التلاعب بالفتوى سلاحٌ في أيدي الجماعات المتطرفة
الإثنين 27/يناير/2020 - 11:20 ص
طباعة
فاطمة عبدالغني
يعد سلاح الإفتاء من أخطر الأسلحة التي تستخدمها الجماعات المتطرفة لتضفي على نفسها قدسية وشرعية، في حين تكفر الآخر وتخرجه عن الإسلام، ويرى مرصد الأزهر أنه لخطورة هذا الأمر، وضع الإسلام الضوابط والأطر اللازمة التي تحمي المجتمعات من خطورة الانحراف في الفتوى واستغلالها للمصالح الشخصية، وهذه الشروط -كما لا يخفى على المشتغلين بالعلم الشرعي- لا تتوفر في أهل الضلال والتطرف؛ لذا يجب ألا نثق فيهم، ولا فيما يروجونه من أفكار ويزعمون أنها فتوى دينية أو حكم فقهي.
وبحسب تقرير لوحدة رصد اللغة العربية التابعة لمرصد الإفتاء ضجَّت المواقع الإخبارية على مدار الأيام الماضية بخبر القبض على مفتي داعش الذي يُدعى (شفاء النعمة) ويُكنَّى بأبي عبد الباري، والذي يُعتبر من قيادييِّ الصف الأول في تنظيم داعش، حيث تم القبض عليه في منطقة «حي المنصور» في الجانب الأيمن لمدينة «الموصل» مركز محافظة «نينوى».
وقد عمل مفتي داعش إمامًا وخطيبًا في عدد من جوامع مدينة الموصل، وكان معروفًا بخطبه المحرِّضة ضد القوات الأمنيَّة، وكان يحث على الانتماء لداعش ومبايعته، ويثقف ويروج للفكر التكفيري المتطرف خلال فترة سيطرة داعش على مدينة الموصل.
ويُعتبر المدعو "شفاء النعمة" المفتي الخاص للتنظيم؛ حيث أصدر لهم الفتاوى المهمة والكبيرة، والتي تخدم مصالح التنظيم؛ وكان من أبرز الفتاوى التي أصدرها، فتوى تفجير مسجد النبي يونس (أحد المساجد التاريخية بالموصل)، وإعدام رجال الدين والعلماء الذين رفضوا مبايعة التنظيم، بالإضافة إلى العديد من الخطب التحريضية ضد قوات الأمن والجيش العراقي.
وعلى صعيد متصل، نبه المرصد إلى أن المدعو "شفاء النعمة" لم يكن هو المفتي الوحيد لداعش؛ بل هناك شخصية أكثر منه تشددًا وتكفيرًا هو «عبد الله يونس البدراني» المكنى «أبو أيوب العطار»، كان يلقب بـ "المفتي العام" للتنظيم، والذي قُتل على إثر غارة جوية للشرطة الاتحادية في إبريل عام 2017.
وكان لـ«أبو أيوب العطار» أيضًا العديد من الفتاوى التي خدمت التنظيم وحققت كثيرًا من مصالحه؛ ومنها خُطبه في جامع «الأرقم» بحي «المثنى» شرقي الموصل، حيث كان يلقي خُطبًا متشددة تدعو إلى مبايعة داعش، ويكفِّر كل من لا يتعاون مع هذا التنظيم الإرهابي ويدعو إلى قتله.
وقبل بدء معركة الموصل، في سبتمبر عام 2016، أفتى «أبو أيوب العطار» بقتل الأهالي المحتفلين بقدوم الجيش العراقي، وعلى الفور شرع داعش بقصف المناطق المحررة بقذائف الهاون إلى جانب تفجير سيارات مفخخة، مما أدى إلى سقوط مئات المدنيين الأبرياء، وقد اعتبروا السكان مرتدين حسب فتوى «العطار»، كما كان «العطار» أحد منظري داعش في جريمة سبي النساء اليزيديات وقتل غير المسلمين، وهو صاحب فكرة إخلاء الموصل من المسيحيين.
وبنظرة فاحصة إلى ما أصدره كلٌّ من «العطار» و«النعمة» يرى المرصد أن هذه الفتاوى -بقطع النظر عن بعدها عن صحيح الدين وعدم استنادها إلى أيِّ دليل معتبر- فإنها حققت في المقام الأول مصالح التنظيم، وساعدت على امتداده، واستقطاب عددٍ جديدٍ من المتأثرين بهذه الفتاوى، مما قوَّى شوكة التنظيم في وقتٍ من الأوقات، وقدَّم لكل من يستهجن جرائم التنظيم تبريرات من خلال صبغ هذه الجرائم بصبغة الدين لتمريرها وقبولها لدى بعض الناس.
من ناحية أخرى لفت المرصد إلى أن فتوى تفجير "مسجد الموصل" كانت أحد أسباب تمويل التنظيم؛ إذ يحتوي المسجد على العديد من القطع الأثرية، بالإضافة إلى ما أخذه التنظيم من تفجير "متحف الموصل" عام 2015م؛ مما جعل بيع هذه الآثار التاريخية مصدرًا من المصادر المهمة التي اعتمد عليها التنظيم في التمويل، بل عدَّه البعض المصدر الثاني لتمويل التنظيم بعد البترول، ولا يخفى على أحد أن التحريض وجذب الناس إلى هذا التنظيم المتطرف، وتكفير المخالفين له والمحاربين لوجوده وتمدده يقدم للتنظيم خدمة كبرى، ومع أن نظرة التنظيم إلى تلك الآثار تنحصر في أنها من بقايا الحضارات الكافرة مما يعني أنها محرمة -في نظرهم- وهذا يترتب عليه أيضًا حرمة بيعها فلا يجوز بيع المحرم، إلا أن هذا لا يقولونه ولا يفتون به؛ بل يستحلون بيعها ليحصلوا على الأموال في صورة قبيحة للتلاعب بالدِّين وجعله خادمًا لأهوائهم ورغباتهم.
ويوضح تقرير المرصد أنه لا يخفى على أحد الفوائد الجمَّة التي تعود على التنظيم جراء استحلال أعراض الناس ونسائهم وجعلهم سبايا، وكيف يساعد ذلك على استقطاب المزيد من الشباب، بالإضافة إلى إرضاء شهوات المقاتلين وإشباع غرائزهم.
كل هذا ناله التنظيم بسبب الفكر المنحرف والخروج عن الدين الوسط، حتى رأينا هذه الصورة البشعة التي يحاول التنظيم فيها جعل الدين السمح مطيَّةً للوصول إلى مكاسبه الرخيصة واستعباد الناس وإذلالهم، وقتل الأبرياء وحرقهم، والاستيلاء على مقدرات الدول، وتهديد أمنها تحت شعار الدِّين، كذبًا وزورًا، والدين منهم براء.
وتساءل المرصد كيف يكون هؤلاء مفتين أو حتى طلبة علم، وقد خالفوا القرآن الكريم والمنهج القويم؟ أم كيف تنطلي أمثال هذه الفتاوى المتطرفة على من قرأ في القرآن قوله تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [الأعراف:23].
ولئن زعموا أنهم على منهج السلف والعلماء، فهذا كذب جديد يضاف إلى كذبهم وتدليس يضم إلى تزويرهم؛ إذ إن منهج العلماء في الفتوى منهجٌ واضح، فهم لا يُقدمون على التحليل والتحريم لمجرد الهوى والتشهي وخدمة أغراض دنيئة وأهدافٍ رخيصة.
وأخيرًا أوضح المرصد إن سلاح الإفتاء من أخطر الأسلحة التي تستخدمها الجماعات المتطرفة لتضفي على نفسها قدسية وشرعية، في حين تكفر الآخر وتخرجه عن الإسلام، ولخطورة هذا الأمر، وضع الإسلام الضوابط والأطر اللازمة التي تحمي المجتمعات من خطورة الانحراف في الفتوى واستغلالها للمصالح الشخصية، وهذه الشروط -كما لا يخفى على المشتغلين بالعلم الشرعي- لا تتوفر في أهل الضلال والتطرف؛ لذا يجب ألا نثق فيهم، ولا فيما يروجونه من أفكار ويزعمون أنها فتوى دينية أو حكم فقهي.
وأشار مرصد الأزهر أنه إذ يعرض هذه الحقائق فإنه ينبِّه على خطورة مثل هؤلاء المفتين الذين يلبسون كلامهم شرعية دينيةً لبثِّ الفوضى ونشر الذعر وتشويه الإسلام، كما يحذر من الفتاوى مجهولة المصدر والمنتشرة على مواقع التواصل وعبر الإنترنت ممن لا يُعرف قائلها ولا تنتمي لمؤسسة رسمية معتبرة، موضحًا أن جهات الإفتاء الرسمية في الدول الإسلامية المختلفة والمؤسسات الدينية الوسطية المعتبرة هي المنوطة بهذا الشأن، ولا تؤخذ الفتاوى إلا منها لما تتمتع به من علم ومصداقية ووسطية.