الدكتور زقزوق رجل العلم المجدد
الخميس 16/أبريل/2020 - 12:51 ص
طباعة
روبير الفارس
رحل الأستاذ الدكتور محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف الأسبق، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ورئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الأسبق، رحل الإنسان الذى أعلى قيم الاحترام المتبادل بين الناس، وأثرى ركائز التطبيق العملى لقيمة الإنسانية فى كل كائن بشرى، وحول الدكتور زقزوق وفكرة كتبت الأستاذة سناء السعيد تقرير بالعدد الجديد من مجلة المصور جاء فيه كان إنسانا خلوقا وقمة فى التواضع حيث كان يرى أنه لا مكان للتعالى على الآخرين أو الانتقاص من شأنهم أو السخرية منهم أيا كان وضعهم الاجتماعى أو العلمى أو غير هذا من فروق، فهو يؤمن بأن الجميع بشر وفقا لما قرره القرآن الكريم حين أمر الله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يعلن ذلك للناس فى قوله تعالى: «قل إنما أنا بشر مثلكم» الكهف ـ ١١٠، فالبشرية أو الإنسانية قاسم مشترك بين الجميع.
وتقول السعيد
التقيته كثيرا عبر أكثر من حديث صحفى، ولطالما حدثنى عما كان يطلق عليه «سدنة العلم» و»كهنة الجهل» ليستعرض الفروق بينهما، فسدنة العلم هى الفئة التى يغلب على روادها التواضع واستقامة المقاصد وهدفهم السعى نحو البحث عن الحقيقة، أما سلاحهم فهو القيم الأخلاقية والمثل العليا، يدعون إلى نهضة العلم لترقية الحياة وخير الإنسانية، أما كهنة الجهل فيغلب عليهم الحقد والكراهية وسوء المقاصد وسلاحهم التبجح بجهلهم والتطاول على الآخرين حقدا وكراهية، يتطاولون على سدنة العلم ويقفون فى وجه أى محاولة لتطوير الفكر الدينى بصفة خاصة والفكر الإنسانى بصفة عامة، وهؤلاء عمدوا إلى سد كل منافذ الأمل للنهوض بالعلم والاستزادة منه، وعلى حين انبثقت جبهة سدنة العلم من ينبوع الخير فإن جبهة كهنة الجهل انبثقت من ينبوع الشر، والجبهتان فى صراع مستمر إلى يوم القيامة، ومن هنا فإنهما لم يلتقيا أبدا على كلمة سواء.
عرفت الدكتور محمود حمدى زقزوق عن قرب، كان عن حق علامة فارقة فى مجال الفقه الإسلامي، المفكر المتبحر فى أمور الدين، العاشق للمبدأ بحيث يتشبث به كأحد الثوابت التى لا يمكن أن يحيد عنها، فهو ناسك معرفة، ورائد للموضوعية العلمية، يتميز بعقلية حرة تعشق الانطلاق الفكرى ولهذا تمتع بمكانة فكرية عالية، ولهذا كان كل من يلتقى به يجد نفسه مدفوعا نحو قراءة ما يجود به من أفكار وليتسنى له الاقتراب من الاستقراء التحليلى لنتاج فكر هذا الإنسان الجامع المانع، فهو الذى استطاع وبهدوء وتسلل منطقى أن يحقق دوما المعادلة المطلوبة دون أن يرهق القارئ أو المتابع له، وعندما حدثته عن المناصب وما الذى تعنيه بالنسبة للإنسان الذى يشعر دوما بالضعف حيالها قال: (إن المناصب زائلة ولن يبقى للإنسان إلا الذكرى والعمل الصالح)، إنه الأستاذ الدكتور محمود حمدى زقزوق الذى كان وسيظل علما فكريا بارزا ولهذا توج ليتصدر الكثيرين علما وأدبا وتواضعا.
يحدثنى عن العدالة المفقودة ويرى أن من الضرورى ضمان العدالة لكل إنسان فهى حق للجميع، وهى تعنى الاعتراف بقيمة الإنسانية جمعاء وتعنى ضمان الكرامة لكل إنسان، يدعم هذا مبدأ المساواة ويردف الدكتور زقزوق قائلا: (مبدأ المساواة يعد خير داعم للعدالة، فالمساواة قررها القرآن الكريم لتسرى وتطبق على الجميع، ومن ثم يظل التفاضل بين الناس يرتكز على التقوى عملا بقوله تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»)، ويمضى الدكتور زقزوق فيتحدث عن العدالة المفقودة فى المؤسسات الدولية ويدلف من ذلك إلى الحديث عن ضرورة حصول العالم الإسلامى على مقعد دائم فى مجلس الأمن الدولى وهو المجلس الذى يعد محتكرا من القوى الكبرى، ويرى أن هذا ظلم واضح ومن ثم لم يستطع أن يلتزم الصمت حياله، فسارع فى عام ١٩٩٢ وعرض للموضوع بثبات فى النمسا ودعا إليه، وعاد ثانية ودعا إليه فى إيطاليا عام ٢٠١٥ ويردف قائلا: (لا يعقل أن تمثل أوربا الغربية بأكثر من دولة فى مجلس الأمن بينما لا يكون لمليار ونصف المليار مسلم فى أكثر من ستين دولة مقعد واحد دائم فى هذا المجلس، ولهذا أقول إنها العدالة المفقودة فى المؤسسات الدولية).
ولا يغيب عن الدكتور محمود حمدى زقزوق عرين السياسة وتعقيداتها ومنغصاتها بما تعكسه من قضايا خلافية وأبرزها قضية القدس وهى قضية الفرص الضائعة ومأساة المسجد الأقصى بسبب تعنت الكيان الصهيونى وعدم وجود إرادة دولية جادة ومنصفة لحلها، أما ما يفاقم القضية ويزيدها تعقيدا فهو الانقسامات العربية والفلسطينية، وفى معرض تعقيب الدكتور زقزوق على هذه القضية يقول: (تغييب أمريكا وإسرائيل لقضية المسجد الأقصى لا تعنى غيابه عن ساحة الأحداث التى يجب ألا تغيب بدورها عن الدول الإسلامية، فالقضية ليست عربية تهم فقط العرب والفلسطينيين وإنما هى قضية ينبغى أن تهم كل مسلم، ومن ثم لا يمكن اختزالها بجعلها مجرد قضية فلسطينية أو عربية فقط. وبذلك فإن مسؤولية تحريرها تقع على عاتق الجميع، ومن هنا أدعو المسلمين كافة إلى تحريك العالم وإشعاره بأن هذه القضية تشكل جزءا جوهريا من موروثات الأمة الإسلامية).
كان الدكتور محمود حمدى زقزوق مسكونا بالقضية الإسلامية والركائز التى ترتكز عليها ويتصدرها فى المقام الأول الوحدة الإسلامية والحرص عليها عبر تكاتف المسلمين وتضامنهم، ومن ثم يدعو إلى ذلك ويحض عليه قائلا: (من أجل الوحدة الإسلامية والحفاظ عليها يجب تنحية أية خلافات، فلا يمكن أن تصبح الخلافات الفرعية عقبة فى طريق تحقيق وحدة الأمة الإسلامية، ولهذا يجب أن ندعم هنا التقارب بوصفه ضرورة لابد من تثبيتها لا سيما مع ما يجابه الأمة الإسلامية من مخاطر، فالمسلمون فى أشد الحاجة إلى توحيد صفوفهم وتنسيق جهودهم وإذابة خلافاتهم على جميع الصعد).
لا يمكن للمرء أن ينسى الأستاذ الدكتور محمود حمدى زقزوق العالم الخلوق الذى خصه الله جل شأنه بالعلم الوفير لكى يقوم بتوظيفه فى المهمة التى أخذها على عاتقه، ألا وهى تغيير ما يسود فى الساحة من سوءات لتصبح القاعدة لديه تكريس جل وقته لخدمة الدين والترويج للعلم، إنه الدكتور زقزوق الذى يترفع عن الصغائر، وهو قمة فى التواضع، يؤمن بحق الاختلاف فى الرأى ويكفى أنه العالم الذى لم يسع للمناصب أبدا وإنما المناصب هى التى سعت إليه، إنه القامة التى فرضت على الجميع احترامه، لأن معدنه ذهبى ثمين، رحم الله الدكتور محمود زقزوق وأسكنه فسيح جناته..