ابن رشد.. السياسة والدين بين الفصل والوصل
الإثنين 09/ديسمبر/2019 - 10:55 ص
طباعة
حسام الحداد
كتاب يراهنُ على بيان أن الغاية من الدين والسياسة هو تحقيق الخير المشترك والأمل للعالم الإنساني كبديل مما يقعُ من عنف وتطرف مقيت وصراع قاتل. ذلك ما دفع الباحث التونسي مصطفى بن تمسك إلى استدعاء رؤية ابن رشد في هذا المعرض لقوته الفلسفية والنظرية والعملية على النظر في الدين والسياسة من خلال منهجَي الفصل والوصل. وبهذا، جاءت هذه الأطروحة في محتويات الكتاب الذي بين أيدينا وعنوانه " ابن رشد: السياسة والدين بين الفصل والوصل".
ويقدم لنا يوسف بن عدي الباحث في الفلسفة العربية الإسلامية وقضايا الفكر العربي من المغرب فراءة خاصة لهذا الكتاب نشرت في وقت سابق بمجلة "المستقبل العربي" حيث يقوم بتحليل رؤية الكاتب لفلسفة ابن رشد خاصة في موضوع الكتاب التي ربما لا تهم القارئ المغربي فقط بل تهم قارئ الوطن العربي بشكل عام
حيث ينطلق د. مصطفى بن تمسك من مشروعية استدعاء ابن رشد من معطيات الحاضر العربي وتحولات العالم السياسي والأيديولوجي اليوم. إذ ما إنْ يلتف المرء على يمينه وشماله إلّا ويجدُ نفسه محاصراً بواقع مأزوم يتأرجح بين أمرين بلغا من السوء والشر مبلغاً حتى صار الانفلات منهما من باب الاستحالة إن لم نقل الامتناع، وعنوانهما هو: التطرف الديني والإرهاب. ولما كان العنف الديني والسياسي قديماً وليس جديداً فإن التوسل برؤية ابن رشد في كيفية تعاطيه مع الدين والسياسة من جهة، والدين والفلسفة من جهة ثانية برؤية عقلانية تتأسس على منهج الوصل وعلى مقتضيات الفصل إنما ستدفع العالم العربي والإنساني اليوم إلى بناء تصور حقيقي وفعّال لقضايا الدين والسياسة وبالتالي معالجة جميع أشكال العنف والإرهاب. يقول الباحث في هذا السياق: «ونحن نجد فيها راهنية مذهبية نعتقد أنها قادرة – رغم بعد مسافتها عنّا – أنْ تضيء لنا ما الشيء في أذهاننا من مسائل كان ابن رشد قد واجهها في العصر الوسيط الأندلسي» (ص 14). ولعل من المسوغات التي كانتْ وراء تحرير هذا النص هو عدم الاستفادة كفاية من التراث العقلاني الرشدي «لإضاءة جهات الحاضر» (ص 15).
إنّ فيلسوف قرطبة ومراكش لم يكن صراعه مع الفقهاء والمتكلمين سياسياً فحسب، بقدر ما كان ينبهُ إلى مواضع الغلط في رؤيتهم المنهجية والمعرفية (ص 18) مما يجعلنا أمام طريق منهجي رئيس وهو: كيف نحفظ للدين والسياسة مكانتهما: «هل يكون ذلك بالفصل أم بالوصل؟» (ص 18).
لا أحسب ابن رشد ينأى عن القول بأنّ الدين والشريعة من المقومات الأساسية للمجتمع العربي الإسلامي ولا سيّما أنه الفقيه وقاضي القضاء. لكن الأمر الذي ينظر فيه أبو الوليد بن رشد هو هل نؤسس السياسة على الدين أم الدين على السياسة؟
من المعلوم أن الكوسمولوجية الرشدية تتأسس على مجموعة من الخصائص يتداخل فيها التدبير الميتافيزيقي مع التصور السياسي للمجتمع ومنها: السببية والتوافق والغائية والوحدة، وهي لا تتنافى مع الحكمة الإلهية والفعل الإنساني المؤسس على الإرادة والاختيار. يقول الباحث: «وهكذا، فإنّ وحدة الذات والموضوع/الإنسان والوجود تعكس في جوهرها وحدة النواميس الكونية واتحاد الفرع بالأصل. وهي وحدة لا تسلب خصوصية واستقلالية هذا الفرع بل تنظم سلوكه وأفعاله على مثال النظام والترتيب الذي يجري في الوجود» (ص 28)؛ كلُّ ذلك من شأنه أن يفسح في المجال أمام إمكانين: إمكان المعرفة وإمكان الإيمان (ص 23).
ولا أحسبُ أنّ ابن رشد يخرج عن مجريات عصره وبيئته وثقافته الدينية والفلسفية في العصر الوسيط (ص 37). فانظر كيف صارت السلطة الموحدية وراء، رغم أن هذا الأمر يحتاج إلى نظر دقيق وشديد، تحرير فيلسوف قرطبة لبعض شروحه وتلاخيص الطبيعية والميتافيزيقية. بل أكثر من ذلك يكون ابن رشد صوت مجتمعه وعصره وحضارته حينما ألّف الضروري في السياسة وهو من بين أسباب محنته ونكبته الشهيرة. يقول المؤلف في هذا المعرض: «بيد أنّ محمد عابد الجابري لا يذهب في هذه الاتجاهات التأويلية لأنه يعتبر أن نكبة ابن رشد تعود إلى ما ضمّنه من انتقادات لاذعة للفساد السياسي في الواقع الأندلسي سواء في أواخر العصر المرابطي أو في أواخر العصر الموحدي» (ص 152). ومنه أضحى ابن رشد يتمتعُ برؤية متعدد المرجعيات والمداخل والتي انعكست بالفعل على رؤيته الفلسفية حيث أضحت رؤية عقلانية هادئة ومعتدلة؛ أعني «أولاً، الواقع المعاصر ويضيء به البيئة السياسية والاجتماعية والدينية. ثانياً، التاريخ السياسي العربي والإسلامي كما نقله المؤرخون. وثالثاً، الفلسفات السياسية الإسلامية وفي مقدمتها فلسفة الفارابي. رابعاً، الفلسفات اليونانية ككل من أفلاطون وأرسطو» (ص 39).
ويبدو أن الباحث قد تعقب كلّ تلك الخلفيات التي كانت تستحكم في رؤية ابن رشد وطريق اشتغالها سواء في نقد الواقع السياسي والحكم الاستبدادي في أواخر الدولة الموحدية أو في نقده لكيفية بناء العلاقة بين الديني والسياسي (ص 41 – 56). وبهذا الاعتبار، كانت السياسة عند ابن رشد هي موضوع الاتفاق والوفاق بين المتعاقدين لدارة الفضاء العام وعطفاً على هذا يدرج ابن رشد «قيمة الشركة السياسية وقيم المواطنة عموماً ضمن دائرة العدالة والفضيلة أي الأخلاق والسياسة» (ص 61). وهذا معناه أنّ «الفرد لا يتأهل سياسياً لأن يكون مواطناً كامل الحقوق والواجبات حتى يتأهل تربوياً وأخلاقياً» (ص 91). وبمعية ذلك، تكون القوانين والدساتير هي المجال الحيوي لتحصيل الاجتماع البشري وأي غياب لهما هو غياب للمجتمع والسلطة فضـلاً عن ذلك قيادة القوة العقلية أو العاقلة لقوى النفس الأخرى فما يحصل من اعتدال في قوى النفس الانسانية ينعكس على وظائف المجتمع السياسية والاجتماعية والقانونية (ص 107 – 117).
قد يلتمس القارئ مدى تأثر ابن رشد بالأفق السياسي اليوناني إلّا أنه يعمل، كما هو مومأ إليه أعلاه، على تكييف الموروث الإغريقي «مع معطيات عصره ومع التاريخ السياسي العربي – الإسلامي» (ص 85).
ثانياً: عقلانية ابن رشد: في الانتكاسة
لعل من أجود الأفكار التي دافع عنها ابن رشد هو الفصل بين الديني والسياسي أو لنقل بين شريعة العامة وشريعة الخاصة؛ ذلك أن الغرض هو «فصل المقامات عن بعضها وعدم خلط السجلات لأنّ في ذلك تجنياً على حرمة المعارف ونسبية الأفهام» (ص 121).
غني عن البيان، أن تحرير ابن رشد لفصل المقال والكشف قد كان بغية بيان الخلط المنهجي بين مستويات الإدراك والفهم والتعقل للدين الإسلامي، وهو علة تمزيق الشرع وضياع الحكمة (ص 121 – 122). ولهذا الأمر فكرة جوهرية تتمثلُ بـ «تطويع النص الديني لمقتضيات الوفاق الاجتماعي والسياسي سعياً للحفاظ على وحدة الأمة المهددة بالانقسام الديني والسياسي» (ص 138). وحتى يتم الحفاظ على الأمة والدولة كان من الضروري أن يجمع ابن رشد بين فضاءين معرفيين مختلفين وهما: «فضاء أيديولوجي وسياسي محافظ وفضاء فلسفي و«علماني» معتدل. فمكانته السياسية وموالاته لأيديولوجيا الدولة الموحدية تحتم عليه الدفاع واعادة القراءة المتداولة للتاريخ السياسي العربي. أما ميولاته العلمية للمنطق الأرسطي فتحتم عليه إعمال أدوات النقد والتمحيص والابتعاد قدر الإمكان عن النزعة الحماسية والتمجيدية في تحليل الأحداث التاريخية» (ص 135). ويترتب عن هذا أن واقعية ابن رشد قد كانت نتيجة انخراطه في مشكلات المجتمع الأندلسي «كمثقف يسعى إلى مواكبة التجديد في عصره من خلال دعم شعار الاجتهاد والتأويل وإصلاح برامج التعليم والتقاضي بين الناس بالحق وعدم انغلاق تفكيره السياسي الذي اتصف بواقعية وعقلانية متميزة تمثلت في انفتاحه على النظريات السياسية الدنيوية وقبوله بفكرة الدولة الدنيوية (The Secular State)» (ص 143 – 144).
بيد أنّ تعرُّض ابن رشد للمحنة كان علامة فارقة بين التفكير العقلاني وبين الاستبداد السياسي والتعصب الديني؛ أعني بين التفكير الذي يمارس النقد ضد دعوات الغزالي وأشعريته وتكفيره للفلاسفة وبين الاستبداد الديني أو السياسي الذي لا يعمل إلا على محاصرة التنوير والنهضة والتقدم واستغلال الدين من أجل التبرير للأيديولوجيا الجبرية ودولة القهر والطاعة على منوال الآداب السلطانية والذي امتد إلى ميلاد الإسلام السياسي المعاصر كرد فعل ضد تراجع العقل والحرية والديمقراطية فهو (الإسلام السياسي) الحنين إلى استعادة ماضي التجربة النبوية التي اتحد فيها الدنيوي بالديني» (ص 185)
فأمام استبداد حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي وتراجع الكثير من مكتسبات الحرية والمواطنة والعلمانية والديمقراطية والوفاق الاجتماعي كانت راهنية ابن رشد ليس من باب الترف الفكري أو الأيديولوجي بقدر ما كان ضرورة تاريخية لفك الارتباط بين الدين والسياسة اللذين هما مصدر المآزق والويلات في العقل السياسي العربي. يقول المؤلف: «ولهذا السبب أدرجناها (حركات الفقه السياسي التبريري) ضمن نماذج الانتكاسة السياسية العربية المعاصرة. وهي انتكاسة بدأت بضرب التفكير العقلاني المتجسد في الفلسفة والمنطق مع الغزالي وابن خلدون وابن تيمية، وهو ما انتهى في مجال الممارسات السياسية إلى انتكاسات متتالية جراء هيمنة نماذج الجبرية والسلطانية قديماً وراهناً» (ص 190).
لقد عمد الباحث التونسي مصطفى بن تمسك في هذا الكتاب إلى إعلان رصده علاقة الدين بالسياسة من حيثُ هو الموضوع النادر والغائب في الدراسات الرشدية، وكأعز ما يطلب. بيد أنّ الرجل انهى مكتوبه من دون شفاء غليل السائل في هذا المطلوب (Request)، بل سارع إلى استحضار نماذج فكرية وفلسفية كالغزالي وابن خلدون وابن تيمية واستدعاء حركات الإسلام السياسي المعاصر وأفقها المسدود على حساب النظر في جوهر الأطروحة ألا وهي: علاقة الديني والسياسي والفلسفي عند أبي الوليد بن رشد.
لا أحسب أن بيان علاقة الضروري في السياسة بنقد الاستبداد الموحدي والالتباس التاريخي الرهيب بين الأمير أبي يحيى وابن رشد على إثر مرض يعقوب المنصور ودنوِّ المنية منه حتى وصف عبد الواحد المراكشي الأمير أبي يحيى: «فجعل يتلكأ في خروجه ويبطئ تربصاً به، وطمعاً في وفاته» فضـلاً عن ذلك النظر في واقع الوصل إنْ لم نقل الخلط والتداخل بين الأيديولوجي والديني وأمل ابن رشد في تحقيق الفصل بينهما. وعلى الجملة نقول إن تقرير الباحث في خاتمة الكتاب: «فمقاصد الفصل هي عدم إقحام الخطاب الديني والعقدي في لعبة الممكنات السياسية […] أما مقاصد الوصل وصل السياسي بالديني فهي حماية الأول بالثاني» (ص 194) هو قول كان ينبغي استئناف النظر الفلسفي والفكري فيه بالجوهر لا بالعرض في تفاصيل من تاريخ الثقافة العربية كان بالإمكان الاستغناء عنها.