المشاكل البنيوية في التعليم الديني
الأربعاء 10/يونيو/2020 - 08:57 ص
طباعة
روبير الفارس
يمثل التعليم الديني محور أساسي في الدول العربية والإسلامية ومع الأهمية القصوى التي يحتلها هذا النوع من التعليم نحتاج باستمرار الي دراسات وأبحاث متعددة تبحث في واقعه وضرورة تطويرية من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة التي تعبر عن
تجربة الباحث والكاتب عبد الجبار الرفاعي والتي تمتد في مجال التعليم الديني لأكثر من ٤٠ عاما تلميذا ومدرّسا،فمن خلال هذه الدراسة التي نشرتها دار تنويري رصد عبد الجبار الرفاعي أربعة مشاكل أساسية في هذا المجال وجاء بالدراسة أن التعليمُ الديني اليوم يحتل مساحة واسعة من التعليم في بلدان العالَم الإسلامي، فمثلا في مصر فقط، أظهر (أحدث إحصاء، صدر في 4 من ديسمبر 2019، عن “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء” وهو جهة رسمية، زيادة في عدد المعاهد الأزهرية “الابتدائي والإعدادي والثانوي”، إذ بلغت 65.9 ألف منشأة للعام المالي 2018 -2019، وذلك مقابل 63.9 ألف معهد خلال عام 2017 -2018، بنسبة زيادة 3.1 في المائة) وهذا يعني استيعاب هذا التعليم لأعداد غفيرة من الجيل الجديد، وتلقينهم المكرّرات التراثية، المشحونة بكلّ ما يحفل به هذا التراث من عناصر تعمل على انسداد آفاق التفكير الديني، وتعطيل عقل المسلم عن الحضور في عصره. ونوجز فيما يلي أبرز المشكلات البنيوية للتعليم الديني في الإسلام أمس واليوم:
أولا: ضمورُ الإسلام القيمي وتسيّد إسلامُ علم الكلام والفقه
ويقول الباحث عبد الجبار الرفاعي
أعني بالإسلام القيمي ما تشي به دلالات الآيات القرآنية، وشيء مما ورد في السّنة، وما تكشف عنه القراءات الإنسانية لنصوص التراث، من قيم روحية وأخلاقية وجمالية. وهذا الفهم القيمي للإسلام لا يتعارض مع الحريات والحقوق البشرية الكونية، بل يعمل على ضمان تطبيقها وترسيخها، وحمايتها من انتهاكات القراءات اللاإنسانية المغلقة للنصوص الدينية. القيم الكونية الروحية والأخلاقية والجمالية في الإسلام، لا تتعارض مع الديمقراطية والحريات والحقوق البشرية، بل تعمل على ضمان تطبيقها وترسيخها وحمايتها.
إن عدد آيات القرآن الكريم 6236 آية، وبإضافة البسملة تبلغ 6349 آية. وتبلغ آيات الأحكام نحو 200-500 آية، بمعنى أنها لا تتجاوز 7% من القرآن. وبعض مداليل هذه الآيات نسخ فعلية تطبيقها التطور الحضاري، مثل آيات الرقّ، وآيات العقوبات البدنية. وفي ضوء ذلك تكون نسبة آيات الأحكام التي مازالت مداليلها فاعلة في حياة المسلم ضئيلة جدا، مقارنة بسواها من الآيات التي تتحدّث عن: الله والتوحيد، والوحي والنبوة، والآخرة، والميتافيزيقا، والحياة الروحية، والقيم الأخلاقية والجمالية، والحق، والخير، والعدل، والكرامة، والمساواة، والسلام، والرحمة، والعفو، والقصص، والعظات والحِكم، وغيرها. ومعنى ذلك أن أغلب معاني القرآن كانت وما زالت مهجورة، على الرغم من أنها تشكّل منابع بالغة الثراء للإسلام القيمي المنسي، بعد تسيّد الفهم الكلامي والفقهي للقرآن والسّنة، وارتهان عقلُ المسلم في مدارات هذا الفهم الميكانيكي.
أغلب معاني القرآن كانت وما زالت مهجورة، على الرغم من أنها تشكّل منابع بالغة الثراء للإسلام القيمي المنسي، بعد تسيّد الفهم الكلامي والفقهي للقرآن والسّنة، وارتهان عقلُ المسلم في مدارات هذا الفهم الميكانيكي.
أما الإسلام الكلامي والفقهي فأعني به المقولات الاعتقادية المؤسسة لأئمة الفرق ومجتهديها، والقراءة الفقهية للقرآن والسّنة. لقد كانت المقولاتُ الاعتقادية والقراءةُ الفقهية مرآةً للعصور التي نشأت وتوالدت فيها، تتحدّث لغتها، وتعكس ثقافتها، وتعبّر عن مختلف ظروف وأحوال المجتمع الذي أسّست لمفاهيمه الاعتقادية، وأحكام عباداته ومعاملاته. لذلك تجد المدونة الكلامية والفقهية تصنف المواطنين في وطن واحد إلى: كافر ومسلم، وحرّ وعبد، وأنثى وذكر، وهو تصنيف لا تتساوى الحقوق والحريات لكلّ المواطنين فيه. وهذا التصنيف لحقوق البشر وحرياتهم على أساس: المعتقد، والاسترقاق، والجنس، يرسم حدوده علمُ الكلام والفقهُ.
وتكمن المفارقةُ في أن الأخلاقَ، على وفق ما يحكمُ به العقلُ العملي، والفقه لا يترادفان في التفكير الفقهي، بمعنى ألا ضرورةَ في منطق هذا التفكير لأن تتطابق الفتاوى والأحكامُ الفقهية مع أحكامِ العقل الأخلاقي والمعاييرِ القيمية الانسانية المتفق عليها بين العقلاء، مثل حقوق الإنسان بوصفه إنساناً، بل المهم في منطق التفكير الفقهي أن تكون النتائجُ الفقهية حاكيةً عن مقدّماتها من القواعدِ الأصولية والفقهية وغيرِها من الأدوات المستعملة في استنباطِ الأحكام بشكلٍ مطابق لمقدماتها، وإن كانت مفارقةً في مضمونها لأهدافِ الدين وقيمِه المعنوية ومعاييرِه الأخلاقية.
ونعني بالأخلاقِ هنا ما يحكمُ به العقلُ العملي أو العقلُ الأخلاقي، وهي الأخلاقُ بالمعنى الفلسفي، ولا نعني بها الأخلاقَ بمعنى الأحكام الخمسة على وفق التصنيف الفقهي، أو ما عرُف بالآدابِ الشرعيةِ في تراثنا، وهذه الآدابُ ضربٌ من الأحكامِ الفقهية، بعد أن صار مفهومُ الشريعةِ مطابقاً لمفهومِ الفقه. وكان مصطلحُ الشريعةِ يتسعُ لعلومِ العقيدةِ والأخلاقِ والفقهِ، لكنه أضحى مرادفاً للفقه فيما بعد. إذ اتسعَ مفهومُ الفقه ليستوعبَ كلَّ علومِ الدين، حتى اضمحلت دراسةُ علومِ الدين في الحوزاتِ والمدارسِ والجامعاتِ الدينية في عالمِ الإسلام بالتدريج، وصارَ محورُها الفقهَ وما تتطلبهُ مقدّماتُ دراستهِ وفهمهِ.
الكونيةُ هي المعيارُ الذي تتحدّد على أساسه القيمُ الأخلاقية، بمعنى أن هذه القيمَ شاملةٌ وتصلح للتعميم لكلِّ الناس، لأن الحياةَ الأخلاقية للإنسان بوصفه إنسانًا تتطلبها، بغضّ النظر عن دين الإنسان وأثنيته وثقافته وعصره، فمهما كان الإنسانُ فإنه يحتاجُ الصدقَ والأمانةَ والعدلَ والمساواةَ والحريةَ والكرامةَ. لم تعد حقوقُ الإنسان، مثل: الكرامة والحرية والمساواة، قيمًا ترتبط عضويًا بالثقافة المحلية والهوية المجتمعية، ذلك أن بعضَ الثقافاتِ المحلية والهوياتِ المجتمعية يتمايزُ فيها البشرُ وتتفاوتُ حدودُ مكانتهم وحقوقهم وحرياتهم وكراماتهم.
بنيةُ الأخلاق فقهيةٌ في التفكيرِ الفقهي، إذ يتحركُ هذا التفكيرُ المنبثقُ من رؤيةٍ كلاميةٍ في أفق مفاهيم لا تتبصّر ما هو أخلاقي لتضعه معياراً حاكماً في استنطاقِ الآيات والروايات التي يوظفها في الاستنباط، بل يحرص هذا التفكيرُ على مراعاة القوالب الراسخة لأصول الفقه والأدوات المتوارثة في عملية فهم الآيات والروايات التي يتمسك بها الفقيهُ ليحدّد في ضوئها فتوى تقرّر موقفاً حيالَ واقعة حياتية
وعن المشكلة الثانية يقول عبد الجبار الرفاعي
ثانيا: غياب علم الأديان
لبث علمُ الأديان مجهولا في التعليم الديني، وإعادة بناء هذا التعليم يفرض حضورَ علم الأديان في مراحله المتعددة. نشأ علمُ الأديان في القرن التاسع عشر، وكان لإسهامات الألماني فريدريك ماكس موللر “1832 – 1900” أثرٌ مهم في تأسيسه، عندما أصدر كتابا يحمل عنوان: “علم الأديان” سنة 1868، ومع هذا الكتاب ولد علمُ الأديان بالمعنى الذي يشير إلى: “الدراسة العلمية للأديان”، وهكذا كان لإسهامات الأنثروبولوجي الانجليزي إدوار تايلور “1832 – 1917” أثرٌ بالغ في تأسيس علم الأديان، وفي سنة 1870 أصدر الفرنسي إميل بورنوف كتابه “علم الأديان”
ويضيف الرفاعي قائلا
هناك صلةٌ عضوية بين علم التاريخ وعلم الأديان، فكلما تطور علمُ التاريخ تطور علمُ الأديان، لأن عالِم الأديان يدرس ما يدرسه المؤرخ من معطيات مادية ومعنوية، وما تعسه من معنى يحيل إلى الدين والمقدّس، سواء كانت تلك المعطيات وثائق أو أرشيفات أو كتابات ونقوش ورموز، في الأماكن المقدسة وبيوت العبادة ومطمورات المواقع الأثرية.
كما أن هناك صلةً وثيقةً بين علم الأديان ومناهج وأبحاث ونتائج الأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع والنفس، وفلسفة العلم، والألسنيات وعلوم التأويل، والأسطورة، التي اتسعت وتطورت وترسخت في القرنين التاسع عشر والعشرين، وأثرت تأثيرا كبيرا في علم الأديان، فتنوعت بسبب الافادة منها مجالاتُه، وتحددت مساراتُه، واتسعت مدياتُ البحث فيه أفقيا ورأسيا. لذلك نجد علمَ الأديان ملتقىً لعدة علوم، إنه “يقبع عند ملتقى مباحث شتى، من:تاريخ، وظواهرية، وعلم نفس، وعلم اجتماع، موظفا مناهجها، وتصنيفاتها، وأصالته النوعية أمامها… فدوره يتجاوز مختلف النظم الدينية المعروفة إلى البنى الأساسية، من: طقوس، وأساطير، وعقائد، ورموز، لبلوغ تحليل المحتويات المعاشة من طرف الإنسان المتدين”
علمُ الأديان كأيّ علم يدرسُ نشأةَ الدين وماهيتَه، ووظيفته، وأنماطَ تجلياته في حياة الفرد والجماعة، منذ بداية ظهور الإنسان على الأرض، ويرصد كيفيةَ تطور الحياة الدينية عبر التاريخ، وأثرَ الدين في الفعل البشري وأثرَ الفعل البشري في الدين، وتمثّلاتِ المقدّس، ومختلف آثاره في الحياة. يدرس علمُ الأديان الدينَ بوصفه ظاهرةً تجلت في التاريخ البشري وعبّرت عن نفسها من خلال الإنسان، فيهتم بالكشف عن الكيفيةِ التي يؤثر فيها الدين في المجتمعات البشرية، والكيفيةِ التي تؤثر فيها المجتمعات البشرية في الدين.
علمُ الأديان يتصف بكونه معرفةً تنطبق على كلّ دين في العالم، وتحاول فهمَ الأثر والتأثير المتبادَل للمعتقدات الدينية في المعارف والثقافة والآداب والفنون والاقتصاد والسياسة والأمن، وما يمكن أن يحدثه الإنسانُ في الدين، وما يمكن أن يحدثه الدينُ في حياة الإنسان، نفيا وإثباتا.
علمُ الأديان أحد علوم الإنسان والمجتمع، إنه كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وفلسفة العلم، والألسنيات وعلوم التأويل، والتاريخ، والاقتصاد، والسياسة، وغيرها من العلوم والمعارف. وهو يعتمد على توظيف كلّ مناهج ومعطيات هذه العلوم في بلوغ أهدافه.
ليست وظيفةُ علم الأديان الخوضَ في إثبات أو نفي الحقائق اللاهوتية والميتافيزيقية وعوالم الغيب والآخرة، لأن كلَّ ذلك لا يقع في حدود العلم بالمعنى المادي ولا يخضع لمنطقه واختباراته التجريبية. علمُ الأديان وظيفته تفسيرية، يهتمّ برصد الظاهرة الدينية في حياة البشر التي تقع في حدود البحث العلمي، فيصفها ويفسّرها، ويحلّل أسبابها، ويكشف عن العناصر المكوّنة لها، وما يمكن أن تنتجه هذه الظاهرة من آثار على حياة الفرد والمجتمع، من دون أن يصدر هذا العلم أحكام قيمة عليها. لذلك يفترض أن يتصف الباحثُ في هذا العلم بالموضوعية والحياد العلمي، ويخرج الباحث في علم الأديان عن وظيفته العلمية لحظة يتورط في إصدار أحكام معيارية على الدين. علمُ الأديان يدرس دلالاتِ الطقوس والشعائر والرموز والأساطير، وغيرَها من أشكال تفاعل البشري بالإلهي، والمقدس بغير المقدس، والدنيوي بالديني، وكلَّ تعبيرات الدين وآثاره في حياة الفرد والجماعة الايجابية والسلبية
إن تطبيقَ المناهج العلمية في دراسة كلّ الأديان وفرقها ومذاهبها ضرورةٌ يفرضها التعرّفُ على كيفيةِ ولادتها وصيرورتها التاريخية، والآثارِ المزمنة لها في الحياة البشرية. الأديان تولد في عصر مؤسّسيها، لكنها تظلّ تتخلّق وتنمو في صيرورة لا تتصرّم عبر الزمان والمكان، في سياقات نسيجِ المتطلبات المتنوّعة لحياة الإنسان فردًا وجماعةً، والعلاقاتِ العضوية بين مختلف السلطات وأنماط السياسة والحكم في المجتمع.
إن تطبيقَ المناهج العلمية في دراسة كلّ الأديان وفرقها ومذاهبها ضرورةٌ يفرضها التعرّفُ على كيفيةِ ولادتها وصيرورتها التاريخية، والآثارِ المزمنة لها في الحياة البشرية.
ليس هناك ديانةٌ أو نصٌّ ديني خارجَ طرائق عيش الإنسان وطبائع العمران، فالانسانُ يخضع لمشروطيات تفرض عليه نمطَ حياته، وتؤثّر في سلوكه، وهي: العقل، المشاعر، الغرائز، الجسد، اللغة، التربية، التعليم، الثقافة، الاقتصاد، السلطة، المكان، الزمان. ولا يتجسّد الدينُ في حياة الإنسان إلّا تبعًا لهذه المشروطيات، أي إن فهمَ الدين وتفسيرَ نصوصِه يتنوّع بتنوّع أنماط حياة الناس وطرائق عيشهم
ولما كان علمُ الأديان يعتمد بشكل أساسي على علم التاريخ والفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، فينبغي الاهتمام الشديد بهذه العلوم في مقررات التعليم الديني، وتدريسها في كل مراحله. إذ لا أفقَ لإعادة بناء التعليم الديني خارجَ دراسةِ الفلسفة وعلومِ الإنسان والمجتمع الحديثة. وما دام التعليمُ الديني لم يخرج من حديثِ التراث للتراث، وحديثِ الآباء للآباء، وما دامت الفلسفةُ وعلومُ الإنسان والمجتمع لم تتخذ مكانتَها المناسبةَ في الحياة الفكرية لمجتمعات عالَم الإسلام، فلن تنبعث حركةُ تحديثٍ عميقةٍ للتفكيرِ الديني في عالَمنا.
إن مدياتِ العقلِ أوسعُ من العلم، بالمعنى المتداوَل عند دارسي العلوم الطبيعية والتطبيقية، الذي يجري استعمالُه فيها بمعنى العلم بالمجال المادي. العقلُ يمكنه أن يفكر خارج عوالم المادة، ولا أعني أنه يفكّر في ما هو أوطأ من مرحلة التفكير العقلاني، بل يستطيع العقلُ تعقّلَ ما هو أعلى من المعقول المحسوس، ونعني بذلك أن العقلَ يستطيعُ تعقّلَ ما يتّصل بالحقائق اللاهوتية والميتافيزيقية، والدينِ ومدياتِه وخبراتِه الروحية العميقة
ويعود الفضل للشيخ أمين الخولي في تدشين تدريس علم الأديان في الأزهر، ففي سنة 1935 بدأ الخولي بتدريس “تاريخ الملل والنحل” في كلية أصول الدين في الأزهر، وتركز بحثُه على تعليم تلامذته كيفيةَ دراسة الأديان وتاريخها على وفق مناهج البحث العلمي الحديث، وعدمَ التوقف عند الأخبار والمرويات القديمة الواردة في دراستها، لأن الآفاق الجديدة للبحث العلمي تسعى لاكتشاف تاريخ للدين خارج المسار الذي ترويه مؤلفاتُ الملل والنحل المعروفة في التراث. لذلك نبّه أمين الخولي تلامذته إلى ضرورةِ توظيف المعطيات العلمية الحديثة في دراسة نشأة الدين، وبيان ماهيته، واكتشافِ التناغم بين الدين ونمط عيش وظروف وثقافة المجتمع الذي ظهر فيه، وكيف يتحقق الدين في حياة الفرد والمجتمع، عبر التفاعل والتأثير المتبادَل بينه ومختلف المعطيات المادية والمعنوية في بيئة نشأته، وكيف يؤثر الدين في المجتمعات وتؤثر هي فيه، وكيف ترسم أنماطُ عيش وظروف وثقافات المجتمعات التي تعتنقه مآلاتِه. وفي بيانه لمنهجه هذا يكتب أمين الخولي: “إن دراسة تاريخ الأديان تحتاج إلى مصادر أوسع وأكثر من الرواية المنقولة والخبر المسرود، وتعتمد على تلك المصادر المادية والمعنوية اعتماد غيرها من فروع التاريخ. بل قد ينفسح لها المجال في بعض المصادر بأبعد وأوسع مما ينفسح لغيرها، لاتصال الشعور الديني بالحياة البشرية في مختلف أدوارها، وتأثيره على صورها المختلفة، من: فنية، وعلمية، وعملية، فلابد من الرجوع إلى ما يمكن أن يوجد من تلك المصادر الصامتة، وكشفها الأكثر صدقا، ولابد من الحرص على تتبعها حيث كانت، واستخراجها تحقيقا للدرس الصحيح”
لم يتردد الشيخ أمين الخولي عن إعلان منهجه الذي ينسج على منوال المنهج العلمي الجديد في دراسة الدين، واكتشاف نشأته ومسيرته عبر التاريخ في ضوء ما يسميه: “الطريقة التجريبية في درس التاريخ”، لأنه: “في العصور الحديثة تغير ذلك الاتجاهُ كلَّ التغير، وصارت الرواية آخر ما يلجأ إليه، وأصعب ما يعتمد عليه، لاتهامها واعتوار الضعف نواحيها، وبذلت جهود جديرة بالإكبار في استجواب الآثار، واستفسار الأنقاض والأحجار، فحُلَّتْ طلاسم اللغات القديمة التي ظلت في نظر القدماء رقىً وتعاويذ… فكان للدراسة التاريخية على تعدد مناحيها مصادرُ تجريبية، أو تكاد تحدث عن واقع محسوس لا يعصم عن الخطأ، لكنه يسلم من تلاعب الأهواء وتصرف الألسنة وتدليس الذمم”
لكن محاولة أمين الخولي الرائدة في توطين علم الأديان في الأزهر لم تترسخ ولم تأخذ نصابها الذي تستحقه في إعادة بناء التعليم الديني، لأن مثل هذه المحاولات كانت ومازالت فردية، وظلت حتى اليوم تعبّر عن موقف يعرف جيدا لغةَ العصر ومناهجَه العلمية، إلا أنه غريب على مضمون المقررات التراثية القديمة، ويعجز عن اختراق آفاقها المغلقة. وجاء تمددُ التيار السلفي واكتساحُه لمؤسسات التعليم الديني ليقضي على كل المحاولات الجادة لإعادة بناء هذا التعليم في عالَم الإسلام ويجهضها في مهدها. ومازال الأزهر وغيره من مدارس العلم التقليدية في عالَم الإسلام تتردد فيها من حين لآخر دعواتٌ لتجديد النظام التعليمي، غير أن مقرراتها التعليمية مازالت تدور في حلقة مفرغة لا تبدأ إلا حيث تنتهي ولا تنتهي إلا حيث تبدأ، وكأنها تعوّض إخفاقَها العملي بالكلام، وهو كلام يلحّ على تجديد مقررات التعليم الديني، يقوله السياسيون ويكتبه وعّاظُهم باستمرار، ولم يهتم السياسيون بذلك إلا بعد أن أضحت السلفيةُ تهدد وجودهم. إلا أن هذه الدعوات لم تنتج إلا محاولات شكلية ترقيعية، تمكث عند السطح، وتفشل في التواغل داخل البنية العميقة للتعليم الديني كي تعيد تشكيلها. وتعود أسباب فشل هذه الدعوات إلى أنها لم تدرك بعدُ أن كل عملية إعادة بناء جادة تتطلب وعيا بالعصر واستيعابا لمنطق علومه وإتقانا للغة معارفه، وقدرة على توظيفها في دراسة الدين وقراءة نصوصه في ضوء احتياجات عقل وروح وقلب المسلم اليوم، والإفادة منها في غربلة التراث ونخل ركامه الواسع وتفكيك مكوناته وتمحيصها.
وعن المشكلة الثالثة يقول عبد الجبار الرفاعي
ثالثا: ضعف الاهتمام بمقارنة الأديان
إن دراسةَ الأديان ومقارنتَها هي المعيارُ الحقيقي لاختبار وفاءِ الأديان بوعودها، ومصداقيةِ ادعاءات أتباعها. ولا يتحقّق ذلك إلّا بالعودة إلى نصوصِها المقدّسة، ومدوناتِها الخاصة الشارحة لهذه النصوص، والتعرّفِ على أنماطِ حضورها في حياة الأفراد والمجتمعات التي تعتنقها، ومدى تأثيرِها الإيجابي في تنمية الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، والتفتيشِ عن أثرها السلبي، وفضحِ ما تعمل على إخفائه أو تتعمّد حذفَه من تراثها وتاريخها الخاص. فدراسةُ الأديان الابراهيمية لا تصحّ إلّا بالعودة إلى نصوصِها المقدّسة، وكيفيةِ تأثيرها العملي في حياة الفرد والمجتمع الذي يعتنقها، وكيفياتِ حضورها في التاريخ البشري، وما تركته من آثار متنوعة في تقدم وتخلف المجتمعات، وفي عمليات البناء والهدم.
ولا يصح اعتماد المنهج الكلامي الدفاعي في مقارنة الأديان، لأنه يفرض على الدارس أن يتحدّث لغةَ المتكلّمين، ويحاكي استدلالاتِهم ومحاججاتِهم، التي تشدد على إبطالِ دعوى الخصم، والتنقّيب في نصوصِ الديانات عن المنحولِ والمحرَّفِ واللامعقولِ، ولا يهتم المتكلم بجوهرِ الأديان المشترَك، ورسالتِها الروحية والأخلاقة. ولا ينشد اكتشافَ الشفرة المشتركة التي يتكلّمُ فيها الإيمانُ في الأديان، حتى وإن كانت معتقداتُها ينفي بعضُها البعضَ الآخر.
ما لم يتسع حقلُ دراسةِ الأديان ومقارنتِها لدى الباحثين في الدراسات الدينية، لا يمكن تصويبُ سوء الفهم والأحكام السلبية المسبقة، وحذفُ الكثير من الأخطاء المتراكمة في فهم أتباع ديانةٍ لمقولات ومعتقدات أتباع ديانةٍ أخرى، إذ تتوالد من سوءِ الفهم والأحكامِ السلبية المسبقة دائمًا أحكامٌ إقصائية حيالَ الآخَر المختلف. الموقف الأخلاقي يفرض على الباحث أن يفضح منابع الكراهية والتعصب والتمييز بين البشر في تراثه، مثلما يفضحه في تراث غيره، ويعترف بأخطاء وخطايا تاريخه مثلما يفضح أخطاء وخطايا تاريخ غيره.
تؤهل دراسةُ الأديان ومقارنتُها الدارسَ لغربلةِ فهمه للدين وتمحيصِ تفسيراته لنصوصه المقدّسة، واكتشافِ الروافدِ العميقة المغذّية لمنابع المعنى فيه، والقيمِ الأخلاقية الكونية التي تسقي شبكاتِ مقولاته ومفاهيمه المركزية.
تتكفّل دراسةُ الأديان ومقارنتُها ببيان مكانةِ كلّ دين، والأثرِ والتأثيرِ المتبادَلين بينه وبين الأديان الأخرى المنتميةِ للجغرافيا الروحية والأخلاقية ذاتها، واكتشافِ ديناميكية حضوره في حياة الشعوب المنتمية إليه. كما تُسهم دراسةُ الأديان ومقارنتُها في تحقيق العيش المشترَك، لأنها تؤسّس لقبول المختلِف عقائديًا وثقافيًا، وترسي بيئةً ملائمةً لتكريس الحقِّ في الاختلاف، واحترامِ من لا تشبه معتقداتُه معتقداتِنا وثقافتُه ثقافتَنا.
كذلك تعمل دراسةُ الأديان ومقارنتُها على الحدّ كثيرًا من حالات الكراهية والتعصّب والتحجّر التي تصيب الذين ينغلقون على تراث المذهب الذي ينتمون إليه في ديانتهم، ولا يقبلون إلّا فهمًا واحدًا لذلك التراث. كما يمكننا من خلال مقارنة كلِّ دين بالأديان الأخرى أن نتعرّف على ذلك الدين من جديد. وبذلك يصحّ أن نقول: “من يعرف دينًا واحدًا لا يعرف أيّ دين”
تعمل دراسةُ الأديان ومقارنتُها على الحدّ كثيرًا من حالات الكراهية والتعصّب والتحجّر التي تصيب الذين ينغلقون على تراث المذهب الذي ينتمون إليه في ديانتهم، ولا يقبلون إلّا فهمًا واحدًا لذلك التراث.
وتختم الدراسة بالمشكلة الرابعة وهي
رابعا: ندرة الحسّ التاريخي في دراسة النصوص المقدّسة
الرؤيةُ اللاتاريخيةُ للدين تنتج الخلط بين الثابت والمتغير، والنسبي والمطلق، والمحلّي والعالمي، والظرفي والأبدي. القرآن الكريم يتضمن ما هو ثابت ومتغير، ومحلّي وكوني، وظرفي وأبدي. وهكذا التراث الذي نشأ وتمحور حول القرآن والسّنة. الدينُ كائنٌ حي، ينمو ويتطوّر ويمرض، وقد يصاب بداءٍ مزمن. فربّ ديانة منفتحة انغلقت، وربّ ديانة مغلقة انفتحت. من هنا تأتي الحاجةُ لتتابعِ النبوات، وظهورِ المصلحين والمجدّدين، والضروراتُ الأبدية لإصلاحِ الأديان وتجديدِها.
الرؤيةُ اللاتاريخيةُ للدين ترى الأديانَ قارّةً ساكنة، بمعنى أن هذه الرؤية تحسب الأديانَ تؤثّر في المجتمعات وتعمل على تغييرها، من دون أن تتغيّر الأديانُ أو تتأثر بأي شيء. لكن الرؤيةَ التاريخيةَ العلمية تذهب إلى أن الأديانَ فاعلة ومنفعلة، بمعنى أنها تتأثر بطبيعة المجتمعات البشرية المتنوّعة، تبعًا لتنوّع هذه المجتمعات واختلافها، وتشرح كيف أن هناك تأثيرًا وتأثرًا متبادَلًا بين الدين والمجتمع، فمثلما يؤثّر الدينُ في المجتمع، ويسهم في إنتاجِ رؤيتِه للعالم، ويعمل على صوغ نمطِ حياته، يعمل المجتمعُ أيضًا على إنتاجِ صورتِه الخاصة للدين، وصياغةِ نمطِ التديّن الذي يشبهه.
الأديانَ تتأثر بطبيعة المجتمعات البشرية المتنوعة، تبعًا لتنوّع الزمان والمحيط والإثنية والجغرافيا والثقافة واللغة والاقتصاد والسلطة، وتشرح كيف أن هناك تأثيرًا وتأثرًا متبادَلًا بين الدين والمجتمع، فمثلما يؤثّر الدينُ في المجتمع، ويسهم في إنتاجِ رؤيتِه للعالم، ويعمل على صوغ نمطِ حياته، يعمل المجتمعُ أيضًا على إنتاجِ صورتِه الخاصة للدين، وصياغةِ نمطِ التديّن الذي يشبهه. فمثلًا لو ظهرت البوذيةُ في الجزيرة العربية لأضحت مشابهةً للمجتمع العربي، ولو ظهرت الهندوسيةُ في اليونان لأضحت مشابهةً للمجتمع اليوناني، ولو ظهرت المسيحيةُ في الصين لأضحت مشابهةً للمجتمع الصيني، وهكذا الحال في الأديان الأخرى. وكما تؤثّر المجتمعاتُ في الأديان تؤثر الأديانُ في المجتمعات، فما فعلته المسيحيةُ بروما لا يقلّ عن فعلِ روما بالمسيحية، وما فعله الإسلامُ بالأندلس لا يقلّ عن فعلِ الأندلس بالإسلام