مجلة " الكلمة " تناقش اشكالية المسلمون في دولة القانون العلمانية
الثلاثاء 01/يونيو/2021 - 01:33 م
طباعة
روبير الفارس
نشر العدد الجديد من مجلة الكلمة التى تصدر بلندن ترجمة لدراسة تحت عنوان "إشكالية العَلماَنية فرص الاندماج من خلال الحرية الدينية" والتى كتبها البروفيسور الالماني هاينر بيلفلد رئيس قسم حقوق الاِنسان وسياسة حقوق الاِنسان في جامعة إرلانجن ــ نورنبرج من تقديم وترجمة حامد فضل الله
الذى كتب في مقدمة الدراسة يقول يدور في (السودان) الآن نقاش محموم حول مفهوم العلمانية، والبلاد مقبلة على وضع دستور دائم أثناء الفترة الأنتقالية. يتصف النقاش بكثير من الحدة، بعيدا عن النقاش الهاديء الموضوعي، وخاصة عندما يتم ربط العلمانية بالإلحاد، وهذا نقاش لم يحسم حتى الآن في البلدان ذات الاغلبية الاِسلامية، ومنها العربية أيضاً. أقدم الآن ترجمة دراسة حول هذا الموضوع الهام للبروفيسور هاينر بيلفلد ، الذي صدرت له العديد من الكتب والدراسات في مواضيع حقوق الانسان، فلسفة التشريع، علم الاخلاق السياسي وفلسفة الدين، لعله يساعد في بلورة وتهدئة النقاش الاِنفعالي، الذي يدور الآن.
بداية: مصطلح العلمانية، ليس معلوماً على وجه الدقة كيف دخلت عبارة العلمانية على اللغة العربية، وكيف انتشرت في الآداب السياسية والاجتماعية والتاريخية العربية المعاصرة. فمن غير الواضح أيضاً، كيف تم اشتقاقها، هل من العِلم ـــ عِلمانية، بكسر العين (عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف). أم من العالم ـــ العَلمانية بفتح العين (الشيخ عبد الله العلايلي)، يشاطره في ذلك (عادل ضاهر ـــ الأسس الفلسفية للعلمانية)، مشيرا بأن لفظة "علمانية" مشتقة من "عالم" وليس من"علم". لا نخوض هنا في هذا المصطلح الخلافي، وانما نشير باستخدام المصطلح، بفتح العين وفتح اللام الثانية ــ العَلماَنية.
وجاء في نص الدراسة
I. العلمانية ـ مفهوم عسير
تشكل دولة القانون العَلماَنية في المانيا، ودول أوروبا الغربية الأخرى الهيكل السياسي المؤطر لحياة المسلمين الذين يعيشون بها ويمارسون معتقداتهم فيها. وبالتالي يطرح هذا الوضع أسئلة كالآتية:
ما هو موقف المسلمين من دولة القانون العلمانية؟ هل تمثل هذه الدولة "شرا"، لا بد من قبوله بحكم تفوق الأغلبية العددية لغير المسلمين؟ أم ستقدم علمنة (دنيوية) النظام السياسي القانوني فرصة لتجربة أشكال جديدة لنظام إسلامي بذاته، مع احتمال التأثير ليس في منطقة الشتات (Diaspora) فحسب، بل حتى في البلدان الإسلامية أصلاً؟
كذلك توجد أسئلة في الاتجاه المعاكس:-
هل هناك، في الأساس، حق مُسلَّم به يلزم المسلمين على قبول علمانية دولة القانون؟ أليس من واجب التسامح للديانات المتداخلة والثقافات المتعددة أن يترك الخيار مفتوحاً للمسلمين لكي ينظموا شؤونهم المشتركة حسب القانون (الشرع) الإسلامي بدلاً عن القانون العلماني؟ ألا تمثل العلمانية من جانبها نوعاً من العقيدة الدينية أو (ما بعد الدينية) (بالألمانية Postrelegioes) والتي تعتبر إلزاماً فحسب، للذين يؤمنون بها بمحض إرادتهم؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة أو ما يشابهها يدور بالضرورة حول المفهوم الشخصي للعلمانية. يؤدي مفهوم العلمانية بالمقارنة إلى مفاهيم أخرى سياسية قانونية دالة – إلي كثير من الاختلاف بل إلى تداعى أفكار متنافرة. العلمانية تُفهم علي أنها أيديولوجية ضد الدين أو ما بعد الدين كنوع من التنظيم الغربي المسيحي الخاص بالعلاقة بين الدولة والدين، أو محاولة سيطرة الدولة علي التجمعات الدينية، أو كتعبير لاحترام الحرية الدينية للبشر. يضاف إلي ذلك ما انبثق من داخل دول القانون الغربية الأوربية الأخرى: فرنسا، إنجلترا، هولندا، ألمانيا، وإيطاليا من تقاليد متباينة جداً ذات نبرات أخرى للتعامل السياسي القانوني للدين، في سياق العلمانية. يصير النقاش مهدداً بالغموض الكامل عندما تتقابل تفسيرات الفروع العلمية المختلفة، القانون (الحقوق)، الاجتماع، اللاهوت أو الفلسفة.
إن الهدف من هذا البحث ليس فقط التوضيح النظري لمفهوم العلمانية الذي يحيط به عدد كبير من التأويلات المحيرة، وإنما متابعة بل وترجيح هدف عملي – سياسي في الوقت عينه. يهمني الدفاع عن دولة القانون العلمانية كافتراض ضروري للتكوين السياسي المدافع عن التعددية الدينية والدنيوية الموجه لحقوق الإنسان. مثل هذا الدفاع يمكن أن يكون مقنعاً حقا، عندما تؤخذ التوضيحات النقدية لمشروع العلمانية بجدية. كما أن اهتمامي الخاص قائم علي إمكانية احترام وتقدير دولة القانون العلمانية من الجانب الإسلامي. ولتجنب إمكانية سوء الفهم، لا بد من التوضيح بأنني نفسي لست مسلماً، ولكنني ومنذ سنوات عديدة أخوض، مطمئناً، حواراً منتظماً مع المسلمين - حيث اشعر بارتباط سياسي مع كثير منهم وأحياناً شخصي، فيما يمثل بعضهم خصم سياسي إلى حد ما. يحتوي البحث المعروض (أدناه) علي التقييم والإدراك اللذين اكتسبتهما من محادثاتي مع المسلمين. لقد صارت المحادثات لي دافعاً إلي إعادة تفكير مبدئي حول معني دولة القانون العلمانية.
.ll حول تحديد علمانية دولة القانون:
1- علمانية دولة القانون كنتيجة لحرية العقيدة:
إن علمانية دولة القانون – حسب وجهة نظري الجوهرية – هي نتاج حرية العقيدة: أنها تعني تركيب مبدئي ضروري لنظام حقوقي، يقوم على مبدأ حرية العقيدة كحق من "حقوق الإنسان" يُحقق بطريقة منتظمة، وإذا أردنا التطرف في القول: لا يوجد تحقيق كامل لحرية العقيدة الدينية خارج نظام دولة القانون العلمانية – هذه النظرية قد لا تقنع لأول وهلة. ألا يمكن أيضاً تحقيق حرية العقيدة في إطار نظام حقوقي مؤسس دينياً؟ هل تستطيع دولة مسيحية أو إسلامية أن تحترم حرية العقيدة؟ ألا توجد أمثلة تاريخية للتعايش السلمي بين مجموعات دينية مختلفة مثلاً تحت سيادة السلطنات الإسلامية؟
حسناً - فلنقر بإمكانية التسامح الديني الحاضر في سياق التقاليد الإسلامية، غير أن حرية العقيدة كحق من حقوق الإنسان، لا تعني التسامح، وإنما تعني شئ آخر! ويجب ألا توضع في مرتبة واحدة مع التسامح أو يخلط به.
وككل حقوق الإنسان تتطلب حرية العقيدة الدينية المساواة، بيد أن التسامح قد يعني عدم المساواة.
إن مطلب حق الإنسان في حرية العقيدة، لا يمكن أن يحُل بسياسة تسامح الدولة مع الأقليات الدينية. يضاف إلي ذلك أن حق المساواة كحق ملازم لحقوق الإنسان يجب، أن يتجلى كنظام سياسي قانوني يؤثر في المستويات كافة. إن حقوق الإنسان لا تمثل حاجزاً لسلطة الدولة ولا تمثل عدم تخطي الحدود لسلطتها الشرعية فحسب، بل هي في الوقت عينه الأساس الذي تقوم عليه شرعية النظام القانوني للدولة عموماً. من الممكن أن تصبح حرية المساواة كمبدأ من مبادئ حقوق الإنسان أساساً لقانون الدولة، عندما يكون الوضع السياسي للأشخاص مستقلاً عن تبعيتهم الدينية. يجب ألا يسمح بتفضيل أو ظلم أي شخص بسبب عقيدته الدينية أو الدنيوية. وكذلك يجب أن يكون إشراك الأشخاص الذين لهم توجهات دينية أو دنيوية مختلفة في النظام السياسي ممكناً وقائماً علي قدم المساواة.
إن هذا على كل حال مطلب من مطالب حقوق الإنسان في حرية العقيدة (مطلب، لم يحل إطلاقاً في ألمانيا كنتيجة سارية المفعول)، لضمان تساوي جميع رغبات الناس ومن اجل احترام مذاهبهم المختلفة، يحُرم على دولة القانون ألا تتطابق مع دين أو نظرية دنيوية محددة أو حتى أن تتخذ من ذلك أساس معياري لنظامها الخاص. يتوجب إذاً على دولة القانون الملتزمة بحقوق الإنسان وحرية العقيدة أن تظل محايدة دينياً ودنيوياً.
هذا الحياد الديني الدنيوي لا يعني تقييم حيادي عام، كما انه ليس له علاقة أبداً بتدهور المبادئ الأخلاقية أو ارتياب معياري شامل. إن الحياد الديني الدنيوي للدولة متعلق بواجب الحياد القانوني الأخلاقي. من أجل احترام حرية العقيدة الدينية والدنيوية يجب أن تٌقتصر الدولة كسلطة دنيوية على تنظيم الشروط اللازمة لاحترام الأفراد بعضهم البعض. إعتماداً على هذا المعنى تكون الدولة دينياً ودنيوياً محايدة وبالتالي فهي علمانية.
كمثال: القانون يقر بأن لا تمس كرامة أي فرد وكل سلطات الدولة ملزمة باحترامها وحمايتها (المادة الأولى- الفقرة الأولى من الدستور)، مهما كانت فكرة كرامة الإنسان كباعث إنجيلي تفسر بأن الإنسان صورة من الإله، أو تفهم استناداً إلى وجهة نظر القرآن بأنه خليفة الله في الأرض، أو تفسر من التقاليد الإنسية (هيومانيزم)، إلا أن ذلك يبقي مفتوحاً نسبياً. كذلك لا يمكن ولا يحق للدولة أن تقرر ذلك بصورة استبدادية. لا يعني عدم تفسير الدولة مثل هذه الأسئلة الدينية أو الدنيوية، عدم المبالاة أو الارتياب أو الاستهانة، وإنما ذلك بدافع احترام حرية البشر الذين بمقدورهم فهم الدولة كرابطة سياسية لا تضير معتقداتهم المختلفة. إن النظرة الدنيوية المحايدة لدولة القانون العلمانية تجد أساسها في حرية الإنسان، كحرية العقيدة الدينية، والتي تتضح على النقيض من القيمة الارتيابية المحايدة. فهي ذات معني وتستحق الدفاع عنها – نعم فبمقدور الفرد اعتناقها سياسياً، لان دولة القانون العلمانية لا يسمح لها ان تطالب مواطنيها ومواطناتها بعقيدة دنيوية شاملة.
2 - العلمانية لا تمثل ايديولوجية «ما بعد دينية» لائكية الدولة:
طالما تنحو دولة القانون العلمانية الى "الحياد دنيوياً" إذ يتوجب على العلمانية عدم تشكيل أيديولوجية شبه دينية، أو ما بعد دينية للدولة، إن التأكيد السياسي الذي تطلبه الدولة من مواطنيها ومواطناتها لا يهدف إلى الإخلاص الشامل، ولا إلى الاعتراف بالعلمانية الذي تنشده الدولة (حيث لا يمكن قسره في النهاية)، فيظل كاعتراف سياسي، بعيداً عن أي اعتراف ديني أو دنيوي. بلا ريب: يمكن ان يُخلقُ من العلمانية نظرية أيديولوجية دنيوية. كمثال كلاسيكى لذلك ما يقدمه أوجست كونت (Comte Augusta) معتنق الفلسفة الوضعية.
على أساس العلم الحديث يتوجب على علماء الاجتماع، على حسب كونت، أي تكوين إكليروس علماني كحق شمولي على المستوي العالمي يقوم واجبهم (ككهنة محدثين للبشرية) على تشكيل المجتمع ايديولوجيا. أي تشكيل ثيوقراطية اجتماعية جديدة، لا تقل انغلاقا عن الثيوقراطية القديمة لاتحاد الدولة والدين. إن مثل هذه الأيديولوجية العلمانية الحديثة ليس لها أي علاقة إطلاقاً بدولة القانون العلمانية، إذ أن ارتباطها مع سلطة الدولة ينجم في المحصلة عن خراب دولة القانون العلمانية المؤسسة مسبقاً على حرية العقيدة. في ظل حق حرية الأديان يتوجب على دولة القانون العلمانية الانتباه الي عدم تسخير أهداف علمانية أو لائكية. هذا الخطر لا يزال حاضراً رغم أزمة الأيديولوجيات التقدمية الحديثة.
هنا نستحضر بعض الأمثلة التالية:-
إن سياسي النظام الدولاتي (من دولة)، (بالالمانية Etatismus)، الذين لا يريدون الخوض – من حيث المستوي في تركيبة مجتمع الديانات المتعددة – يسخرون من المطالب المختلفة للجماعات الدينية كتدريس الدين في المدارس – بناء المساجد – الاحتفال بعيد الأضحى ويعتبرونها – بمفاهيم حداثوية – عودة إلى عهود الظلام. إن المتحجبات من النساء والشابات المسلمات اللائي يرين انهن ليس في فرنسا العلمانية فحسب، بل في ألمانيا أيضاً، معرضين للعتاب ويوصفون بالتخلف وعدم مواكبة الحداثة. كذلك يمكن أن يكون "مشروع الحداثة" إذا اعتبر نموذجاً مجسماً للتقدم الحضاري والأيديولوجي مقابلاً لثقافات "ما قبل الحداثة" (والمقصود هنا غالباً الإسلام) - بمثابة شِقين (dichotomisch) متضادين، فيصبح ذلك جزءاً من تصعيد الخطاب السياسي لعزل الآخر. لتفادي اللبس والتداخل مع أيديولوجية التقدم العلمانية أو الائكية يستوجب تقديم توضيح نقدي لمعنى كلمة دولة القانون العلمانية.
المشاركة في النطاق العام: إن علمانية دولة القانون لا تهدف إلى إبعاد الجماعات الدينية إلى حافة المجتمع، بل تضمن لها كل الإمكانيات للانطلاق بحرية، ومن اجل تكوين تعددية القناعات الدينية والدنيوية في المجتمع الحديث، وتمكين ممارسة الحرية والمساواة للجميع. إن العلمانية المؤسسة على حرية الإنسان في حرية العقيدة، هي عينها المضادة لوصاية الدولة الايديولوجية وكذلك الضد للأيديولوجية اللائكية.
3 - لا فصل بين الدين والسياسة:
إن وجوب فصل الدين عن السياسة نادراً ما يُطرح في مجال القانون السياسي العام، كما أن صيغة فصل الدين عن السياسة تظل غير دقيقة ومضللة. وعليه إذا أخذت حرفياً سينتفي الإدراك الحر لحرية العقيدة والبناء المعياري لدولة القانون العلمانية. إن حرية العقيدة لا تُختصر في ضمان حرية العقيدة أو المذهب الفردي وإنما تحوي ما هو ابعد من المكون الفردي القانوني غير المتنازل عنه، وكذلك من حق الجماعات الدينية أن تنظم نفسها بحرية دون وصاية عليها من قبل الدولة، ويفتح لها المجال أيضاً.
بإمكان الجماعات الدينية التعبير عن المسائل السياسية، علي النطاق العام، فهذا ليس مما يتفق مع دولة القانون العلمانية فحسب، بل أن هذا بمثابة نتيجة منطقية لفهم مؤكد لحرية العقيدة الدينية، والتي تمثل البناء الذي تعتمد عليه دولة القانون العلمانية نفسها. إن الدين ليس مسألة شخصية وإنما له مكانته في الحياة العامة. فالمجال العام هو المكان الذي تمارس فيه السياسة في ظل الديمقراطية، وبذلك تستطيع الجماعات الدينية أيضا أن تشارك في السياسة. هنا لا يدور الأمر حول فصل الدين عن السياسة، وإنما الفصل المؤسس بين الجماعات الدينية والدولة:- هذا التمييز مهم.
فالذي يطالب باسم العلمانية بفصل الدين عن السياسة، إنما ينادي إلى إبعاد الجماعات الدينية عن الحياة العامة، ويُفصح عن تحكم سياسي استبدادي لائكي، لا يتفق إطلاقا مع حرية العقيدة كحق من حقوق الإنسان. إن الفصل المؤسس بين الجماعات الدينية والدولة يحمي الجماعات الدينية من قبضة الدولة، والتدخل في شؤونها الداخلية، كما يحمي أيضا الوضع الحقوقي للمواطنات والمواطنين في دولة القانون العلمانية، ويبعد في الوقت عينه التداخل بين العضوية الدينية والدولة، ويُكسب هذا الفصل الحرية للطرفين: للجماعات الدينية وللدولة. وبناءً على استقلال الطرفين تستطيع الجماعات الدينية والدولة بلا ريب التعاون مع بعضهم البعض، كما أن انفصالهم المؤسسي لا يعني بتر الوشائج بينهما، فعلاقات التعاون الواضحة بينهما تتفق مع حرية العقيدة دون شك. بناء على شرط متفق عليه، مثلا في عدم التمايز أو اضطهاد مجموعات دينية أخرى.
لذا يجب أن يظل مبدأ الحياد الديني الدنيوي للدولة مُحافظاً عليه. لقد تطورت علاقات التعاون بين الدولة والكنائس بألمانيا في مجالات كثيرة على النطاق العام، ابتداءً بالمساعدات المالية لدعم المستشفيات المسيحية، وتدريس اللاهوت في جامعات الدولة، والاعتراف بالكنائس قانونيا كمؤسسات عامة. لقد اثبت هذا التعاون نجاحه من وجوه عديدة. بالنظر للواقع التعددي الديني الجديد في ألمانيا، فان التضافر بين الدولة والكنيسة مع نمو المؤسسات الأخرى حريُ بمراجعة نقدية، حتى لا تظل هذه الامتيازات وكأنها امتيازات خاصة من قبل الدولة للكنائس فقط، مستثنيا من ذلك الجماعات الدينية غير المسيحية.
4- العلمانية ليست بالتحديد نموذجا للحضارة الغربية:
إن الأنظمة الدستورية العلمانية نُفذت تاريخيا في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية. من الصعوبة الخلاف حول هذه الحقيقة وعليه يطرح السؤال: كيف تأول تاريخياً؟ أتكون النتيجة هي تمثيل دولة القانون العلمانية لتراث الغرب بالتحديد. هل العلمانية هي الوجه المماثل لنتيجة عضوية لتطور خاص للثقافة الغربية، مهد لها بداية صراع القرون الوسطى بين الإمبراطورية والكنيسة الكاثوليكية، هذا إذا ما لم تكن قد وجدت جذورها من قبل في مقولة المسيح "أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله؟". إن المثل البارز لمثل هذا الاحتواء الثقافي للعلمانية هو صموئيل هنتنغتون (Samuel Huntington) الذي اشتهر بنظريته الخلافية حول صراع الحضارات. فالذي مثل هنتنغتون يصوغ الفصل المؤسس بين الدولة والجماعات الدينية كجزء من الشفرة (الكودة) الثقافية للحضارة الغربية والغرب بالتحديد، يرتكب دون شك خطأين أساسيين:
بدءاً نجده لا يراعي الصراعات التاريخية التي ظلت ضرورية في الغرب لتنفيذ دولة القانون العلمانية. فالكنيسة الكاثوليكية مثلا اعترفت رسميا، ولأول مرة، بحرية العقيدة بعد نزاع داخلي في مجمع الفاتيكان الثاني (1962 - 1965). إن مقولة المسيح "أعطِ ما لقيصر لقيصر" و التي يعتبرها ممثلو الكنيسة اليوم تقديراً لاهوتيا مثمراً لدولة القانون العلمانية، لا تُكون تقريبا "الجذر" الديني الثقافي الذي نبتت منه في الكثير أو القليل الدولة العلمانية عبر الألفي عام تقريبا. وإنما المٌكون هو النقيض في الأغلب الأعم، بالرجوع الى الماضي ووقوفاً على ارضية الحداثة اولاً، أمكن إخراج الباعث الديني والثقافي والذي سمح من خلال طيلة كل الصراعات التاريخية إلى إعادة أسس التواصل مع التقاليد المسيحية أيضاً.
إن احتواء العلمانية كتراث للغرب المسيحي فقط - يعني أيضاً وهذه هي المعضلة الثانية- أن الأفراد ذوو الأصول غير الغربية وليسوا على توجه مسيحي "خاصة المسلمين" يستنكر عليهم جذرياً إمكانية فهم وتقدير العلمانية، كذلك حتى من منظور تقاليدهم الدينية والثقافية الخاصة. إن مطالبة المسلمين بالاعتراف بدولة القانون العلمانية، يعني في الخفاء مطالبتهم على الأقل اعتناق ثقافي للغرب وقيمه المسيحية. فليس مستغرباً عندما يرفض المسلمون هذا الهوان لأنفسهم. من أجل الحرية والمساواة والرغبة في مشاركة كل الجماعات المتعددة ثقافياً ودينياً، يجب على دولة القانون أن تتخلى ولا تروج للمبادئ القانونية على نهج هنتنغتون، وكأنها تراث غربي بالتحديد. فالحقيقة التي لا خلاف حولها بأن دولة القانون العلمانية بدأ اولاً تأثيرها تاريخياً في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، لا تعني بالضرورة حصر النسق العلماني على الحضارة أو الثقافة الغربية وإلا فهي نظرة ضيقة وطامة كبري. وبالإضافة إلى ذلك يمكن إعطاء أدلة بان دولة القانون العلمانية كمبدأ قانوني حر اكتسبت أهمية أبعد "من الغرب" داخل الجماعات التعددية الدينية والثقافة الحديثة، فتصعيد الخلاف حول التراث الثقافي للعلمانية يمثل موقف سياسي غير مسئول.
lll النقد الإسلامي للعلمانية
1. العلمانية كتعبير عن الإلحاد
لقد مضت فترة طويلة، حتى تعلمت الكنائس المسيحية أن تعترف وتقدر دولة القانون العلمانية، كشرط سياسي قانوني للانطلاق الحر للمجموعات الدينية في المجتمع الحديث. كما يشير بيلفد إلى انتشار تحفظات واسعة أو رفض لمفهوم العلمانية وسط المسلمين. ويستعرض أراء إصلاحيين ليبراليين، وتيولوجيين ومنظرين قانونيين، وأسلامويين، وليبراليين يساريين، واسلاميين متنورين: مثل الاِصلاحي البارز محمد طالبي، الذى يعبر عن امتعاضه حيال التصورات القانونية العلمانية، والتي تمثل في منظوره إخفاء إشارات لتأليه الإنسان. ومثل التيولوجية الإسلامية النسوية رفعت حسن والتي تعتقد أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للأمم المتحدة لا يمكن إنقاذه إلا عن طريق إعادة صياغته في قالب وثيقة شبه دينية. كذلك نجد المنظر القانوني الليبرالي الإسلامي السوداني عبد الله النعيم، يُقيمُ دفاعه عن إصلاح القانون الإسلامي، كبديل واعي للقانون الغربي العلماني.
وكبديل اجدر لمواجهة دولة القانون العلمانية، يدعو أبو الأعلى المودودي إلى "ثيوقراطية ديموقراطية" إسلامية يستوجب تطبيقها سياسياً تعليمات الشريعة الإسلامية، من قبل جماعة المؤمنين الموسومة بوحدة خليفة الله في الأرض. فمشروع المودودي هو بديل صريح لديمقراطية الغرب العلمانية. أما سيد قطب فيرى أن كل التصورات غير الإسلامية. كذلك دولة القانون العلمانية المؤسسة علي القانون الدنيوي، وليس على القانون الإلهي هي تعبير عن الجاهلية الملحدة، والتي يستوجب على المسلمين التغلب عليها بكل قوة.
2- علمانية الدولة - هل هى حل مسيحي خصوصى؟
إن التحفظات الإسلامية على علمانية الدولة والقانون كثيراً ما تعلل بالإشارة كأنها إجابة مسيحية خاصة تتعلق بمشكلة مسيحية كذلك. فالإسلام (السني على أي حال) بعكس المسيحية لم يعرف إكليروس مؤسس. إن عملية تحرر الدولة من هيمنة تراتيبية الإكليروس والذي قاد في العصر الحديث إلى علمنة الدولة وقوانينها، لم تكن ضرورة في الإسلام. وبما أن الإسلام لا يعرف المشكلة المسيحية لهيمنة القساوسة، لا يتوجب عليه الأخذ بالحل المسيحي تجاه هذه المشكلة.
وهناك من ينطلق من الحجة القائلة بان الإسلام دين يخلو من الإكليروس، ليذهب الى أن الإسلام يعترف أساساً ومنذ البداية بعلمانية الدولة. هكذا يمكن إن يتحول الإنكار الإجمالي للعلمانية كنموذج ينفرد به الغرب المسيحي حسب زعمه، إلي اعتراف إجمالي بها، وهو اعتراف يظل سطحياً طالما لم يرتبط بحوار موضوعي حول المغزى التحرري لدولة القانون العلمانية، وطالما ظل يعمل على تقويض دعائم هذا الحوار. فمفهوم العلمانية باتجاهها النقدي إذا اختزل منذ البداية في أشكال الإكليروسية السياسية كما عرفها الغرب المسيحي فإنه يعنى إغفال التجارب الإسلامية، بما عرفته من مفهوم سلطوي للحق الإلهي، كثيراً ما كان ايضاً يستغل سياسياً.
هذا الهم يشير اليه فؤاد زكريا:- "بالتأكيد لا يوجد في الإسلام مقابل للبابوية، ولكن كانت هناك دائماً أجهزة سلطة دينية اتسعت سلطاتها أحياناً لتتفوق علي سلطة الدولة". (ملاحظة: لدى المسلمين من أتباع المذهب الشيعي الصفوي (إيران بشكل خاص) ياخذون بقاعدة المرشد الأعلى أو ولي الفقيه (أي ولي المهدي الغائب) الذي يمارس السلطتين الدينية والدنيوية في آن واحد، وفي عموم الشيعة، يأخذون بقاعدة التقليد أي الإفتاء من قبل شيوخ الدين للمسائل التي يطرحها المقلدون، ويطلبون فتاوى لهم بها.(المترجم). إن الحوار الإسلامي الداخلي حول الكبت السياسي والديني الذي ينتج عن تداخل بين سلطة الدولة والسلطة الدينية – وفقاً لزكريا – لم يُحسم إلى الآن. انه من الخطأ الوخيم ان يتجاوز المسلمون الحوار الجاد والنقد الذاتي، مشيرين باستهانة إلي عدم معرفة الإسلام السني إطلاقاً بالإكليروس.
V1. إرث علي عبد الرزاق:
إن الحوار الإسلامي الداخلي الجِدّيّ حول دولة القانون العلمانية، والذي ينبه له فؤاد زكريا ليس بشيء جديد في السياق الإسلامي. لقد نشر في عام 1925 كتابا يطالب بوضوح بعلمانية الدولة. ومن الملفت للنظر اعتماده على حجج إسلامية أصيلة. عنوان الكتاب (الإسلام واصول الحكم) لمؤلفه علي عبد الرزاق الأستاذ في ذلك الوقت بجامعة الأزهر. كان الدافع المباشر للكتاب هو إنهاء كمال اتاتورك للخلافة الإسلامية عام 1924. بالرغم من إقصاء الخليفة الأخير. إلا إن الأمر كان يتعلق بالفعل بالصراع حول السلطة، ولم يكن بأي حال من الأحوال، إصلاح ديني. رأى علي عبد الرزاق في نهاية الخلافة فرصة للإسلام، وذلك لان ادعاء الخليفة حق ممارسة وظيفة السلطة الإلهية، أو انه ظل الله في الأرض، لا تعني إلا تقديساً خرافياً، ومما يتعارض مع الوحدانية القاطعة كما يعلنها القرآن. بجانب ذلك يشير علي عبد الرزاق إلي القرآن الكريم بأنه يكاد يخلو من توجيهات مفصلة عن إدارة الدولة. إن قراءة الوحي القرآني، ككتاب قانوني أساسي لسياسات الدولة، ليس ذا جدوى فحسب، بل يتعارض مع القرآن نصاً وروحاً، ويقود إلى إنكار الاعتقاد، بأن القرآن هو خاتم الوحي.
على منوال علي عبد الرزاق ينحو اليوم من بني وطنه "مصر" كل من محمد سعيد العشماوي، نصر حامد أبو زيد، وفؤاد زكريا كل بنبرة مختلفة؛ داعياً إلى علمانية القانون والدولة، من وجهة نظر إسلامية. فالعشماوى يرفض أي تقديس لسياسة الدولة، مما يلحق أضراراً ماحقة بالسياسة والدين. وذلك لإثبات التجربة أن أي سلطة سياسية مقدسة تنتهي بحكم الفرد، كنتيجة لاكتسابها مناعة ضد التساؤلات الناقدة، وفى الوقت عينه يفسَد الدين ويصير أداء لاستراتيجيات الصراع حول السلطة والمؤامرات. إضافة إلى مثل هذه التجارب الاستغلالية يرى العشماوى تناقض السلطة الثيوقراطية مع ادعاءها للرسالة الأساسية للقرآن، والتي تمثل الوحدانية القاطعة، وتظهر في ضُوئها الثيوقراطية كصورة من الكفر، لأن ذلك تدني باسم الله إلى مستوى الصراع على السلطة بين البشر.
يشير أبو زيد في نقده للخطاب الديني السائد إلى خلطأٍ استراتيجيٍ متعمدٍ بين مستويين:- الفصل المؤسسي بين الدولة والكنيسة، أو بالأحرى المجتمعات الدينية في العلمانية الحديثة، وما يضلل به من المحافظين والإسلامويين متمثلاُ في مطابقتهم بأن ذلك يعني فصل العقيدة عن الحياة والمجتمع. بذلك تبدو العلمانية في الرأي العام المتأثر بالخطاب الديني السائد وكأنها مطابقة للإلحاد. يطرح أبو زيد مفهوماً للعلمانية ليس ضد الدين، وإنما ضد هيمنة الدين على كل المجالات، والمقصود هنا بالتحديد تقليص السلطة السياسية لرجال الدين. فأبو زيد لا يطالب بعلمنة قانون الدولة، ولا يريد بذلك إبعاد الدين عن الحياة العامة، ولكنه يريد تحرير الخطاب الديني من قبضة المؤسسات والأيديولوجيات السياسية، وبذلك يؤسس لخطاب حر.
لفؤاد زكريا مفهوم مماثل للعلمانية يُعرّي رأي بعض الإسلامويين فى التعارض بين القانون الإلهي والقانون الوضعي كظاهرة أيدولوجية بديلة. فالذين يدّعون الحق الإلهي لأنفسهم ولمواقفهم ايضاً، سيظلون بشراً معرضون للخطأ. بيد أنهم لا يجهرون بعدم عصمتهم عن الخطأ، ولا يخضعون برامجهم السياسية للنقد الديمقراطي، في ذلك يعترض زكريا، إذ يرى في العلمانية الحديثة مبدأ: نظام سياسي، آخذين في الاعتبار قابلية الإنسان لارتكاب الخطأ، فصفة العصمة من الخطأ تظل للخالق وحده. "إن العلمنة تمتنع عن تأليه الإنسان أو جعله كائناً معصوماً من الخطأ، وفي الوقت عينه تعترف بمحدودية العقل البشري، وقصور النظم السياسية والاجتماعية".
بالرغم من أن الكُتاب المذكورين أعلاه بدءاً من أبي زيد وانتهاءً بفؤاد زكريا مُختلف عليهم في السياق الإسلامي، (ولكن مَن مِن المفكرين البارزين لا يختلف حولهم؟)، يوضحون أن تقديراً إسلامياً لعلمانية دولة القانون ممكن، "وله مغزاه"، بالرغم من ذلك إن العلمانية في حد ذاتها لا تشكل مبدءاً إسلامياً. إن اعتراف المسيحية لا ينبغي ان يقود إلي احتواء العلمانية كجزء من "القيم المسيحية" (كما يحدث كثيراً)، وبنفس القدر لا يجوز أن ينتهي تقدير الإسلام للعلمانية الى "أسلمتها" من طرف واحد، بل تبقى علمانية دولة القانون نتيجة للحرية الدينية، والتي تظل بدورها كحق من حقوق الإنسان، منفتحة لاحترام أي رأي ديني أو دنيوي.
والخلاصة التى وصلت اليها الدراسة تقول
لدولة القانون العلمانية، أهمية قصوى، غير أن المخاطر تحوطها وعليه يمكن تطبيقها فقط كمبدأ من مبادئ الحرية في الدستور الديمقراطي، إذا أخذناها مأخذ الجد كتحدي سياسي. إن أفضل دفاع عن دولة القانون العلمانية، هو أخذ الحرية الدينية كواجب يؤخذ مأخذ الجد، ويطبق بدقة. ككل حقوق الإنسان تهدف الحرية الدينية إلى المساواة، وكما هو معروف فإن المساواة القانونية بين الأقليات المسلمة في ألمانيا والكنيسة المسيحية، لا تزال معلقة، وإن مجتمع الأغلبية له دينُ لا بد أن يفي به.
بالتأكيد: أن المشاكل الفعلية- بدءاً بالاعتراف بالمنظمات الإسلامية كمنظمات تخضع للقانون العام، ومروراً بتنظيم الدروس الدينية، وإلى تأهيل علماء الفقه الإسلامي ومعلمي ومعلمات الدروس الدينية في جامعات الدولة، لا يمكن حلها ببساطة. وإلى الآن في ألمانيا ليس من الواضح إي من المنظمات الإسلامية تقوم بتمثيل القطاعات المختلفة من السكان المسلمين؛ مما يعنى فقدان الشفافية فيما يتعلق بالتركيبات الداخلية للمجتمع الإسلامي. كذلك يمكن بالتأكيد تحسين مقدرة المنظمات الإسلامية على التعبير داخل المجتمع الديمقراطي.
أحياناً يعلو صوت الشك من الطرف المسلم بأن ممثلي السياسة والإدارة الألمانية يتخذون من النواقص الواضحة والمشاكل ذريعة مرغوبة لتعليق مشاكل المسلمين إلى أجل غير مسمى، وحتى الذين يوافقون على الدروس الدينية "الرسمية" كضرورة، يسوقون الحجة بأن في ذلك القضاء على مدارس القرآن الأهلية. إن هذا الموقف لا يليق بكرامة وأخلاقيات دولة القانون الحرة، التي تقوم على الحرية الدينية.
لقد حان الوقت لوضع معلم. رغم كل المصاعب التي لا يمكن إنكارها والأسئلة العديدة التي تنتظر الإجابة - ليس هناك أي بديل مبدئي لمنح المسلمين فرصة المشاركة في تشكيل هذا المجتمع، على أساس المساواة في الحرية. إن الذي يرى خطراً في ذلك على نظام القانون العلماني لم يفهم بعد معني علمانية دولة القانون.
.