النمنم يرصد كيف أفسد الدعاة الجدد...التدين المصرى
الثلاثاء 05/مايو/2020 - 09:15 ص
طباعة
روبير الفارس
هناك ظروف وعوامل سياسية واجتماعية ثقافية دفعت إلى ظهور وانتشار «الدعاة الجدد» أو الذين كانوا جددًا وقد توقف عند تلك العوامل والأسباب كل من درس تلك الظاهرة، سواء من الزملاء الصحفيين أو الباحثين الأكاديميين، ولكننا نغفل السبب الرئيسى والأهم لظهورهم وهو طبيعة تكوين وأحوال المؤسسة الدينية الرسمية فى مصر وطبيعة التدين المصري، والملاحظ أن هؤلاء جميعًا جاءوا من خارج المؤسسة الدينية، اي الأزهر الشريف؛ لأن الذى يتخرج من الأزهر سوف يظل مرتبطاً به أو محسوبًا عليه، ولذا فإن هؤلاء «الجدد» أو من كانوا كذلك لابد أن يظهروا من خارج المؤسسة الدينية، وفي دراسة مهمة رصد حلمي النمنم وزير الثقافة السابق محاولات إفساد الدعاة الجدد التدين المصري حيث قال في الدراسة التي نشرتها مجلة المصور أن الوضع فى مصر وفى غيرها من البلدان التى تعتنق الإسلام السنى يسمح لهؤلاء بالظهور، ولا يمنح المؤسسة الدينية حق اعتراضهم أو حتى مراجعتهم، مثلا فى الإسلام الشيعي، ليس مسموحاً لأحد أن يتحدث فى الدين ويمارس وظيفة أو دورا دينيا من خارج المؤسسة الدينية، المسألة محسومة فى المسيحية، هناك رجال الدين وهناك العلمانيون، العلمانى هو كل من ليس رجل دين، حتى لو كان إنسانًا متدينًا أو يقدم خدمات جليلة للكنيسة، وفى اليهودية المسألة وقفاً على الحاخامات، وفى المذهب الشيعي، هناك السادة وآيات الله، وهؤلاء لهم مواصفات وإعداد خاص، أبرزه أن يدرسوا ويتخرجوا فى الحوزة العلمية أو الفقهية ويكونوا معتمدين منها، عندنا الأمر جدًا مختلف.
صحيح أن رجال الأزهر لهم وقارهم وهيبتهم، لكن ليسوا وحدهم فى هذا المجال، الإسلام السنى طالما افتخر علماؤه بأنه لا كهانة فى الإسلام ولا اكليروس خاص به، وهكذا كان الدين مجالا مفتوحا أمام الكثيرين للحديث فيه وتولى مهمة الوعظ، كان هناك دائمًا رجال التصوف، وهؤلاء لهم مريدون فى مختلف أنحاء مصر، وتجمعهم الطرق والموالد ولهم أذكارهم الأسبوعية وهم يشكلون مجتمعًا متماسكًا ومترابطًا، هؤلاء يختلفون عن العلماء والفقهاء، يكفى أن يحفظ أحدهم القرآن الكريم أو بعض أجزاء منه وينتمى إلى إحدى الطرق ويتبع أحد الأولياء، وقد حدثت منافسات وصراعات تاريخية بينهم وبين العلماء والفقهاء، لكن فى عصرنا الحديث باتت الأمور محسومة ولم يعد هناك صراع ولا تنافس، حيث حدد القانون دور كل منهما، وأضيف إلى المتصوفة فى العصر الحديث الجمعيات الخيرية ذات الطابع الديني، وهذه كانت تدلف إلى الناس من باب الخدمات الاجتماعية، وبين هذه الجمعيات من عملت فى المجال الدينى فقط، فتؤسس الزوايا وتقيم المساجد ويكون لديها الخطباء والوعاظ، ولم يكونوا دائما من علماء الدين ولا من رجال الأزهر ويجب القول إن بعض هذه الجمعيات كانت ذات اتجاه دينى متشدد وبعضها اتجه بالكامل نحو السلفية، ولما تأسست مدرسة دار العلوم وصارت كلية فيما بعد، كانت أقرب إلى كلية موازية للأزهر، ويضيف النمنم قائلا كان الهدف منها أن تقدم شبابا يتحدثون فى الدين دون أن يكون لديهم قطيعة مع العصر، ورغم أن دراساتها فى جانب منها تهتم بالأدب والنقد واللغة، لكن كان فيها قسم للدراسات الإسلامية، كالتفسير والتاريخ الإسلامي، وبعض خريجى هذه الكلية لم يكونوا يترددون فى ارتداء الزى الأزهري، وراحوا يعاملون فى المجتمع ومن وسائل الإعلام باعتبارهم من علماء الدين، وبعضهم لمع كثيرًا، مثل د. عبدالله شحاتة وكان متخصصًا فى التفسير ود. أحمد شلبى وكان فى التاريخ والحضارة الإسلامية، ويجب القول إن هؤلاء كانوا على علم ومن ذوى التخصص وإن لم يكونوا من الأزهريين، لكن إلى جوارهم قدمت «دار العلوم» عددًا من رؤوس التطرف مثل حسن البنا خريج تجهيزية دار العلوم، وهى لا تمنح درجة عالية جامعيًا، وسيد قطب وآخرين إلى يومنا هذا مثل صلاح سلطان الذى وقف يتراقص يومًا على منصة رابعة العدوية سنة ٢٠١٣.
وفى نوفمبر ١٩٥٤ قررت جمعية الدراسات الإسلامية والتى كان يرأسها محمد على علوبة «باشا» تأسيس معهد الدراسات الإسلامية، وكانت أهداف الجمعية طموحة، المعهد يمنح درجة الماجستير، وهكذا اتجه إليه كثير من الخريجين الذين لم يمكنهم استكمال الدراسات العليا فى تخصصاتهم أو من يرغبون التخصص فى الدراسات الإسلامية، ونظرًا للـشروط الميسرة للقبول به وجد إقبالاً شديدًا، وصار خريجوه يقدمون أنفسهم باعتبارهم متخصصين فى الدراسات الإسلامية، سواء من نال الدبلوم أو الماجستير، وكثير من هؤلاء اتجهوا إلى ما بات يطلق عليه «مجال الدعوة» أى يكفى أن يلحق بالمعهد وعبر إحدى الجمعيات يصبح «خطيبًا» أو واعظاً، وهكذا يصبح «داعية»، ولا أحد يساءل أو يحاسب عن المستوى الفقهى والعلمي، ومدى الصلاحية أو عدم الصلاحية.
ويقول النمنم
يضاف إلى ذلك أن بعض الجمعيات المشهرة فى وزارة الشئون الاجتماعية راحت تؤسس «معهد إعداد الدعاة»، تكون الدراسة به عدة شهور، ومن يتخرج منه يصبح «داعية»، يمكن أن يلقى خطبة الجمعة.
فى هذا السياق، لا يكون من الصعب ظهور «دعاة جدد»، وهؤلاء الجدد، جاءوا على الموضة، أى ليسوا من خريجى معاهد الجمعيات الخيرية، فإذا لم يكن أزهرياً ولم يكن من خريجى ذلك المعهد، يكفى أن يردد أنه حاصل على دبلومة من أى جامعة أجنبية، فى الدراسات الإسلامية، وتكتمل الصورة لو كان خريج إحدى المدارس الأجنبية، ويا حبذا لو تخرج فى الجامعة الأمريكية، أى يقدم نفسه باعتباره جاء من خلفية أجنبية لغة وتعليمًا، وهنا يكون اتجاهه للإسلاميات دليل زهد وحب فى الإسلام، وتكتمل الصورة إذا صاحب ذلك مظهر الورع والتقوى، بأن يخفض عينيه وهو يتحدث بحيث تبدو العينان كسيرتين، خضوعاً وتأدبًا، أو مكرًا واستعدادا لاصطياد الجمهور أو يحلق بناظريه فى الفراغ، دون أن تستقر نظراته على شيء أو شخص محدد، وكأنه متأمل ومشدود فى ملكوت الله، ثم محاولة الحديث بصوت مختنق، مترقرقاً، فيبدو أقرب إلى التخنس، فلا هو صوت غليظ متجهم ولا هو ناعم تمامًا، بل بين البنين...
وسوف نجد تاريخا مختلقًا أو ما يشبه الأسطورة حول كل منهم، باختصار إنها أدوات صناعة النجم، لكن فى الجانب «الدعوي»، فى مجال الفن تتولى بعض شركات الإنتاج تقديم وتلميع من تراه يمكن أن يصبح نجمًا، من طريقة ارتداء الملابس وحديثه عن الموهبة المبكرة، وفى المجال الدعوى نرى شيئاً لا يبتعد كثيرًا عن ذلك، ثمة من يتحدث بخجل عن أنه كانت أمامه فرصة العمل مهندسًا أو يعمل فى بنك أجنبي، لكنه ترك كل هذا واختار الزهد، واتجه متواضعًا ومتفضلاً إلى مجال الدعوة، ولا مانع من الإثارة مثل أنه ينتمي، ولو من بعيد، إلى أسرة عريقة، بما يوحى كأن الدنيا بكل ما فيها من جاه ومتع كانت أمامه، وحين يتحدث أحدهم عن نفسه، سوف نجد التواضع الزائف أو الكاذب، هذا يتحدث عن أنه وصف باعتباره «جي. بي. إس» القرآن الكريم، وهكذا غرور مع تسطيح شديد، أو من يتحدث وكأن معجزات القدر معه فى كل خطوة، وكأن الملائكة تحفه دائمًا، مثل أنه كان على حافة الفشل، ورسب مثلًا فى الدراسة أو لم يوفق فى مشروع زواج أو مشروع سفر إلى الخارج، أو أنه كان على وشك الانحراف، لكن ذلك كان بإرادة إلهية لدفعه دفعا أو اختيار ربانى له لمجال الدعوة، وبالطبع لا أحد يدقق ولا يحقق فى كل هذه المزاعم، لبيان الزائف من الصادق فيها، ولكن إذا حاولت أن تتأملها جيدًا سوف تجد أنها أدوات تخليق وصناعة نجم ولكن ليس فى المجال الفنى مثلاً أو السياسى ولكن المجال الديني.
وتوكد الدراسة علي
إن تناول الفكر الدينى والظاهرة الدينية مفتوح أمام الباحثين والكتاب، وفى عصرنا الحديث وجدنا كتابات مهمة فى هذا الصدد، صدرت عن كتاب ومفكرين لم يكونوا من رجال وعلماء الدين، وأمامنا د.محمد حسين هيكل وكتابه «حياة محمد» الذى صدر سنة ١٩٣٤، ومازال إلى اليوم تعاد طباعته ويحقق أرقام توزيع مرتفعة للغاية، وكذلك عبقريات العقاد ودراساته الإسلامية الأخرى، سواء منها ما كان متعلقًا بترجمة بعض الشخصيات الكبرى مثل الحسين بن على ومعاوية بن أبى سفيان والخليفة الثالث عثمان بن عفان «ذى النورين» وغيرهم، أو تلك المتعلقة بالقضايا الفكرية الكبرى فى الإسلام مثل «التفكير فريضة إسلامية» أو «الديمقراطية فى الإسلام»، وهكذا عشرات الأسماء والكثير من الأعمال فى هذا المجال، ورغم نجاح هؤلاء جميعًا فى مجال الدراسات الإسلامية، فلم يسمح العقاد أو د.هيكل أو أمين الخولى وغيرهم، أن يزعم لنفسه أنه داعية أو أن يجلس فى مجال الوعظ، هو كاتب وباحث فقط، يضيف إلى العلم وإلى الفكر الديني، لكنه ليس عالمًا ولا رجل دين، لا يقترب أى منهم من مجال الفتوى والإفتاء ولا يسمح لنفسه بالمزايدة على الآخرين فى تدينهم واعتقادهم.
ويمكن القول إن هؤلاء الكتاب ودراساتهم تلك أضفت قدرًا عظيمًا من الحيوية للدراسات الإسلامية وكشفت الوجه الإنسانى والحضارى فى التاريخ الإسلامي، وفضلا عن ذلك فقد لعبوا دورًا كبيرًا فى التصدى لأفكار وآراء المتشددين والمتطرفين، وتصدوا لأفكار جماعة الإخوان الإرهابية، العقاد تحديدًا، على عكس الدعاة الجدد الذين قام وجودهم على مغازلة الفكر المتشدد حينا وتبنيه حينًا آخر والدعوة إليه واجتذاب الشباب والفتيات نحوه، وبينما كان المفكرون مهتمين بتحديث الفكر الإسلامى وجعله قادرًا على التعامل مع العصر، وتحملوا فى ذلك الكثير من المشقة والمعاناة، قام هؤلاء بالعكس تمامًا، إذ حولوا الأمر كله إلى موضوع نجومية ومجال بيزنس مالى ضخم، والسباحة فى الفناء الخلفى للجماعات والتنظيمات الإهابية.
وكل المهن والحرف فى مصر لها قانون ينظمها، ويحدد مؤهلات من يعمل بها، بدءًا من ممارسة قيادة سيارة، وحتى ممارسة مهن كالطب والصحافة والصيدلة وغيرها، لا يمكن لأى إنسان أن يمارس مهنة الطب دون أن يكون حاصلاً على بكالوريوس الطب وأن ينال عضوية نقابة الأطباء، وكذلك الحال بالنسبة للمحاماة وللصحافة، فإن ضبط أى إنسان يمارس أى مهنة دون أن تكون لديه المؤهلات يحال إلى المحاكمة – بتهمة انتحال صفة أو يتم تغريمه، ولكننا فى مجال الوعظ والإرشاد أو ما يمس «الدعوة»، نجد تساهلاً شديداً، وكل من هب ودب يتجه إلى هذا المجال، والغريب أنه يسمح لبعضهم بدخول المساجد وممارسة ذلك بها أو على شاشات التليفزيون، ولم يقل لنا أحد.. هل استوفوا الشروط العلمية والفقهية، وهل يطابق ما يقومون به صحيح القانون أم أنه انتحال صفة وانتحال مهنة؟!.
ظهور هؤلاء على الشاشات وفى المنتديات العامة وعلى صفحات بعض الصحف، بهذه الصفة، يوحى إلى الرأى العام أن الأمر عادي، بل ومحبذ، وأنه مجال مفتوح يمكن لأى إنسان أن يخوض فيه، ببعض الأدوات البسيطة، بل إن بعض الشباب باتوا ينظرون إلى هذا المجال باعتباره فرصة عمل سهلة ومريحة، يمكن أن يلجأ إليها، وقد وجدنا – مثلاً – شابًا تخرج فى معهد الصيرفة، ولما لم يجد عملًا اتجه إلى هذا المجال وكان مصدر كوارث للمجتمع، حيث انتهى الأمر به إرهابيًا، ويردد بعض المدافعين عن تلك الظاهرة أن اتجاه شاب إلى هذا المجال أفضل له وللمجتمع أن يسير فى طريق خاطئ، أو قد ينحرف.
وهذا القول به بعض الوجاهة، لكن الخطورة فى هؤلاء أنهم لم يدرسوا بشكل معمق العلوم الدينية، لذا نجدهم يفتقدون تدقيق بعض الروايات أو بعض الآراء التى يقومون بها، وفضلا عن ذلك فقد يحاولون دس السم فى العسل، مثل التحريض المبطن على بعض أوجه الحياة فى المجتمع، كالاهتمام بالسياحة والأمر المؤكد أن بينهم من حارب السياحة فى مصر طويلاً، وراح يهدد العاملين بها أو التحريض على بعض فئات المجتمع، حدث ذلك تجاه الأقباط، أو التنمر بالمرأة المصرية وأدوارها، مثل القول إن أفضل مكان للمرأة هو بيتها، وهذا عمليًا يعنى التعريض بعمل المرأة، وهذا يعنى تجاهل أن حوالى ٢٠ فى المائة من الأسر فى المجتمع تعولها نساء، وقد اشتهر عن بعضهم التنمر بالنساء، وبينهم من يمكن أن يوضع فى خانة العناتيل، وهناك من مارس التحريض على القانون العام فى الدولة، سمعت بأذنى أحدهم يدافع عن أحد رجال المال، لما قبض عليه لجمعه بين خمس زوجات فى وقت واحد، يقول «إنه خالف القانون «الوضعى» لكنه لم يخالف الشريعة الإسلامية» وتبين فيما بعد أن ذلك «الداعية» يعمل محاميًا وكان هو محامى رجل المال، الموكل بالدفاع عنه.
وفى عصر كان الاتجاه المحموم إلى الخصخصة وانتقل ذلك الأمر إلى المجال الديني، فتأسست معاهد دينية خاصة، وظهر «الدعاة» من خارج المؤسسة الدينية، فهم البعض أن الاتجاه إلى الخصخصة أو محاولة لأخذ بالمنهج الرأسمالي، يعنى التخلص من القانون وإضعاف سلطة الدولة، التخلص من القانون وإضعاف سلطة الدولة يزيد من معدلات النهب والفساد والتحايل، لكنه لا يعطى دفعة جادة للرأسمالية الحقيقية، وقد قام هؤلاء بمحاولة إفساد التدين.