الجهاديون الفرنسيون: رهانات سياسية ونقاشات سوسيولوجية
الخميس 04/يونيو/2020 - 10:43 ص
طباعة
حسام الحداد
تمثل عودة المقاتلين من بؤر التوتر في مناطق الصراع تحدياً للدول العربية والغربية على حد سواء، بعد انخرط أفراد منها وتسللهم إلى المناطق المستعرة بالحروب ومع ارك الكر والفر، في منطقة الشرق الأوسط كدول مثل: العراق وسوريا وليبيا، كانت قد أطلقتها شرارة ما يسمى بالربيع العربي. ظهر ذلك التحدي للدول –في الغالب- بعد اكتشاف أولئك المقاتلين سراب الدعوات التي كانت تنادي وتجاهر بها التنظيمات الإرهابية الجهادية كالقاعدة و”داعش” وغيرهما، خصوصا بعد معايشتهم للواقع الذي ظهر جليا مخالفا لأحلام أولئك المغرر بهم، بعد أن أبهرتهم الماكينات الإعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي لتلك الجماعات المسلحة بالانتصارات المتوهمة، أو السيطرة على الأرض والسيادة عليها، أو صورة طبيعة الحياة الملائكية التي قدمت عبر نوافذها، مع إضفاء عناصر التشويق والحركة والمغامرة، وصولا إلى تطابق إيمانهم المختل وفهمهم للإسلام مع تلك الجماعات.
حول هذا الموضوع جائت دراسة محمد علي عدراوي (باحث أول في السياسة والعلاقات الدولية في دراسات الشرق الأوسط -جامعة سنغافورة الوطنية)، ضمن كتاب المسبار الشهري “عودة المقاتلين من بؤر التوتر: التحديات والإمكانات”، حيث يرى العدراوي أن المجتمع الفرنسي بات الآن، ومنذ سنوات عدة، مخترقاً بالعديد من التساؤلات التي تستوجب الشرح حول إيقاف ظواهر التحدي الجهادي والاحتراز منه. وإذا كانت أكثر مظاهر هذا التطرف وقعاً على علاقة بالأحداث التي اقترفت في نوفمبر 2015 في باريس، فإن هذه الأحداث لا تستطيع أن تبعد النظر عن الهجمات المتعددة (التي حصلت بشكل مطرد وبطريقة مدمرة) ضد أهداف متطورة (مدنية، عسكرية، ودينية…) بالتوازي مع عدد كبير من أشخاص نجحوا في بلوغ أراضٍ في الشرق الأوسط أو حاولوا ذلك، حيث ينشط الآن الفاعلون الأساسيون من الحركات الجهادية (تنظيم الدولة الإسلامية، جبهة النصرة التي تحولت منذ عام 2016 إلى جبهة فتح الشام والتي اندمجت عام 2017 مع مجموعات محاربة أخرى لتشكل مجتمعة ما يعرف بهيئة تحرير الشام…).
وإذا كان ثمة العديد من التساؤلات التي تطرح حول وجود استثنائية محتملة فرنسية وفرنكوفونية ترتبط بالنصيب الأوفر (بعبارات مطلقة ونسبية) من الأشخاص الذين يتحدرون من فرنسا ومن بلجيكا؛ والذين اختاروا أن يصبحوا من المحاربين في صلب الحركات الجهادية المعروفة بعداوتها الواضحة للعديد من البلدان الغربية، فإن النقاشات باتت أكثر تشعباً وهي تتناول الدلالة الاجتماعية، والثقافية والدينية والسياسية لهذه الواقعة الاجتماعية التي تتمثل بالتبعية لمجموعات، أو الأخذ بأطروحات تحاول بالعنف الهائج -غالب الأحيان- إثارة مواقف صراع متنامٍ.
أما الهدف البعيد، فهو إقامة دولة تجمع مسلمي العالم كله، دولة تضم الناس جميعاً، نساءً ورجالاً حتى الذين يعيشون في أوروبا. وهذا ما يفسره المنظرون للجهاد باعتبار هؤلاء جنوداً في جيش يعيش حالة حرب دائمة.
يخلص الباحث إلى أن الحركة الجهادية الفرنسية هي حركة تتميز عن سائر التجارب القومية الأوروبية والغربية في الراديكالية، من حيث إمداد تطرفها باستعدادات اجتماعية وثقافية مهمة وموجودة أصلاً في أوساط الأجيال الشابة عند المسلمين الفرنسيين، حيث نجد أن قسماً مهماً من هذه الأجيال قد فتن دون انقطاع بهذا المخيال الأخروي والحاد عند بعض المجموعات الجهادية، وعلى رأسها الدولة الإسلامية. ودون الإشارة بالضرورة إلى خصوصية فرنسية لا يمكن تجاوزها (والتي يصعب الدفاع عنها، ذلك أن هذا البلد يؤوي الجماعات الإسلامية الأساسية في أوروبا الغربية، الأمر الذي يجعل من وجود الفرنسيين وسط هذه الحراكات وجوداً نسبياً)، فإنه لا بد لنا أن نلاحظ أن الحراكات الجهادية تجد في هذا البلد أرضاً خصبة، لا سيما وسط الشبيبة المسلمة المقاومة للخطابات المسيطرة، حيث يشكّل ضعف أو انعدام الاندماج الاجتماعي والنفسي بنية عداوات مسبقة أكيدة، وسيتكفل التطرف الديني بتوجيه ذلك نحو نمط من العنف لم تتحدد معالمه بدقة.
كذلك يتضح من تحليل الحالة الفرنسية أن حقل التطرف قد بات يعرف ومنذ نشوب القتال السوري تغيرات مهمة. فالمهمة الجهادية باتت عرضةً للانقسام والتذرر. إذ إن الفاعلين الذين ذهبوا إلى هناك لم تعد تجذبهم أيديولوجيا محددة واضحة البنى (الخلافة، والطوباوية الأخروية في حالة الدولة الإسلامية على سبيل المثال). إنهم لا يندرجون في إطار أخلاقية عنيفة، بل هم أشخاص تثقفوا على الحياة الجهادية وهم يقللون من علاقاتهم الاجتماعية. وإذا كانت الوجوه التي انجذبت إلى هذا النوع من الإسلام المتطرف على هذه الشدة من التنوع (على الرغم من بقاء عوامل ثقيلة، مثل الفقر، والابتعاد عن الأرض والانتماء إلى أجيال سابقة) فذلك يعود إلى الرسوخ الثقافي للفكرة الجهادية. وحده البعد الأيديولوجي ذو البعد الكوني، حيث تكون الطاقات موجهة نحو نشر العنف والبحث عن حالة حرب دائمة (ما يتيح إعادة نشر كل أشكال الغطرسة الخاصة بالأجيال المعاصرة نحو معنى ديني عابر للأمم وثوري)، إن الحركة الجهادية تعبر بذلك وبشكل جيد عن شكل من الثورة كما جاء في كتاب (Scott Attran, L’Etat Islamique est une Revolution, Les Liens qui Liberent, 2016)، يمكن استشعار نتائجه طالما أن هذا المخيال يمارس شكلاً من أشكال التفوق الرمزي في حقل المطالب المحلية، القومية والعالمية الآيلة إلى التطرف.