"الفيصل" تبحث عن مؤسسات دينية تحمي من التطرف والتوظيف السياسي للدين
الثلاثاء 07/مايو/2019 - 10:23 ص
طباعة
روبير الفارس
اجرت مجلة الفيصل السعودية في عددها الجديد – مايو 2019 – حوار مع الدكتورة ناجية الوريمي، أستاذة الحضارة العربية الإسلامية في الجامعة التونسية، والتى تعد من أبرز الباحثات المهتمات بإشكاليات التحديث وقراءة التراث.حيث أولت اهتمامًا كبيرًا لتجديد الخطاب الديني ومفاهيم التسامح والاختلاف في المدونة التراثية والأدبيات العربية. ولم تغب «مسألة التنوير» في الفكر العربي المعاصر عنها، فتجدها في مقالاتها وأبحاثها شديدة الحرص على إثارة وحَفْز «العقل العربي» أو «العقل الإسلامي»، للكشف عن حقيقة «قصوره»، من دون أن تتبنى مقولة «القطيعة المعرفية»، «فالحداثة -عندها- لا تقطع مع الماضي بل تُطرح في مجتمعات لها تراث». أصدرت الوريمي مجموعة من المؤلفات من بينها: «زعامة المرأة في الإسلام المبكّر: بين الخطاب العالِم والخطاب الشعبي» (2016م)؛ «في الائتلاف والاختلاف: ثنائية السائد والمهمش في الفكر العربي الإسلامي» (2010م)؛ «حفريات في الخطاب الخلدوني: الأصول السلفية ووهم الحداثة العربية» (2008م)؛ «الإسلام الخارجي» (ضمن سلسلة الإسلام واحدًا ومتعددًا) (2006م). واجرت الحوار الكاتبة اللبنانية ريتا فرج ومما جاء فيه
وحول وجود مؤسسة دينية في الإسلام أو سلطة مقدسة رسمية (الإسلام الرسمي) لها قوة وقدرة رمزية مؤثرة في الديني والاجتماعي والسياسي ووظائفها
قالت الدكتورة ناجيه لابد اولا أن نتّفق على معنى «المؤسّسة الدينيّة» حتّى نحدّد تبعًا لذلك وجودها من عدمه في الإسلام. فالمعنى الشائع يحصرها في مؤسّسة كهنوتيّة تكون مهيكلة تنظيميًّا وقائمة على تراتبيّة
واضحة، وعلى تقسيم دقيق للأدوار على غرار الكنيسة. وبهذا المفهوم الشكليّ –وأكاد أقول: السطحيّ- سنقول لم يعرف الإسلام المؤسّسة الدينيّة كما عرفتها المسيحيّة. أمّا المعنى الاصطلاحي الذي يقرّه علم الاجتماع الدينيّ والذي ينسحب على كلّ المجتمعات الكتابيّة بما فيها المجتمع الإسلامي، فيتمثّل في كونها هيئة من علماء الدين – مهيكلة أو غير مهيكلة – تشرف على «الدين الحقّ» وعلى تطبيق الشريعة وفق الرؤية الرسميّة للدين. وهي تعد نفسها، وتراها السلطة، الأقدر على التعبير عن «الحقيقة». ولها في المجتمع دور ثابت: هي التي تنتج المعرفة الدينيّة الرسميّة، وهي التي تسهر على إعادة إنتاجها عبر وسائل مختلفة، ثمّ هي التي تحارب التعدّد والاختلاف تحت اسم محاربة الخطأ الاعتقاديّ. إذن– وبهذا المعنى- عرف الإسلام المؤسّسة الدينيّة، ليس في الإطار السنّيّ فقط بل في مختلف الأطر المذهبيّة: في البداية كانت حركة «أصحاب الحديث» وعلاقتها الوظيفيّة بمؤسّسة الخلافة، ثمّ جاءت مؤسّسات «الزيتونة» و«الأزهر» و«القرويّين». وعند الشيعة انتظمت مؤسّسة «الحوزة»، وعند الإباضيّة استمرّت مؤسّسة «العزّابة» لمدّة طويلة. وقد قامت كلّ هذه الهيئات بأدوار أساسيّة في الحفاظ على ما عدّ ثوابت المذهب، وفي توجيه وعي المؤمنين.واليوم ينبغي للمؤسّسات الدينيّة أن تتخلّى عن دورها التقليديّ في تثبيت رؤية رسميّة أحاديّة للدين تنفي ما عداها، لتتكفّل في المقابل بوظائف تستجيب لقيم التحديث السياسيّ والثقافيّ. وذلك بأن تعمل على نشر قيم الاعتراف بالآخر المختلف توافقًا مع مفهوم المواطنة، واحترامًا لمبدأ حريّة الضمير، وأن تعمل أيضًا على تطوير وعي دينيّ يحمي المؤمنين من نزعات التطرّف والتوظيف السياسيّ للدين.
وعن الدعوات التى تطالب بتحديث الإسلام من الداخل ومقاومة الإسلام لضغوط الحداثة وأن العنف آلية دفاعية له ومدي قدرة التأويلات التجديدية للنصوص الدينية خارج الفهم الكلاسيكي على إخراج الإسلام من أزمته قالت الوريمي
المشكل ليس متعلّقًا بالإسلام في حدّ ذاته، بل بالمسلمين وبكيفيّة تمثّلهم لدينهم وانخراطهم في التاريخ. الإسلام عندما انطلق كان له الفضل في تطوّر كبير تحقّق للعرب؛ لأنّه كان دافعًا أساسيًّا لتجاوز الموجود والانفتاح على الآتي. لذلك لست أرى أيّ تعارض بينه وبين الحداثة التي عرَّفها المختصّون بكونها «سنّة الجديد» (La Tradition du Nouveau)؛ الإشكال إذن لا يتعلّق بالإسلام بل بتمثّله وبالعلاقة التأويليّة التي تُقام معه، أي بالفواعل الاجتماعيين، فهم المسؤولون عن مدى النجاح في الانخراط الإيجابيّ في عصرهم، وفي استيعاب قيم الحداثة مثل التعدّديّة والاعتراف بالاختلاف واحترام الآخر والديمقراطيّة. إنّ الأزمة التي نعيشها اليوم، ليست متأتية من الدين، بل هي في جانب منها متأتّية من تمثّله تمثّلًا محدودًا ومنغلقًا: لا تزال تيّارات عديدة تقحمه في الصراعات السياسيّة، وبه يبرّر المتشدّدون رفض التجديد والإبداع، وباسمه يصادرون الحريّات، وتحت اسمه يرفضون التعدّد والاختلاف، وبتعلّة الدفاع عنه يدّعي المتطرّفون أنّ العنف الذي يمارسونه عنف شرعيّ.هنا أصل إلى القسم الثاني من سؤالك والمتعلّق بدور التأويلات التجديدية للنصوص الدينية في إخراج الإسلام من أزمته. فكلّ التأويلات الكلاسيكيّة التي أنشِئت حول النصّ الدينيّ في الماضي قدّمت خدمات اقتضتها العصور التي أُنتِجت فيها، وكانت من هذا الوجه صالحة ومفيدة، لكن اليوم نحن إزاء «إبستيمية» جديدة وانتظام محلّيّ وكونيّ مختلف جوهريًّا عن ذاك الذي كان سائدًا في العالم القديم، وهذا يتطلّب تأويلات تخلّص وعي المؤمنين من سلطة تأويلات ماضية ناشزة عن حاضرهم وعن مقتضيات التحديث، والسبيل إلى إبداعها عبر المناهج الجديدة في القراءة والتأويل.
وحول القول بأن الإسلام محكوم عليه بالنزعة المنهجية القديمة و خشية رجال الدين المسلمين من تطبيق المناهج العلمية على النص القرآني قالت
أعتقد أنّ رجال الدين المسلمين فوّتوا على أنفسهم شرف المساهمة جدّيًّا في تطوير المباحث الخاصّة بالخطاب وبالنصّ. إنّ للإسلام خصوصيّة ينفرد بها وهي معجزته ذات الطبيعة اللغويّة. وإذا ما قلنا معجزة لغويّة استحضرنا بالضرورة كلّ المقوّمات المتّصلة بالخطاب إنتاجًا وتفسيرًا وتأويلًا وتنظيرًا. لقد كان بإمكانهم وهم في إطار ثقافة نصّيّة، لا أن يفيدوا فقط من مناهج ازدهرت في ثقافات أخرى، بل أن يبدعوا فيها وأن يطوّروها عبر تحويل «الخاصّ» من مفاهيمهم وآليّاتهم التفسيريّة إلى «العالميّة». أقول هذا الكلام وأناأستحضر الدور المركزي الذي قام به رجال الدين المسيحيّون –
ومن بينهم فلاسفة- في تغيير التمثّل التقليدي للخطاب وللتفسير وللتأويل وهم يتعاملون مع نصّهم المقدّس. فالتأويليّة (Herméneutique) نشأت في أحضان التفسيرالديني، لتتطوّر لاحقًا على أيدي فلاسفة الخطاب الذين أضافوا منهجيّة علميّة لا غنًى عنها اليوم في التعامل مع الظاهرة الخطابيّة.
وعن ارتباط النص الديني بالواقع التاريخي وبالمجالين الصراعي/ السياسي والتداولي/ المعرفي قالت كلّ ظاهرة اجتماعيّة- سياسيّة- ثقافيّة، هي ظاهرة أفرزها واقعها التاريخيّ في كلّ أبعاده، وهي من هذه الناحية نتيجة متوقّعة ومفهومة في ضوء خصوصيّات ذلك الواقع. وقد شهد المجتمع العربي خلال المرحلة الإسلاميّة الأولى تحوّلًا من النظام القبلي التقليديّ إلى نظام الدولة والسلطة المركزيّة. وهو الأمر الذي أفرز صراعات عديدة بين مختلف الأطراف الفاعلة اجتماعيًّا: كلّ طرف يدّعي أهليّته للسلطة. وطبعًا، كان مفهومًا أن تتعدّد أساليب الصراع وآليّاته، ويعنينا منها الآليّة الدينيّة: فظهرت المذاهب والفرق، وبرز حرصها على إنشاء مدوّنة مذهبيّة تشمل فهمًا محدّدًا للقرآن وأحاديث بعينها منسوبة إلى الرسول وتراثًا فقهيًّا خاصًّا وغير ذلك. والغاية منها إثبات المشروعيّة والدفاع عن الاختيارات. كانت هذه الكيفيّة في التفاعل بين الدينيّ والسياسيّ مبرّرة بتركيبة المجتمع التقليديّة وبمحدوديّة الوسائل المعتمدة في ممارسة السلطة. لكن اليوم تغيّر الأمر كثيرًا: ظهر مفهوم المسؤوليّة الفرديّة في إطار المواطنة، وأثبتت الوسائل الديمقراطيّة الحديثة في ممارسة السلطة نجاعتها، فلم تعد هناك حاجة إلى اللجوء إلى الأدبيّات المذهبيّة.
وحول المزاج العربي العام اليوم وقابليته لاستيعاب المبادئ التنويرية الكبرى كما صاغها إيمانويل كانط التي أضحت قاعدة عالمية للثورة على الماضي والتأسيس للمستقبل قالت الفكر العربي إن تخلّص من القيود التي تكبّله، ومن دائرة الممنوع التفكير فيه، سيستوعب مبادئ التنوير، وسيصبح قادرًا على الإضافة إليها وإثرائها. هو اليوم ككلّ فكر ليس مطالبًا بالقطع مع الماضي للتأسيس للمستقبل، بل هو مطالب بتشريح هذا الماضي حتى يفصل فيه بين الإنسانيّ الدائم والقابل للتطوير، والظرفيّ العابر الذي ينتصب حجر عثرة في طريق التقدّم. فمن المعلوم أنّه لا يمكن تأسيس الجديد على أرضيّة منفصلة. كنت دائمًا أقول: إنّ العلاقة بين الماضي والحاضر أو التراث والحداثة ليست علاقة تضادّ، بل هي علاقة تواصل وانقطاع في آن. والنقد والتفكيك وإعادة البناء، عمليّات ضروريّة تحدّد ما الذي يمكن أن يتواصل من الماضي فيكون رافدًا من روافد التجديد المطّرد، وما الذي يجب أن يُحفظ في المتاحف لأنّ زمانه ولّى وانتهى، وما أكثره! وكما قال أحد المفكّرين: «إنّ الكيفيّة الوحيدة للحفاظ على التراث هي قبول تعريضه للخطر»، خطر النقد والعرض على محكّ النجاعة والراهنيّة. هذا ما يمكّننا من اتّخاذ مسافة من هذا التراث، لنعيد بعد ذلك امتلاكه امتلاكًا نقديًّا واعيًا. وأعتقد أنّ المفكرين العرب خطوا خطوات مرضيّة في طريق التنوير، وطرحوا بعمق فلسفيّ واجتماعيّ ودينيّ عوائق تحرير العقل العربي. لكن، لا تزال الطريق أمامهم طويلة.
وحول مطلح التسامح بين ثقافتين تحدثت قائلة أعتقد أنّ الدعوة إلى مراجعة الاستعمال الشائع لمصطلح التسامح في الثقافة العربيّة، هي دعوة تسير على خطى تلك التي ظهرت في الثقافة الغربيّة المعاصرة، من دون أن ينتبه أصحابها إلى الخصوصيّات المميّزة لتاريخ كلّ مصطلح في سياقه الثقافيّ. ففي الثقافة الغربيّة ينطلق النقد الموجّه إلى مصطلح تسامح (Tolérance) من الرصيد الدلالي المعجمي السلبيّ الذي اقترن بالكلمة اللاتينيّة (Tolerantia) والذي لم يعد يتماشى اليوم مع القيم الكونيّة. ففي البداية لم تكن دلالات هذا المصطلح تعدو أحدَ معنيَيْن: الأوّل هو السماح بأمر على رغم كونه خطأً ومخالفًا للقواعد، والثاني هو القبول على مضض بالعقيدة والرأي المخالفيْن. ثمّ وبحكم تطوّر مفاهيم التعدّديّة وحقوق الإنسان والمواطنة وغيرها. في العصر الحديث، اكتسب دلالات جديدة في إطار «عقلنة» الاختلاف، والسعي إلى توفير شروط التعايش السلميّ القائم على «الاعتراف» و«الاحترام» و«حرّيّة الاعتقاد». وفي إطار سعي الفكر الأوربي اليوم إلى تدقيق المفهوم وتخليصه ممّا ترسّب فيه من دلالات «الاستعلاء» و«الأنوية»، ظهرت مواقف تدعو إلى تعويض مصطلح (Tolérance) بمصطلحات أخرى لا تحمل هذا الإرث المعجمي السلبيّ، من قبيل «الاعتراف» (Reconnaissance) و«الاحترام» (Respect).
والجدير بالملاحظة أنّه عندما انتقل المفهوم الغربيّ الحديث للتسامح إلى الثقافة العربيّة في العصر الحديث، انتقل إليها بدلالاته الجديدة لا بتلك التي تعود إلى المرحلة الكلاسيكيّة اللاتينيّة. واستُعمِلت كلمة «التسامح» العربيّة للدلالة على هذا المفهوم. وهي كلمة لا تعاني إرثًا معجميًّا سلبيًّا، بل على العكس من ذلك، جاء إرثها المعجميّ متناسقًا تمامًا مع الدلالات الحديثة، وهو «السخاء» و«التساهل» و«عدم التضييق والتشديد» و«الموافقة» و«الانسجام»، وفق ما جاء في المعاجم العربيّة؛ لذلك فإنّ هذا المصطلح العربي ليس في حاجة إلى الإلغاء لتعويضه بآخر، بل هو في حاجة إلى التحيين المستمرّ لإثراء دلالاته وجعله أكثر فاعليّة في وعي مستعملي هذه اللغة.
وعن العقلية الذكورية وتهميش دور المراة كما تعرضت لها في كتابها «زعامة المرأة في الإسلام المبكر: بين الخطاب العالم والخطاب الشعبي» قالت الورمي المسألة سلطويّة بحتة. فالعقليّة الذكوريّة الحريصة على جعل الزعامة شأنًا خاصًّا بالرجل دون المرأة، هي التي تحكّمت من الداخل في الخطاب التاريخيّ – والخطاب الفقهيّ على حدّ السواء- وحدّدت معايير إنتاج المعنى. فجاء تصوير التجارب السياسيّة والعسكريّة التي قادتها نساءٌ مشهورات تصويرًا مشوّهًا ومنقوصًا، الهدف منه إقناع الجميع بأنّ المرأة إذا ما شاركت في الشأن العامّ وتسلّمت القيادة لن تفلح ولن يفلح مَن قادتهم. ولا تزال معانٍ كهذه -مع الأسف- ذات أثر مهمّ في الواقع العربيّ مشرقًا ومغربًا. وقد آن الأوان لتفكيكها والكشف عن آليّات إعادة تشكيل التاريخ حتّى يخدم أهدافًا فئويّة وأخرى رسميّة.
وحول التطور الملحوظ في الدراسات النسوية العربية تحديدًا في المغرب العربي قالت أعتقد أنّ تحديث التعليم في المغرب العربي – ويعنيني أنموذج تونس- آتى أُكلَه من خلال ظهور مدارس فكريّة نقديّة أفادت من المناهج الحديثة في اكتساب المعرفة وإنتاجها، خصوصًا في مجال الإنسانيات. وهذه المناهج يعدها بعض غربية فيأنف من اعتمادها ويتشبّث بالتقليدي منها، وهي في الحقيقة مكتسبات علميّة إنسانيّة، والعلم لا جنسيّة له. ولو وقفنا عند المناهج المتعلقة بالخطاب إنتاجًا وتفسيرًا وتأويلًا، سنتبيّن بُعدَها الشمولي؛ لأن الخطاب ظاهرة تواصلية بشرية، والآليات المتحكمة فيه هي الآليّات ذاتها وجامعةٌ بين كلّ اللغات. وحريّ بنا اليوم ألّا نقف عند حدّ الاستهلاك ومتابعة آخر المستجدّات في هذا المجال وفي غيره، وأن نعي في المقابل واجب المساهمة في المعرفة الإنسانيّة التي تعدّ اليوم معيارًا للتفاضل بين الأمم.