إيران والسياسة الخارجية: خيانة الداخل
الخميس 30/مايو/2019 - 02:29 م
طباعة
حسام الحداد
الكتاب: إيران والسياسة الخارجية: خيانة الداخل
المؤلف: مجموعة باحثين
الناشر: مركز المسبار
عملت طهران خلال أربعة عقود على بناء نفوذها الإقليمي في المناطق التي تنظر إليها كعمق استراتيجي وتاريخي لها، بعدما رفعت "الثورة الإيرانية" بعد انتصارها عام 1979 واستتباب الحكم لنظام ولاية الفقيه، شعار "تصدير الثورة" الذي يُعد أحد دعائم الدولة الدينية في إيران. فسعت إلى استعادة أمجادها الغابرة عبر تعميق حضورها السياسي والمذهبي في الإقليم واتجهت مع الوقت نحو مزيدٍ من "العسكرة"، مستفيدة من الفراغ الإقليمي العربي مع تراجع مصر عن أدوارها، وانتشار الاضطرابات والصراعات الأهلية في أكثر من بلد عربي. أتى ذلك في ضوء حسابات خاطئة قام بها أكثر من طرف إقليمي ودولي، خصوصاً بعد عام 2001 الذي عرف تحولات درامية لم تؤثر في دول الشرق الأوسط فحسب، بل في المشهد الدولي برمته.
ويسعى الكتاب الذي بين أيدينا إلى محاولة فهم الكيفية التي تبني فيها "الجمهورية الإسلامية" استراتيجياتها الإقليمية عبر أذرعها السياسية والعسكرية والاقتصادية والمذهبية، والتي قامت بمراكمتها منذ وصول "الملالي" إلى السلطة على أنقاض نظام الشاه. لقد قادت إيران جبهات عدة في مجالها الحيوي من أجل تثبيت نفوذها والدفاع عما تسميه مصالحها القومية، وأفادت من بعض الشيعة في عدد من الدول العربية تحت حجة "المظلومية والتمكين" مما أدى إلى زعزعة استقرار هذه الدول مع استخدامها لوكلاء محليين وإقليميين ولمجموعات ومنظمات مسلحة عابرة للحدود. إن عمل طهران على تثبيت نفسها كـــ "قوة إقليمية" في جغرافيا مضطربة أدى بها إلى دفع تكاليف باهظة ليس على المستوى الخارجي فحسب، وإنما في الداخل أيضاً، وذلك مع ارتفاع حجم كتلة الاعتراض الشعبي على هدر مقدرات البلاد على النفوذ الإقليمي. ولعل "الحراك الاحتجاجي" الذي شهدناه أواخر عام 2017 يقدم دليلاً على الأوضاع الاقتصادية السيئة، مع أخذنا بالاعتبار معدلات البطالة والفقر المرتفعة، والتي تصدرت لائحة مطالب المحتجين.
وحول التدخلات الإيرانية ونفوزها الذي يتمدد في منطقة الشرق الأوسط يقوم الكتاب بتشريح انعكاسات هذا التدخل السلبية على الداخل الإيراني، محدداً أهم العوامل الدافعة باتجاه تراكم الخسائر الداخلية، بسبب المغامرات الإقليمية التي وضعت فئات اجتماعية واسعة في مواجهة النظام وسياساته. تعد الأسس النظرية للتدخلات الإيرانية أحد المفاتيح لفهم العقلية التي تقود فيها إيران نفوذها الإقليمي، واعتبرت -إحدى الدراسات- أن طهران ومن أجل تقوية نفوذها، تعمل على استغلال البنى الاجتماعية في العديد من الدول العربية، وتحرض جماعة ضد جماعات أخرى أو ضد السلطة، وتؤجج التناقضات والاختلافات الدينية والعرقية والسياسية. لكن "استراتيجية التوسع" الإيراني دونها تكاليف كبيرة وانزلاقات إقليمية يدفع ثمنها الداخل، وهي مرشحة للتصاعد في الأشهر المقبلة مع زيادة العزلة التي تعاني منها الجمهورية الإسلامية.
وحول التدخل الإيراني في سوريا ورصد العلاقات السورية الإيرانية، حيث يرتبط "نظام الملالي" في إيران بعلاقات وطيدة مع النظام السوري تعود إلى حقبة حافظ الأسد، والتي حافظت على استقلالية القرار السوري طوال الفترة الممتدة من عام 1979 حتى عام 2000؛ وشهدت هذه العلاقات زخماً مع الأسد الابن وقويت بعد عام 2011 الذي شكل انعطافة كبيرة في تاريخ سوريا المعاصر، حيث بدت وتيرة التدخل والاستقواء الإيرانيين أكثر حدة مع تزايد "الحراك الاحتجاجي" نحو التدويل والعسكرة، مما دفع القيادة الإيرانية وأذرعها في المنطقة إلى دعم النظام السوري ومنعه من التهاوي، في ظل اشتداد النزاع الدولي والإقليمي. تتبع الكتاب دور إيران في سوريا، محللاً تبعاته على المديين القريب والمتوسط، وكاشفاً عن مخاطره على مستقبل السوريين.
وتعتمد ايران في بناء استراتيجيتها على "القوى الناعمة" فعمدت إلى تأسيس قنوات إعلامية ومواقع إلكترونية من أجل نشر خطابها السياسي والديني. وتعد المملكة المغربية من بين الدول التي طمحت "القيادة الإيرانية" إلى التأثير فيها عبر البوابة الدينية من خلال استمالة بعض رجال الدين السُنة والترويج لأجندتها. ولأهمية هذا الموضوع قرأ الكتاب أسس واستراتيجيات الدعاية الإيرانية في المغرب، للخروج بفهم دقيق حول الآليات التي تستخدمها إيران في خطابها الإعلامي، مع ما يرافقه من تصدٍّ وتوعية للسلبيات المترتبة عليه.
أما على جانب الصراع العربي الإسرائيلي فتكتسي علاقة إيران بحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين طابعاً متقلباً يقع تحت معادلة "التقارب والبرود" أو "الانحسار والتقدم". تخلص إحدى الدراسات إلى أن "الخيار الأكثر واقعية المتاح أمام حماس سيبقى في حالة تذبذب بين المحور الإيراني والحاضنة العربية، تحافظ على الدعم الإيراني عبر تصريحاتها الإيجابية وقوة علاقة جناحها العسكري مع إيران من جهة، ومن جهة أخرى ستُبقي الباب مفتوحاً أمام الدول العربية والمجتمع الدولي الذي يطمح إلى الحد من نفوذ إيران في المنطقة، فتكون هذه ورقة قوية بيد حماس تفاوض من خلالها على صفقة كبيرة أو صفقات صغيرة مناسبة ومنطقية، تتسق مع مصالحها فيمكنها أن تلوح بهذه الورقة متى شاءت، حتى تقرر أنّ الوقت قد حان لكي تستغني عنها وتستبدلها".
وعلى مستوى العلاقة مع البعد الإقليمي "دول الخليج" فتعد العلاقات الإيرانية– الخليجية من بين العلاقات الدولية الأكثر توتراً بسبب السياسات الإيرانية تجاه دول مجلس التعاون الخليجي، وقد درسها الكتاب من زاويتين: أثر الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، والتدخلات الإيرانية في الشؤون الخليجية، وكيف تصدت الدول المعنية لها. إلى ذلك تشكل العلاقات التركية– الإيرانية باباً هاماً للتعرف على طبيعة الروابط الإقليمية المعقدة والمتداخلة، والتي تُنسج –غالباً- على منوال من التناقضات والتضارب. تَحَكَّمَ في صلات أنقرة بطهران خلال السنوات الأخيرة متغيران مفصليان: الأول بعد انفجار الحركة الاحتجاجية في سوريا وما نتج عنه من تدهور وعنف أهلي، والثاني بعد دخول روسيا العسكري القوي على خط الأزمة السورية بدءاً من عام 2015.
وقد ناقش الكتاب أيضا التدخل الإيراني في القارة الإفريقية حيث تشهد القارة تنافساً محموماً بين القوى الدولية والإقليمية، وقد دخلت إيران على خط التنافس، منطلقة من رؤية استراتيجية، تستخدم قواعد الاقتصاد الدولي، لتحقيق مصالح قومية. حاول الكتاب البحث في طبيعة النفوذ الإيراني في القارة السوداء، مبرزاً التطور الحاصل في عملية توطيده وتوسيعه بدءاً من حكم هاشمي رفسنجاني، ومعطياً الأولوية للعامل الاقتصادي.
إن فرض إيران نفسها قوة إقليمية يتم عبر دعم منظمات مهددة لأسس الدولة، وتعتبر تجربة العراق مع قوات الحشد الشعبي مثالاً واضحاً على ذلك. تطرقت الدراسة التي غطت هذا الموضوع إلى إبراز مختلف الجوانب المرتبطة بالحشد ونشأته والفصائل المكونة له، مع توضيح الدرجة التي تربط كلاً منها بإيران، وحدود الدور الذي قام به في مواجهة «داعش»، وموقف الحكومة العراقية والمرجعيات الدينية منه، ومشاركته في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وممارساته الطائفية ضد السنة، ودوره في الصراع السوري.
على الرغم مما يبدو عليه الحضور الإيراني الإقليمي من قوة وقدرة، فإن القراءة المتأنية بين السطور تبرهن على اختراقات واهتزازات في مناطق النفوذ التي تغلغلت فيها منذ أربعين عاماً، والهيبة الإيرانية مرشحة لمزيد من الانتكاسات مع جملة التحديات التي تمر بها إيران، والتي تحتم عليها التراجع بشكل تدريجي نحو الداخل، كي لا تضطر إلى تجرع «كأس السم» والتفاوض على طاولة الكبار من موقع الدولة الخاسرة.