل للثروات وسيادة القانون والقضاء النزيه، كل ذلك أساليب ومظاهر قوة تخفف منابع التكفير إلى حد يجعله ضعيفا ولا يستطيع أن يجد أسبابًا كافية للظهور».
لكن الواقع يشير بوضوح إلى أن هذه الجماعات تشرع في عملها وفق أيديولوجية عامة ومجردة، تقضي بحتمية القتال الحتمي والأبدي، حتى ترتفع رايتها فوق البسيطة كلها، ولم يكن ذلك مرهونًا لديهم بحالة الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، برز ذلك بوضوح عندما سأل أسامة بن لادن، زعيم القاعدة السابق، عن ما إذا حاولت «أمريكا»، عقد تفاهمات من أي نوع معه هل يمكن أن يوقف القتال؟ فأجاب بأنه لا يقاتل من أجل الحصول على مكسب سياسي معين، بل هو يقاتل حتى تسود كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» الأرض جميعًا.
ويذهب الكتاب إلى أن ظاهرة التكفير المستفحلة تصبح ظاهرة اعتلال تعمل على تخريب المجتمع والدولة، أي أن التكفيرية الإقصائية التي تكفر كل الناس، إنما تعكس في أحد أوجهها موقفًا عصابيًّا طفوليًّا لا يستطيع فيه أن يميز بين الألوان أو الوقائع أو يمايزها، وهي ذات قوة تدميرية لأنها تقوم على قتل الأمل أو القدرة على الإصلاح، ولهذا فأن الحركات التكفيرية الإقصائية عادة ما تتنهي بعد فترة أو تضطر إلى التعايش بحيث تفقد مبرر وجودها، ولكن الفرضية التي تقوم عليها الدراسة- وحتى تنسجم مع ذاتها- فإنها لا تستسلم إلى حشر كل الظواهر التكفيرية في خانة واحدة أو تحت مسمى مختبر والمجتمع ليس مجرد عينة واحدة.
يشدد الكتاب في مواضع عدة على أن التكفير مجرد «ظاهرة» تاريخية في نهاية الأمر، يعني أن لها أرثًا ومرجعيات ومظاهر وسلوكيات ونهايات أيضًا، إي هي ظاهرة يمكن دراستها والتأمل فيها ومن ثم فهمها أو تأطيرها وصولًا إلى وضع حلول ومقاربات متعددة تخضع للظرفين الزماني والمكاني.
ومع أنه ضرب نماذج بالتكفيريات غير المنتمية للإسلام، إلا أنه لم يوضح بشكل دقيق، كيف تمايزت التكفيرية الإسلامية، على غيرها من التكفيريات، التي تلاشت مع مرور الزمن، أو ظلت تكفيرية منزوعة السلاح في مواجهة مجتمعاتها والآخر.
ومع أن الكاتب يلقي الأسباب الكبرى لظاهرة التكفير في حجر الدولة وواقعها المتأزم، إلا أنه هنا يعود بين سطوره ليضع الكلمات التالية « ولكن هذا لن يحل المشكلة من جذورها أيضًا، حتى لا ندعي السذاجة أو نكتفي بمجرد الستار الجاهز، إذ أن الإسلام على تعدد تفسيراته وتأويلاته يشكل أساسًا دائمًا للتكفير والعمل ورؤية نهائية للدولة والمجتمع والكون ».
ثم يبدأ في التفصيل في موضع آخر : «نستطيع القول أن الإسلام يشكل أساسًا دائمًا للتكفير والعمل ورؤية نهائية للدولة والمجتمع والكون، ونستطيع القول أن الإسلام ومنذ انهيار الخلافة العثمانية وحتى يومنا هذا دخل إلى حلبة الاشتباك السياسي، والفكري مع الدولة القطرية العربية الحديثة، وظلت علاقة الاشتباك والارتباك هذه مستمرة بلا انقطاع، وظل الجدل مشتعلًا بدرجات متفاوتة حول شكل ومحتوى الدولة القطرية والمجتمع العربي، أي أن الخلاف بين الطرفين، لم تغذه الاخفاقات الرسمية والتراجعات المجتمعية، بل غذته فكرة تحقيق الإسلام وترجمته على أرض الواقع، وحتى نذهب إلى أبعد من ذلك، فإن العلاقة بين الطرفين أخذت طابع الاستعداء والعداء الشديدين، الأمر الذي أدى إلى انفجار بشكل دموي كما نراه الآن في العديد من الدول والمجتمعات العربية ».
إن الصراحة والجرأة العلمية، تدعونا إلى القول أنه لابد من نسج علاقة مبدعة وفعالة ما بين الدولة العربية الجديدة- التي قد تنشأ نتيجة للأحداث التي نشهدها منذ العام 2010 وما بين الإسلام، باعتباره المكون الأساسي للمرجعية الفكرية للجمهور العربي على اختلاف مستوياته الحضارية وحتى اختلاف طوائفه ومذاهبة.
اللواء الدكتور محمد
اللواء الدكتور محمد المصري
يرى المؤلفان أن التكفير وإن كانت له جذور اجتماعية وسياسية، إلا أن انفجاره العنيف هذه المرة يأتي أيضًا تعبيرًا عن الأزمة المستحكمة بين الدولة الفاشلة والإسلام، فالدولة القطرية العربية، تحولت بفعل الهزيمة والاستلاب إلى جهة ضاغطة ومسيطرة، وأما الإسلام السلفي فهو غير قادر على تقديم نماذج عصرية للتفاعل مع عالم صغير واعتمادي بين الطرفين، ولهذا هناك أزمة مستفحلة في بنية الصراع، وقد يكون هذا صحيحًا إلى حد ما، إلا أن الأطماع الغربية والاستعمارية التي لم ولن تغادر منطقتنا العربية والإسلامية التقطت هذا الصراع، فحاولت ولا تزال إدارة هذا الصراع وتغذيته أو التحكم في وتيرته من أجل تعزيز وترسيخ وإدامة مصالحها، وعليه فإن الصورة معقدة ومركبة أكثر مما نظن.
ومع التركيز على جدلية الدولة القطرية والإسلام، تظهر في ثنايا الكتاب، الشعور الواضح بحالة العدائية بين الكاتب والقوى الغربية الكبرى، إذ أنه يتعرض في أكثر من مرة، لدور هذه الدول في تغذية الصراع بين التكفيريين ودولهم، دون أن يتحدث بشكل مباشر عن «نظرية المؤامرة ».
ففي أحد السياقات يقول المؤلفان: «في نهاية الأمر، وبالقدر الذي ندين فيه التكفير ووسائله وارتباطاته، إلا أننا نعتقد أن امتلاك القرار، وحيازة القوة، وبناء مجتمع صحي ومعافى، وعدم الارتهان لأجندات شرقية وغربية، وبناء دولة تؤمن بالعدل والمساواة، ومجتمع قادر على التحرير والتنمية، هو الرد الحضاري الأكثر ثباتًا وشمولية في الرد على هذه الظاهرة التي تجر البلاد والعباد إلى هاوية لا يعلم إلا الله مداها».
وفي محاولتهما لرصد المشهد العربي فيما بعد ثورات الربيع: الذي أدى لاستيقاظ الماضي بكل ما فيه من شياطين وملائكة، وبدلًا من تعزيز أو ترسيخ قيم الديمقراطية وتبادل السلطة ومبادئ المجتمع المدني والحقوق الإنسانية والتعددية والوحدة السياسية والجغرافية، وتمثل مبادئ التعاون الإقليمي والدولي وتطوير البنى التحتية وتنفيذ خطط التنمية ورفع مستوى الدخل الفردي والقومي، أدى هذا الربيع إلى انفتاح الباب على مصراعيه للصراع الدموي حول هوية المجتمع والدولة وعلى حقوق الطوائف والمذاهب والأعراق والجهويات، وأدى أيضًا إلى تحويل الأقليم العربي إلى إقليم فارغ من القوى القادرة على حمايته أو صون مصالحه الحيوية إلى درجة أن تنافست الدول الإقليمية والدولية على تمزيقه وارتهانه بشكل يكاد يكون كاملًا.
يرجع المؤلفان هذا الوضع المتردي الذي وصلت إليه تلك الدول إلى غياب الأفكار والشخصيات والأنظمة ذات القدرة على التجميع أو تقديم النموذج، واستدعاء التدخل الغربي بالمال والسلاح والتغطية السياسية، بما يعني تغير النظرة إلى معنى التعاون مع الغربي أو المستعمر القديم.
وتعثر عمليات الدمقرطة والتنمية وتحديث المجتمع وبدأ جدل دموي حول هوية المجتمع والدولة ، وانطلاق حرب الهويات الصغيرة والفرعية بدلًا من هوية جامعة مجمعة، وانعدام الشعور بالأمن وازدياد الفقر وانتشار العنف وانحطاط الخدمات.
ويرى الكاتبان أن هذا الوضع الذي يشكل النتيجة والسبب معًا، سيعمل بالتأكيد حاضنة طبيعية لظهور أفكار متشددة وتكفيرية، كرد عنيف ومتطرف على وضع متطرف من هذا النوع، وحتى لا نقع في إغراء المناهج الغربية البحثية الكثيرة التي تدعي القدرة على تحليل الواقع ومن ثم التنبؤ بالمستقبل.
ويكشف الكاتبان عن المنهج المستخدم في الوصول للنتائج فيؤكدان أنهما اعتمدا على المنهج الثقافي كأداة لتحليل واقعنا الذي نعيش فيه، وهو منهج يسمح بقراءة الظاهرة من خلال مكوناتها الثقافية، ومفاعيلها الذاتية وضمن سياقاتها التاريخية التراكمية، «هذا المنهج يسمح لنا بالاعتماد على كل ما هو مفيد الظاهرة من ناحية الاعتماد على نظريات الأزمات والنظريات الخاصة بظهور القادة والشخصيات الكارزمية والأهم من كل ذلك تأثير الرؤية الإسلامية في الإنسان والمجتمع والدولة ».
هذا يقودنا إلى إشكالية الدراسة، فإذا كانت الأوضاع المزرية والمضطربة هي التي تقود إلى ظهور مثل هذه الأفكار فإن هذه الأفكار بالذات هي التي تعتبر في بعض الأحيان أنها أفكار إصلاحية أو العودة إلى الأصول وتتحول بفعل الزمن والإخلاص والانتشار إلى جزء من التجربة الكاملة للأمة، ويعني هذا أن ما كان يعتبر في حينه إرهابًا أو تكفيرًا يتحول بفعل الزمن أو الانتصار أو الإصرار إلى فكرة لامعة أو أصلية أو ينظر إليها باعتبارها جهدًا أو اجتهادًا يضاف إلى باقي الاجتهادات.
إن هذا يعني أن علينا- على الأقل من الناحية الأكاديمية والنظرية- التعامل مع ظواهر التكفير والتشدد باعتبارها وصمة عار أو تهمة أخلاقية وسياسية وحتى دينية للواقع الذي تنبت فيه، وكلما كان التشدد والتكفير عنيفًا وإرهابيًا وغير مقبول كان الواقع رديئًا وغير محتمل، وهذه إشكالية أخرى، فهل هذا يعني دينية تفوقها فظاعة، ولكن من ناحية أخرى لن نقع في مقولة دينية وقتلهم جريمة دينية تفوقها فظاعة، ولكن من ناحية أخرى لن نقع في مقولة بوش الابن كاملة الغباء والعنجهية بأن ليس هناك فرق بين إرهاب وإرهاب.
ثم يتطرق الكتاب إلى الجانب النفسي لشخصية المكفر، الذي يبدو في وضع مضطرب.. كأنه يريد إعادة تعريف نفسه وترسيخ هويته ليس عن طريق الحوار والتشارك والتسوية، وإنما عن طريق الافتراق والرفض والحذف والإلغاء.
المكفر الذي يريد أن يرى عالمه ينهار، لأنه لا يستطيع الاندماج، ولا يجد ذاته في عالم متغير يعبد السلعة، ويلهث وراء الاستهلاك ويشهد انهيارات العائلة والمؤسسة الحاضنة، عندئذٍ لا يجد المكفر سوى أن يعلن رفضه الكلي.
التكفير هنا- وبهذا المفهوم- نوع من الاغتراب الذي يتخذ شكلًا عنيفًا وصداميًا، والتكفير بهذا المفهوم هوية غير متآلفة ولا منسجمة، لأن هدف التكفير هو الهدم والرفض الكامل، ولهذا يظل التكفير اتجاهًا انفعاليًّا يعبر عن شخصية غير سوية.
لكن ومع ذلك فلم يوضح الكتاب بشكل قاطع ، فيما إذا كان المكفر مريضًا نفسيًّا أم لا؟ وإذا كان مريضًا فعلى أي أسس قد استند، وخاصة أن هناك عددًا من علماء النفس، لم يعتبر أن التكفيريين مرضي نفسيون.