علي مبروك.. مساهمة في نزع أقنعة التقديس (2)
إسراء إرادة: الانتقائية المفاهيمية فى مشروع على مبروك
أشرف البولاقي: ما وراء تأسيس الأصول "مساهمة في نزع أقنعة التقديس
انطلق د. علي مبروك من فكرة حضور (الأصل) في الثقافة والفكر والتاريخ، باعتباره مركزًا لكل فعالية إنسانية، فهو – أي الأصل – إمّا يكون حضوره كنقطة بدء للوعي ينطلق منها العقل مستوعبًا ومتجاوزًا لها إلى ما بَعدها، وإمّا يكون واقعةً نهائية تدور حولها الفعالية الإنسانية تكرارًا وإعادةَ إنتاج وتقليدًا واتباعية .. مؤكدًا أن حضور (الأصل) كمعنى ومفهوم احتل موقع المفهوم الأكثر مركزية وتأسيسية في الثقافة العربية والإسلامية، وانشغل في كتابه بفحص كيفية حضور هذا المفهوم ونوع وطبيعة اشتغاله، خاصةً وأن علومًا كثيرة قد نشأت وتبلورت حوله – حول الأصل – كأصول الدين وأصول الفقه وهي العلوم التي لعبت دورًا بالغ الأهمية في تكوين وبناء العقل العربي الإسلامي.
ومن ثَم التفت الباحث إلى الشافعي باعتباره مؤسس علم أصول الفقه، التي ما كان له أن يبنيها أو يؤسسها إلا في حضور الأصل الأول والأعلى وهو هنا الكتاب أو النص. الأمرُ الذي يتشابه مع فكرة هيمنة وتسلط معطىً سابقٍ دائمًا في ثقافة العرب قبل وأثناء عصر الشافعي، وهو معطى الثقافة الأبوية التي لا يملك المرءُ إلا التمحورَ والدوران حولها والانصياع الكامل لسطوتها، رغم نعي القرآن نفسِه – وهو الأصل هنا – على تلك الثقافة .. الأمرُ الذي كشف به د. علي مبروك أن آلية التفكير بالأصل أو بالنص تجاوزت فكرة التفكير بالأصل أو بالنص من حيث هو قرآن فقط أو سُنة إلى كل تفكير بالأصل على الإطلاق.
ومن هنا كان الشافعي مضطرًا وهو يؤسس لعمله الضخم إلى التعالي عن الشروط الإنسانية الموضوعية – ما دام التأسيس يدور بآلية التفكير بالنص الذي هو الأصل – ليمنح عملَه القداسة ليس فقط في مادة العمل ومتنِه ولكن أيضًا في القواعد والآليات المعرفية وطرائق التفكير التي اكتست هي الأخرى بقداسة أخرى ...فجاء كتابه – كتاب د. مبروك - سعيًا منه في محاولة مخلصة لدفع العقل العربي والإسلامي للارتداد من المقدس المتعالي إلى الإنساني الموضوعي.
وكان تأسيس القداسة وتشابكات الدين والقبيلة محورا للفصل الأول من كتابه متتبِعًا تجلياتِها في الديني والقَبَلي والسياسي، وممارسات الصحابة .. فضلا عن حديث النقل والعقل والعلاقات التي رسخت للقداسة الدينية والسياسية والقَبَلية.
ويجيء الفصل الثاني (الشافعي وتأسيس الأصول من تقديس الأب إلى تقديس الأصل) مبتدِئًا بالإشارة إلى اقتراب الفقيه من السلطة – الشافعي ورغبته في إقصاء الخلاف والرأي ووضع كتاب يجمع عليه الناس - في خطوة أولى للتضييق على العقل والرأي، وهو ما يفسِّر إدراجَ الشافعي الاختلافَ والرأي ضمن دائرة الاستحسان، بل يؤلف كتابًا كاملا في " إبطال الاستحسان " .. وإذا كان الكتاب القرآن هو الأصل الذي يرجع إليه، فإن آلية التفكير بالأصل تفرض على الشافعي أن يضع كتابًا يكون أصلا وأصولا لكل ما يأتي بعده في مجال الفقه.
ويلتقط د. علي مبروك ولَع العرب بعلم الأنساب رغم محاولات البعض تهميشه، إلا أن الشافعي التقطه ليكرسّه باعتباره سلطةً أصلية، خاصةً وأن النسب في حالته هو متصل بأرومة النبي، الأمرُ الذي سيترتب عليه تثبيت مركزية القبيلة المنتمي إليها النبي والشافعي معًا، ومن ثم تثبيت منهج وفقه الشافعي بسبب نسبِه الطاهر الشريف .. فضلا عن جعله القبيلة والعشيرة مناطًا لخطاب إلهي واضحٍ ومحدد .. أيكون هو جديرًا بهذا أم يكون الآخر الفارسي أبا حنيفة؟ ... ليتسرب اعتزاز الشافعي وفخره بنسبِه إلى أنساقه الفقهية، وليَدخل الشافعي نفسُه بنسبِه هذا إلى فضاء القداسة، قال أحدهم ليلة مات الشافعي " الليلة مات النبي صلى الله عليه وسلم" وقال الرازي " من تعرض لمنازعته – يعني الشافعي – فقد جعل نفسه هدفًا لعذاب الله تعالى" .
ولعل تلك القداسة نفسَها وتثبيت سلطة الأصل نصًا ونسبًا هما ما وجّهَا عملية تأسيس الشافعي للأصول وترتيبه لها على نحو جعله يتعالى بسنّة النبي إلى مقام النص.
ومركزية السنّة هنا هي إعادة إنتاج واضحة لمركزية القبيلة ومركزية الشافعي نفسِه، الأمرُ نفسه جرى عند الشافعي مع اللغة باعتبار اللسان القرشي أفضل الألسنة.
عند علي مبروك بنى الشافعي الاجتهاد مقابل النص، حيث اعتمد في مفهومه للنص على آليتَي التوسع والإلحاق، بينما اعتمد في الاجتهاد على آليتَي التضييق والإهدار مع إقصاء الرأي والاستحسان بعيدًا ... خاصةً وأن الاجتهاد يُحدِثه المرء مِن نفسه، بينما أُمِر الإنسانُ باتباع غيره والغير هنا هُمَا الكتاب والسنة. بينما راح في القياس والاجتهاد قبلَه يلحقهما بالنص، والقياس إمّا كنص أو مجرد هامش تافه وضئيل على نص بالغ الاتساع والإحاطة.