إلى أين تتجه الأزمة المتجددة في إقليم كاراباخ هذه المرة؟
الأحد 18/أكتوبر/2020 - 04:14 ص
طباعة
حسام الحداد
تنذر بعض المؤشرات باحتمالية تفاقم الأزمة في إقليم كاراباخ نتيجة تجرّؤ موقف أذربيجان بسبب الدعم التركي الصريح؛ مما قد يؤدي إلى تغذية الصراع وتطوره. ويُعد موقف طهران الذي يدين موقف أنقرة الداعم لباكو، مؤشرا آخر على احتمالية تفاقم الأوضاع. إذ يمكن القول: إنّ طموحات إيران، ومصالحها الحيوية في المنطقة، الأمنية والاقتصادية، فضلا عن مخاوف طهران المتعلقة بإثارة مسألة العرقيات داخليا، وموقع إيران الجغرافي المتاخم لدولتي الصراع، كلها عوامل قد تدفعها إلى الانخراط بشكلٍ أو بآخر. من جهة أخرى، يمنح الموقف الروسي في الوقت الحاضر، بصيص أمل لمنع تدويل الصراع والحفاظ على الوضع الراهن، خصوصًا بعد نجاح مساعيها في عقد هدنة بين أرمينيا وأذربيجان.
تلك كانت خاتمة لدراسة مهمة للباحثة جمانة مناصرة - باحثة في العلاقات الدولية، تعمل في مركز المسبار للدراسات والبحوث، حيث تحاول في دراستها تلك الإجابة عن السؤال الأهم خصوصا بعد أن نجحت روسيا مرةً أخرى في مساعيها بإقامة هدنة؛ إذ وافقت كل من أرمينيا وأذربيجان على وقف إطلاق النار والأعمال العدائية في إقليم كاراباخ بوساطة روسية، ابتداءً من يوم السبت 10 أكتوبر 2020. ويبقى التساؤل: هل ستنجح الجهود الروسية في منع تدويل الصراع؟
وحسب الخلفية التاريخية للصراع والتي قدمتها الباحثة، تتعلق التوترات بين أرمينيا وأذربيجان بمقاطعة كاراباخ الجبلية التي يسكنها غالبية من الأرمن، ولكن يُعترف بموجب القانون الدولي بأنها تنتمي إلى أذربيجان. إذ دمج الاتحاد السوفيتي إقليم كاراباخ لأذربيجان عام 1923؛ في إطار السياسة التي مارسها آنذاك جوزيف ستالين لتفتيت الإثنيات. وعلى الرغم من الاعتراف الدولي بالإقليم بوصفه جزءًا من أذربيجان، فإنّها لم تمارس السلطة عليه فعليًا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. مع استقلال أرمينيا عنه في 1990، وتلاها استقلال أذربيجان بعد عام واحد، مما أدى –بدوره- إلى انفصال كاراباخ عن الأخيرة؛ بعد حرب دموية. ومنذ ذلك الحين، تتجدد الاشتباكات الحدودية بشكل دوري بين الدولتين. لم تعترف أرمينيا باستقلال الإقليم، لكنها تزوده بالدعم العسكري والاقتصادي. كما فشلت (مجموعة مينسك) التي أنشأتها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا OSEC، وتشترك في رئاستها فرنسا وروسيا والولايات المتحدة، لإيجاد تسوية للقضية العالقة.
وعلى الرغم من أنّ مقاطعة ناغورني كاراباخ لا تحظى باهتمام غربي كبير، فإنّ بعض المراقبين يرونها بمثابة أخطر نقطة في منطقة أوراسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي.
تتعرض كل من باكو ويريفان لضغوطٍ متنامية لممارسة إجراءات قاسية في إقليم كاراباخ. في أذربيجان، وخلال اشتباكات يوليو اقتحم محتجون مبنى البرلمان في باكو مطالبين بالحرب مع يريفان. يشار إلى أنّ الانكماش الاقتصادي ومشاعر الاستياء العام في باكو قد غذت هذه المطالب. وفي يريفان، تشعر الحكومة بالقلق بشأن ما تراه دعما روسيا متناقصا بشكل كبير؛ نظرًا لما ينظر إليه بوصفه سعياً روسياً للحفاظ على الوضع القائم. وعلى الرغم من بعض المؤشرات الأولية التي تدل على أنّه سيكون أكثر انفتاحًا على حل تفاوضي، فقد اتخذ رئيس الوزراء نيكول باشينيان أخيرًا موقفًا أكثر تشددًا، بما في ذلك الدعوة إلى دمج ناغورنو كاراباخ رسميًا في أرمينيا.
أما عن مواقف الأطراف الخارجية تقول الباحثة: تتجه الأنظار إلى موسكو بوصفها إحدى الأطراف الخارجية في الصراع. تحتفظ بما يقدر بآلاف الجنود في أرمينيا، من جهة أخرى، أقامت علاقات مع أذربيجان وهي المورّد الرئيس للأسلحة لكلا الجانبين. وانطلاقًا من هذه الرؤية، يبدو أنّها لا ترغب بصراع أوسع، قد يجبرها على اتخاذ قرارات صعبة حول مدى التزامها بالوقوف إلى جانب أرمينيا، وتخصيص موارد إضافية لجنوب القوقاز، في وقت تنخرط فيه فعليًا بجبهات أخرى متعددة.
تميل موسكو، التي ينظر إليها تقليديًا على أنّها مؤيدة للموقف الأرميني، إلى رؤية نفسها بوصفها وسيطًا بين طرفي الصراع. في تناقضٍ صارخ مع دعم أنقرة الصاخب لباكو، رفضت موسكو الانحياز تمامًا إلى أحد الأطراف؛ وبدلا من ذلك انضمت إلى الأصوات العالمية التي تدعو إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار، وبدء الحوار.
أمّا تركيا، فتسعى بشكل متزايد إلى تشكيل نتيجة الصراع. إذ وقفت إلى جانب أذربيجان في صراعها مع أرمينيا في التسعينيات، وتستخدم في الوقت الحاضر الأممية، العابرة للدولة، بوصفها ذريعة للتدخل؛ بعد أن تخلت عن سياسة صفر مشاكل، وانخراط أردوغان بسياسات توسعية في الشرق الأوسط، وشرق المتوسط.
باعت تركيا لأذربيجان خلال عام 2019 مجموعة واسعة من الأسلحة، بما في ذلك طائرات بدون طيار وصواريخ ومعدات الحروب الإلكترونية. بمجرد بدء القتال في ناغورنو كاراباخ، قدمت تركيا أيضًا دعمًا سياسيًا قويًا لأذربيجان. أعلن أردوغان صراحةً أنّ تركيا “ستبقى إلى جانب أذربيجان” وطالب أرمينيا بإعادة “أراضيها المحتلة” على الفور. وبحسب ما ورد أرسلت تركيا أيضًا مرتزقة إلى أذربيجان، وادّعت أرمينيا أنّ طائرة تركية من طراز (F-16) أسقطت طائرة أرمينية.
يُشكّل انخراط تركيا العميق والمباشر في كاراباخ لعبة خطيرة في منطقة جنوب القوقاز، ويزيد من مخاطر التصعيد الإقليمي. كما يُشكّل أحد أبرز العوامل المتجددة في الصراع بين الدولتين. إذ يمكن للدعم التركي القوي أن يشجع باكو على اتخاذ موقف لا تهاون فيه ومقاومة الدعوات لوقف إطلاق النار الذي يحافظ على نسخة من الوضع السابق. يمكن أن يؤدي التدخل التركي أيضًا إلى تحويل الصراع إلى صراع وجودي في نظر الشعب الأرميني، خصوصًا في ضوء مذابح الأرمن التي وقعت على يد الأتراك.
ينظر للتدخل التركي في كاراباخ بمثابة التحدي الأكبر لأنقرة أمام النفوذ الروسي في فضاء الاتحاد السوفيتي السابق، ويغذي انخراطها المباشر المخاطر ليس في منطقة القوقاز فحسب؛ ولكن في جميع أنحاء المناطق التي يوجد فيها خلاف بين أنقرة وموسكو. إذ يدعم البلدان أطرافٌ متعارضة في ليبيا وسوريا، ولديهما طموحات غير متوافقة في البلقان وأوكرانيا. ومن المحتمل أن ترى أنقرة تورطها في كاراباخ جزئيًا كورقة مساومة ليس فقط في القوقاز ولكن في تنافسها الأوسع مع موسكو. ويشير تورط المرتزقة المدفوعين من أنقرة في كاراباخ، إلى أنّ هذا النزاع قد لا يظل محصورًا هذه المرة في جنوب القوقاز.
يُظهر الدور التركي الداعم بشكل علني لأذربيجان، مفارقة؛ إذ لا تزال تركيا عضوًا في الهيئة الدولية الوحيدة التي تتوسط وتسعى إلى تحقيق السلام في الصراع، ما يسمى بمجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
كان إقليم كاراباخ على حافة تجدد الصراع المحلي باستمرار؛ لكن في الماضي تعاونت روسيا وتركيا في بعض الأحيان، على تهدئة التوترات. لكن مع تنامي التنافس التركي- الروسي في ملفات عدة، أصبح كلا البلدين أكثر تدخلا في الشرق الأوسط، وترافق ذلك مع تراجع دور الولايات المتحدة؛ وهي العلامة الثانية التي تميّز الأزمة الحالية. إذ كان تقلص الدور الأمريكي بمثابة عامل عزز سياسة تركيا التدخلية في المنطقة، على الرغم من أنّ الولايات المتحدة لم تمارس أبدًا القدر نفسه من النفوذ الذي مارسته روسيا في منطقة جنوب القوقاز.
شكّلت واشنطن منذ 1997 واحدة من ثلاثة رؤساء مشاركين لجهود الوساطة في منظمة مينسك، إلى جانب كل من فرنسا وروسيا. وكان آخر جهد أمريكي للوساطة من أجل تحقيق السلام في كاراباخ قبل عامًا؛ وتحديدًا عندما دعت جانبي الصراع لإجراء محادثات في فلوريدا؛ لكن القضية خرجت من جدول الأعمال بعد ذلك تحديدًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. لكن بعد اندلاع أعمال العنف الأخيرة في نهاية سبتمبر 2020، كانت واشنطن آخر فاعل دولي يصدر بيانًا؛ وهو أمر قد يُشير إلى تراجع الاهتمام بهذه المنطقة. في إطار النظام الدولي قيد التشكل، تسعى فيه الولايات المتحدة إلى تقليل انغماسها في الشؤون الدولية والإقليمية.
وتؤكد الباحثة في استنتاجات دراستها، أنّ تجدد القتال في إقليم كاراباخ والمناطق المحيطة لم يكن أمرا مفاجئا؛ بالنظر إلى تجدد الصراع حوله بين وقت وآخر. لكن حجم الاشتباكات الجارية، والدور التركي الأكثر بروزًا، لحليفته أذربيجان المنافسة اللدودة لأرمينيا، والذي حطم التوازن الجيوسياسي السابق، بالنظر إلى غياب الدعم السابق لطرف ضد آخر؛ كلّها وقائع أدت إلى رفع المخاطر، وأسهمت في لفت الأنظار للأزمة بشكل كبير.
إنّ وصف أذربيجان عمليتها بأنّها هجوم مضاد هو أمر مشكوك فيه؛ على الرغم من ادّعاء باكو بأنّ عملياتها كانت ردًا على القصف الأرميني. فإنّ عددًا من العوامل تشير إلى أنّ أذربيجان كرست قدرا من الوقت والموارد والتخطيط والتحضير للعملية. أبرزها، إشارة عدد من التقارير إلى تدفق مقاتلين ترعاهم تركيا للإقليم.
تصاعد الأزمة حاليًا قد يؤدي إلى إحداث تغييرات كبيرة في الوضع القائم في الصراع. ينظر إلى أنّ الدور التركي، وقرب إيران، والدور المبهم لروسيا، ووجود خطوط أنابيب النفط والغاز الرئيسة في المنطقة، أدت إلى تحويل الاشتباكات الجديدة بين أرمينيا وأذربيجان إلى صراع دولي.
يشار إلى أنّ سوق النفط العالمية، وتضارب المصالح الدولية، والتنافس على المكانة، في المنطقة الحيوية، تشكل العوامل الدافعة للصراع.
أحبطت الاشتباكات المتجددة أي آمال قريبة المدى في حل الصراع، والتي بدت قريبة من التحقق في العام الماضي.