"إسلام أردوغان " يكشف دور خليفة الإرهاب في دعم الإخوان وسيطرتهم على تركيا
الثلاثاء 10/مارس/2020 - 10:34 ص
طباعة
روبير الفارس
صدر مؤخرا عن سلسلة كتاب الهلال كتاب "إسلام أردوغان" للكاتب الكبير سعيد شعيب، وفيه يستعرض "شعيب" تجربة رجب طيب أردوغان الفاشلة وأفكاره المتناقضة، مؤكدًا أنه إخواني فاشل، وصار غير قادر على إقناع العالم بخطواته الإرهابية.
يقول سعيد شعيب فى مقدمة الكتاب: "نعم يوجد "إسلام أردوغان"، وهو ذاته "إسلام الإخوان"، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان إخواني يؤمن بأن "الإسلام دولة وخلافة"، يحلم بدولة "الإسلام" ومن بعدها استعادة الإمبراطورية الاستعمارية الإسلامية"، في حين أن هذا غير صحيح على الإطلاق، وهناك اجتهادات لمفكرين مسلمين عظام أكدوا هذا منهم الشيخ على عبد الرازق في كتابه الشهير "الإسلام واصول الحكم" والمفكر السودانى محمود محمد طه وغيرهم. ولاهمية الكتاب ننشر فصل منه
لماذا فشلت العلمانية في تركيا ونجح الإخوان في الاستيلاء على السلطة؟
لعب الجيش دوراً مركزياً طوال التاريخ التركي. هذا طبيعي في ظل الخلافة العثمانية ذات الطابع الديني الاستعماري، التي قامت على الاحتلال والتوسع مثل كل الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة. لكن هذا الجيش ترهل في أواخر القرن السادس عشر وأصابته الهزائم. حدثت عدة محاولات لتحديثه كان أولها للسلطان محمود الأول (1730-1754)الذي حاول الاستفادة من التقدم الأوروبي.
تعثرت هذه المحاولات عدة مرات ولكن في النهاية نجحت. وأدت إلى وجود نخبة عسكرية متأثرة بثقافة الغرب وخاصة الثورة الفرنسية. هذه النخبة التفت حولها نخب مدنية وتأسست أول جمعية سرية باسم الاتحاد والترقي لها جناحان مدني وعسكري. لم تكن تميل إلى نموذج الخلافة القديم، أو على الأقل ترى ضرورة تحديثه. ونجحت في عام 1908 بإجبار السلطان عبد الحميد الثاني على إعادة العمل بالدستور، ومنحت المجلس التشريعي صلاحيات واسعة.
لكن ثار بعض ضباط الجيش المتدينين واعتبروا أن هذا الانقلاب الهادئ يتناقض مع الإسلام وطالبوا بتطبيق الشريعة. تم قمع هذا التمرد، واستغلت جمعية الترقي الفرصة وخلعت السلطان عبد الحميد. وفي عام 1912 تشكلت حركة “الضباط المنقذين” ضد الترقي التي أصبح لها نفوذ سياسي كبير وقامت بانقلاب وحلت مجلس النواب وأصدرت قانونا بمنع العسكر من الترشح والتصويت في الانتخابات. لكن جمعية الترقي استطاعت الاستيلاء على السلطة مجدداً ومنعوا الأحزاب وألغوا الحياة الديمقراطية .
هذا كان حسما للصراع بين اتجاهين في الجيش، واحد قديم والثاني جديد. القديم يريد نموذج الخلافة القديم مع تطبيق صارم للشريعة والإسلام. والآخر يرى ضرورة تجاوز هذا الشكل القديم والالتحاق بالعصر. طوال هذا التاريخ الطويل من الصراع تشكلت نخبة عسكرية مدنية قررت الانتقال من الخلافة العثمانية إلى دولة وطنية حديثة، لكن كان داخلها أيضاً صراع بين نموذج الاستبداد والدولة الديمقراطية الطبيعية. لكن في النهاية فاز الجناح الاستبدادي بقيادة أتاتورك بعد أن نجح في تحرير تركيا من الاحتلال الغربي، وبدأت رحلة بناء دولة ديكتاتورية يكون فيها الجيش هو الحارس، وهو المهيمن على ما أسموه مبادئ أتاتورك.
اتخذ تدخل الجيش أشكالا كثيرة، منها تأسيس مجلس الأمن الوطني الذي كانت أغلبيته من العسكريين، وفي عام 1927 دمج أتاتورك الحزب الجمهوري الذي أسسه (وهو الوحيد) في مؤسسسات الدولة. بعد الموافقة على تشكيل أحزاب، لم تتراجع سلطة الجيش، ولكنها كانت تزيد مع كل انقلاب عسكرى فقد كان لهذا المجلس الحق في رفض تكوين أي حزب، بحجة الحفاظ على مبادئ الجمهورية الأتاتوركية، مما يرسخ لاستقرار سياسي وأيديولوجي وأمني داخل الوطن .
في أعقاب انقلاب عام 1980، حكم الجيش مباشرة لمدة عامين، وأصدر 91 قرارا بقوة القانون شملت: الشرطة، الطوارئ، الإدارة المحلية، الجامعات، هيئة الإذاعة والتليفزيون، الجمعيات الأهلية، النقابات، المؤسسات المهنية، الإضرابات العمالية، الصحافة، حق التجمع والتظاهر (عسكرة الدولة) .
قبل طرح الدستور الجديد للاستفتاء أصدروا قوانين تحظر ممارسة الأحزاب القديمة لأي نشاط سياسي ومعاقبة من يخالف. وحظر مناقشة أي قرارات أصدرها قادة الأحكام العرفية. وحظر مناقشة أي مواد في الدستور .
كما حصن الجيش قراراته وقوانينه وإجراءاته بالدستور: لا يمكن أيضاً الطعن أمام جهة قضائية على القرارات والإجراءات التي أصدرتها هيئة الأمن الوطني والحكومات ومجلس الشورى، فلا تخضع للمساءلة الجنائية أو المالية أو القانونية. ونصت الفقرة الثانية على أن يشمل ذلك الأشخاص والمسؤولين الذين أصدروا هذه القرارات. وهي حصانة أشمل من حصانة أعضاء البرلمان التي لا تشمل الجرائم الجنائية والمالية والقانونية. وهي حصانة مدى الحياة. ولا يمكن حتى الطعن بعدم دستورية هذه القوانين والإجراءات التي أصدروها .
بعد أن تمكن أردوغان من السلطة هدم الأساس الدستوري لسيطرة الجيش تدريجياً عبر مسارين الأول : تصالح مع القوى الوطنية المختلفة لكي يساندوه في مواجهة العسكر، وهو ما حدث. الثاني حاجة المجتمع الدولي بعد هجمات 11 سبتمبر إلى "تيار إسلامي معتدل".
في هذا السياق استفاد أردوغان من المعايير التي يضعها الاتحاد الأوروبي لقبول عضويته (وهو كان مطلبا قوميا) لتقليم أظافر العسكر، فأعاد أردوغان هيكلة مؤسسات الدولة والتشريعات الدستورية والقانونية طبقا للمعايير الأوروبية. أضاف إلى عضوية مجلس الأمن الوطني وزير العدل ونائبي رئيس الوزراء، وهذا معناه ترجيح كفة المدنيين. وألغى المادة15 التي تشترط أن يكون أمين المجلس من بين العسكريين فقط، وقلص صلاحيات المجلس في المتابعة والرقابة على مؤسسات الدولة. وبذلك تحول إلى جهاز استشاري أغلبيته مدنية . ألغي وجوب وجود جنرال في وزارة التعليم واتحاد الإذاعة والتليفزيون. وسمح برفع دعاوى قضائية لاستجواب الجنرالات القدامى. وعدم السماح للجنرالات بتصريحات إعلامية إلا في مجالهم العسكري. وإلغاء إمكانية محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية .
النجاح الاقتصادي الذي حققه أردوغان وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وفق شروط الاتحاد الأوروبي ودعمه، أعطاه شعبية جعلته يقلل من سلطات الجيش دون مقاومة من قادة الجيش. بل ووضع 250 جنرالا وضابطا في السجون بتهم منها التخطيط للانقلاب.
ماذا فعل العسكر بالثقافة الإسلامية السنية السائدة؟
عام 1924 ألغى أتاتورك الخلافة، ثم ألغى كل المدارس والمعاهد الدينية وحلّ الطرق الصوفية والروابط الإسلامية. وجعل كل الشؤون الدينية من معاهد ومدارس وغيرها تحت اسم واحد "رئاسة الشئون الدينية". ووحّد التعليم وجعله مختلطاً. كما أقر برلمانه قوانين مدنية وجنائية جديدة مستوحاة من القوانين الأوروبية، وألغى الشريعة الإسلامية وأقرّ المساواة بين الرجال والنساء، ومنعهما من ارتداء الأزياء الإسلامية. بالإضافة إلى ذلك، منعت الدولة "الأتاتوركية" الأذان خارج المساجد وترجمة القرآن إلى اللغة التركية التي قرر كتابتها بالحروف اللاتينية وليس العربية. ثم ألغى في عام 1928، الإسلام كدين للدولة بعد أن استبدل التقويم الإسلامي بالتقويم الغريغوري وجعل من يوم الأحد يوماً للعطلة بدلاً من يوم الجمعة.
كان هدف "أتاتورك" إدخال تركيا في ركب الحداثة والحضارة على النمط الأوروبي. وكان يعتبر أنه "لا يمكن للجمهورية التركية أن تبقى محكومة من قبل المشايخ والدراويش والطرق الدينية. إنّما هناك نظام واحد حقيقي وصحيح ومعقول لنا، وهو نظام الحضارة" . لكنه تجاهل أن تقدم الغرب سببه الاحترام المقدس للحريات الفردية والعامة وتأسيس ديمقراطية حقيقية ودولة علمانية.
"رئاسة الشؤون الدينية" التي أسسها أتاتورك تحولت إلى جهاز حكومي تقوم الدولة بتعيين رئيسه وتحديد مهامه، إضافة لتحديد مهام رجال الدين ومضمون خطبهم وتعاليمهم، وأقرّت سلّماً لرواتبهم. كما أن هذه المؤسسة كانت تعمل، في النهاية، لصالح الأغلبية السنيّة. في حين مَنعت الدولة "الأتاتوركية" الطوائف والمذاهب الدينية الأخرى من أن يكون لها أجهزتها الدينية الرسمية والشرعية. فبقي العلويون الأتراك دون اعتراف بهم كطائفة مستقلة عن الطائفة السنيّة. وعانت الأقليّات الكرديّة ذات المذهب السني الشافعي من عدم الاعتراف من "رئاسة الشؤون الدينية" ذات المذهب السني الحنفي. فبقيت الدولة "الأتاتوركية" .
أتاتورك ومن بعده العسكر تصوروا أنهم عبر هذه المؤسسة وعبر القوانين يستطيعون فرض سيطرتهم الدينية، أي التحكم في الثقافة الإسلامية التقليدية. لم تكن هناك مشكلة في أن تمنح هذه المؤسسة أتاتورك والعسكر الشرعية الدينية، بأن نظامه ليس ضد الإسلام، فالثقافة السنية التقليدية ستجد فيها تحريماً للخروج على الحاكم ومحاربته حتى لو كان ظالماً، حتى لا تحدث فوضى في بلاد المسلمين .
معظم رجال الدين وعلى امتداد التاريخ الديني للإسلام دعموا السلطة أياً كانت، ويجدون في الآيات والأحاديث ما يدعمهم. ومن يعترض يتم إقصاؤه أو قتله. أتاتورك فعل مثل كل الديكتاتوريين في البلاد التي أغلبيتها مسلمة، السيطرة على الخطاب الديني السني وليس تفكيكه، فالهدف هو وجود خطاب لا ينازع سلطة الحكم، ولا يشكك في شرعيتها الدينية. مثل الأزهر في مصر، يدعم السلطة القائمة، حدث ذلك مع عبد الناصر والسادات ومبارك. فالأزهر لا يريد الحكم، لكنه يريد فقط أسلمة المجتمع والدولة، ويريد احتكار الإسلام لنفسه.
فما هي ملامح الأساس الديني الذي يحتاج إلى تفكيك؟
-أولها بالطبع الخلافة العثمانية والتي اعتمدت على الدين في غزو واحتلال الكثير من البلاد بما فيها الإسلامية. فالثقافة الدينية السنية والشيعية التقليدية تعتبر أن واجب المسلم هو الجهاد والغزو. الخلافة كما يقول محمد الغزالي أحد كبار فقهاء الإخوان " تمثل بين المسلمين أبوة روحية وثقافية مهيبة، وترمز إلى ولاء المسلمين لدينهم، واستمساكهم بوحدتهم الكبرى وأخوتهم العامة . حلم الخلافة مذكور فى البند السادس كأحد أركان البيعة فى رسالة التعاليم لحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين .
ستلاحظ هنا أن الخلافة ركن أساسي في بيعة الحاكم، أي لا يجوز للحاكم المسلم للدولة الإسلامية أن يتخلى عنها. وإذا فعل يفقد صلاحيته في حكم المسلمين. كما أن حلم الخلافة السائد في أوساط المسلمين لا بد أن يستند بالضرورة على تقوية نزعة الكراهية تجاه غير المسلم من أقليات دينية وغير دينية، فهذه الكراهية المتجذرة كانت السلاح الأهم للحكام العرب لغزو واحتلال شعوب أخرى، فمن المستحيل أن تغزو الآخر الذي تحبه. هذه الكراهية تستند إلى آيات وأحاديث نبوية تحتاج إلى إعادة تفسير حتى يمكن نزع الكراهية من جذورها.
-الإسلام دين ودولة، دين وأيديولوجيا وليس مجرد علاقة بين الفرد وربه. هذا الإيمان جزء من العقيدة الدينية عند عموم المسلمين وخاصة السنة والشيعة. فالنبي (ص) طبقاً لهذه الثقافة وطبقا لهذا الفهم الديني أسس دولة ومن بعده الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم آخرون معظمهم من قبيلة النبي محمد (ص). لذلك يعتبر المسلم العادي أن دولة أتاتورك دولة ضد الإسلام، فقد قامت على أنقاض الخلافة الإسلامية العثمانية، رغم أن أتاتورك لم يهدمها. وهناك اجتهادات ترى أن الإسلام دين فقط.
- المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة التي أقرها أتاتورك، على سبيل المثال، يرفضها تماماً الفهم الديني السني التقليدي، ومن ثم فهي ضد الإسلام ومن يفعلها يكون عدواً للإسلام . هذا التمييز يستند إلى أساس ديني يحتاج إلى تفكيك من خلال إعادة التفسير والفهم، لكي تكون المساواة بين الرجل والمرأة لها أساس ديني إسلامي. يحتاج إلى أن يكون أمام المسلم العادي اجتهادات دينية إسلامية تؤمن بهذه المساواة .
-إحلال اللغة التركية بدلاً من العربية، يعتبره المسلم العادي ضد الإسلام، فهناك ربط مقدس بين القرآن واللغة العربية، فقد اختار الله جل علاه "العربية" لكي يرسل بها كتابه المقدس، ومن ثم فهي مقدسة مثل القرآن. وهناك فتوى بعدم التعبد لله في الصلاة إلا بالعربية حتى لو كان لا يفهمها المسلم التركي وغير التركي. وبالطبع هناك اجتهادات ومدارس إسلامية لا تعترف بهذا الربط بين العربية والقرآن.
- الحجاب تعتبره الثقافة السائدة أمر من الله سبحانه وتعالى ومن نبيه محمد، إنه رمز للإسلام، في حين أن هناك اجتهادات أخرى لا تراه من الإسلام أساساً .
هذه أمثلة على الثقافة الإسلامية التقليدية السنية، وهي التي يخرج منها الإسلام السياسي الحركي بتنويعاته وخاصة الإخوان المسلمين، أردوغان والإسلاميين في تركيا. فهي الحاضنة الأكبر للإسلام السياسي والإرهابي. وفي نفس الوقت من يؤمن بهذه الأيديولوجيا الراسخة مثل الإخوان، يحمون هذه النسخة التقليدية من الإسلام ويحاربون ضد أي محاولات لتجديدها أو تفكيكها.
هذا التفكيك والتجديد يحتاج إلى نقاش حر، يتيح وجود مختلف الأفكار والاجتهادات الإسلامية، لكن هذا من المستحيل أن يتم بدون أن يكون هناك حرية رأي وتعبير وتنظيم في المجتمع. أي مستحيل تحقيق تجديد أو تحديث الخطاب الديني دون حرية.
إذا عدنا إلى التحديث الديني في أوروبا، فقد خاضت هذه المجتمعات معركة طويلة لكي تصل إلى اجتهادات إنسانية من المسيحية واليهودية، اكتملت بالإقرار النهائي للحريات الفردية والعامة، هذه الأسس أنهت القداسة عن الملك وعن الكنيسة والكنيس وأقرت الحريات الدينية وحرية الاعتقاد، ومن ثم تفككت وتراجعت الأسس الدينية للاستبداد الديني والسياسي، وخرجت نسخ متصالحة مع الحداثة والحضارة.
على امتداد تاريخ المسلمين تم قمع واضطهاد المجددين بمختلف توجهاتهم بسبب هذه الديكتاتورية الدينية السياسية. هذا ما حدث في تركيا: ديكتاتورية عسكرية تحتكر السياسة والدين وكل شيء، وتفشل في تحقيق ما يتمناه الناس من رفاهية وحرية. وعندما يتم إزاحتها أو زحزحتها تخرج القوى الحقيقية المسيطرة على المجتمع وهي القوى الدينية التقليدية ممثلة في الإخوان وعموم الإسلام السياسي أبناء الثقافة الإسلامية التقليدية.
لذلك عاد الإسلاميون إلى الحكم في تركيا عام 2002، ومعهم "مجد" سلطنة عثمانية وأحلام خلافة إسلامية. مستندين إلى الثقافة الإسلامية الراسخة في المجتمع، حول الإسلاميون والإخوان في تركيا مشروع الدولة الإسلامية إلى مطلب شعبي، كانوا ينشطون في القرى وضواحي المدن الكبرى. وكذلك كانت الحركات الصوفية الإسلامية تستعيد دورها المؤثر والقوي في الريف الأناضولي، خصوصاً وأن الدولة التركية اعتمدت المركزية في الحكم، وأهملت خلال العقود الماضية، وبشكل حقيقي، تنمية المدن الصغرى والقرى البعيدة عن أنقرة واسطنبول وإزمير. فكان الإسلاميون يقودون ثورة في الخفاء، ويحرضون الشباب التركي في المدارس والمساجد والتكايا ضد سلطة استبدادية فاشلة اقتصادياً وسياسياً.
استفاد الإسلاميون من ثلاثة عوامل أساسية. الأول يعود إلى أن الجيش أضعف اليسار والقوى السياسية التركية بشكل كبير خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، فحل محلهم الإسلاميون وحصلوا على شعبيتهم بين الطلاب والعمال وسكان الضواحي والقرى. أمّا الثاني فيعود إلى السياسات المزدوجة التي مارسها الحكومات والجيش، والتي قامت على محاربة وقمع الإسلام السياسي من ناحية، والسماح بتعزيز الرموز الدينية في المجتمع لتحصد السلطة المزيد من الشرعية، وتظهر الجيش بأنه ليس عدواً للدين، فتسرب الإسلاميون في هذا الهامش من خلال المساجد والمدارس، تدريجيا أصبحوا أقوى وأقوى.
أما العامل الثالث، فيعود إلى نضال الإسلام السياسي، والذي حوّل القمع الحكومي إلى مظلومية عامة، زادت من شعبيته وأظهرته كمدافع عن المواطنين وحرياتهم وإيمانهم.
كما تسببت مركزية الدولة وفشلها في هجرة كثير من الأتراك من الريف إلى المدن، بحثاً عن العمل والمال والخدمات والضمانات الاجتماعية. فنقل الريفيون معهم أفكارهم الإسلامية المحافِظة إلى المدن، وسكنوا في ضواحيها وأصبح الكثير منهم أغنياء، وأصبحوا أقوى في سعيهم للانقضاض على دولة أتاتورك ومركزيتها، وشكّلوا العامل الرابع الذي أضعفها وأعطى للإسلام السياسي المزيد من هامش الحرية والتأثير .
عندما حكم الإخوان تركيا في 2002 ، في البداية سعوا إلى مزيد من أسلمة المجتمع و الدولة، لكن عكس أسلوب أتاتورك. فلم يبدأوا بتغيير تركيا من أعلى عبر الدستور والقوانين، أو عبر فرض سياساتهم السلطوية بالقوة والإكراه، إنما عبر إحداث تغييرات في البُنى الاجتماعية والاقتصادية. ظهر على شكل إصلاحات محافِظة في المدارس والجامعات والأرياف والنقابات وعالم الأعمال والسياسات المتعلقة بالمرأة، سرعان ما تحول إلى قوانين وقرارات تقدمها الحكومة استجابة لمطالب الناس التي تريد مزيداً من "أخونة" الدولة والمجتمع والقانون. وعلى الرغم من أن "العلمانية" لا تزال مذكورة في الدستور التركي وهي الإطار العام الذي يحكم البلاد، إلا أن حزب أردوغان الحاكم يسعى دائما إلى إخراج "العلمانية الأتاتوركية" عن مضمونها الأصلي .
فبات من الطبيعي اليوم في تركيا أن تعلو الأصوات مطالبة بدستور إسلامي وتطبيق الشريعة، وطبيعي أن يتم قتل السفير الروسي "أندري كارلوف" في قلب العاصمة التركية أنقرة، وقاتله يصرخ "الله أكبر". وأردوغان ورفاقه ينفذون حلمهم بدولة إسلامية تحارب العالم كله لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الإسلامية الاستعمارية.