رؤية الغرب للحركات الإرهابية في كتاب: الأعداء القريبون والبعيدون
الإثنين 10/أكتوبر/2022 - 04:12 م
طباعة
حسام الحداد
يقول جارتنشتاين أحد مؤلفي كتاب " الأعداء القريبون والبعيدون": إن الرأي القائل بأن ثورات الربيع العربي كانت إيذانًا بأفول نجم الحركات الجهادية لم يكن رأي الكثيرين فقط، بل كان في الواقع رأي الغالبية العظمى أيضًا من المراقبين، ودوائر الاستخبارات الأمريكية. وفي وقتٍ لاحق، روى مايكل موريل، مسؤول كبير في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، في وقت تلك الثورات، أن دوائر الاستخبارات الأمريكية “اعتقدت وأخبرت صانعي السياسة أن انفجار التمردات الشعبية من شأنه أن يلحق الضرر بتنظيم القاعدة من خلال تقويض روايته”.
وهذا الإجماع التحليلي الذي تشكّل حول هذا الموضوع دفعني أنا وتوماس جوسلين، المؤلف المشارك معي، إلى اعتبار التقييمات التحليلية لثورات الربيع العربي، والجماعات الجهادية، واحدة من ثلاثة “أخطاء إجماع” كبرى ارتكبها مجالنا على مدى العقد الماضي.
إذا تدبرت الأمر، تجد أن التقييم التحليلي المتعلق بالربيع العربي والجماعات الجهادية كان دائمًا موضع شك كبير. فكرة إمكانية تنحية الحركات الجهادية جانبًا متجذرة في افتراضٍ مفاده أنه عندما يسيطر عدم الاستقرار على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فسوف تُهمّش الجماعات المسلحة، ولا تستطيع التفكير في إيجاد طريقة لاستغلال هذه التغييرات. لكن الواقع يشير إلى أن الجماعات المسلحة بشكلٍ عام، وليس الجهادية فقط، تزدهر في حالات الفوضى.
ويقدِّم كتابُ «الأعداء، القريبون والبعيدون: كيف تضع الجماعات الجهادية استراتيجياتها وتخطط وتتعلم»، من تأليف ديفيد جارتنشتاين-روس، وتوماس جوسلين، منهجًا جديدًا يدفعنا للتساؤل عما إذا كنا نفسّر العمليات الجهادية بشكلٍ غير صحيح منذ بدايتها.
من خلالِ منظور التعلّم التنظيمي، يقيّم المؤلفان المسارات التاريخية والاستراتيجية والتكتيكية للجماعات الجهادية. يخلص المؤلفان إلى أن هذه التنظيمات استفادت من إخفاق الاستخبارات، والحكومات، في الاعتراف بقدرة هذه الجماعات على التعلّم والتكيّف.
التعلم التنظيمي
مؤامرة عام 2014 لإبراهيم بودينا، أول عميل أرسله تنظيم داعش لاستهداف أوروبا، التي أخفقت بسبب مهاراته البدائية، هي السيناريو الافتتاحي للكتاب. ما قد يحسبه معظمُ الناس أنها مهمة نجحت سلطات إنفاذ القانون الفرنسية في تفكيكها، يفهمها المؤلفان على أنها الخطوة الأولى في منحنى التعلّم التنظيمي لداعش. الكتاب يتعمق أكثر فأكثر في كيف أن الإخفاقات والتحسينات في الهجمات ضدَّ، على سبيل المثال، قطاع الطيران، وفي المجال الرقمي، كانت جميعها جزءًا من منحنى التعلّم هذا.
يستعرض الفصل الثاني موجزًا لأدبيات التعلّم التنظيمي، والضغوط التي تواجهها الجهات الفاعلة العنيفة من غير الدول (خاصة الجماعات الجهادية) التي تدفعها للابتكار. في هذا الصدد، يرى جارتنشتاين روس وجوسلين، أن التعلّم التنظيمي يحدث عندما تُكتسب المعرفة، وتُفهم وتُشارك، وتُدمج في الذاكرة التنظيمية للجماعة. ويمكن تحقيق ذلك إما من خلال التعلّم المتقطع بواسطة تبني تغييراتٍ جذرية، أو من خلال التعلّم المستمر عن طريق تعديل الممارسات الحالية.
وأخيرًا، يمكن أن تكون أسباب التعلّم إما استباقية، عندما يكون هناك احتمال للحصول على ميزة على منافس، أو رد فعل، عندما تكون الحاجة إلى التعلّم ناتجة عن حدث ما. وهنا، ينبغي أن يلاحظ القارئ أن الجماعات الجهادية هي حالات فريدة من نوعها في التعلّم التنظيمي، ويعود ذلك إلى هيكلها التنظيمي البارع الذي يمنح فيه الكيان المركزي بعض الاستقلالية لفروعه.
يقدِّم المؤلفان منظورًا مبتكرًا حول كيفيةِ تجربة الجهات الفاعلة العنيفة من غير الدول لعملية التعلّم هذه. بطريقةٍ مبسطة، يصف جارتنشتاين روس، وجوسلين، منحنى تبني التكنولوجيا العنيفة عندما تحاول جماعة ما تبني تقنية جديدة، ولكنها تُخفق في ذلك في البداية. ثم، في مرحلة ثانية، تحسّن التقنيات.
يُعرف هذا باسم التكرار، الذي تتعلمه المنظمات من خلال التجربة والخطأ. بعد ذلك، يأتي النجاح. وتشهد المرحلة الثالثة زيادة في معدلات نجاح الهجوم. ثم تأتي المرحلة الأخيرة، ألا وهي المنافسة. في هذه المرحلة، يتكيّف خصوم المنظمة المعنية على طريقة مواجهة أنشطتها.
يمكن التعرّف على أمثلةٍ رئيسة لهذا المنحنى في الفصول رقم ثلاثة وأربعة وخمسة من الكتاب، التي تحلِّل كيفية تركيز تنظيم القاعدة على التعلّم التنظيمي في قطاع الطيران والمجال الرقمي. على سبيل المثال، طوّر تنظيم القاعدة هجماته بفضل التعلّم من أخطاء الماضي، مثل تفجير رحلة الخطوط الجوية الفلبينية رقم 434.
في هذه الحالة، حدث اختراق تقني مع مؤامرته الأولية (التبني) التي فشلت عندما أجهضتها السلطات، لكن تنظيم القاعدة تعلّم وحسّن (التكرار)، ونجح في الهجمات التي تلتها. علاوة على ذلك، تمكّن تنظيم القاعدة من تحسين تعلّمه من خلال استيعاب المعرفة من الإرهابيين الروّاد، مثل ريتشارد ريد الذي استقل رحلة الخطوط الجوية الأمريكية رقم 63 المتجهة إلى ميامي من باريس بقنبلةٍ مخبأة في حذائه. فيما يتعلق بتنظيم داعش، تحقق تعلمه التنظيمي، إلى حدٍّ كبير، من خلال استخدام نموذج المتآمر الافتراضي، الذي تتولى فيه عناصر الخلية الجهادية دعم العمليات الإرهابية في الخارج وتوجيهها، مثل الهجمات التي نفّذها الشقيقان خالد ومحمود في يوليو 2017 على متن إحدى رحلات الاتحاد للطيران.
نتيجة المحاولة المستمرة لإيجاد ثغراتٍ في إجراءات أمن المطارات، أثبتت الجماعات الجهادية قدرتها على التعلّم التنظيمي، ونتيجة لذلك، يستمر مسؤولو أمن الطيران في التكيّف والتعلّم بأنفسهم، ما يؤدّي إلى نوعٍ من الدينامية التفاعلية.
وفيما يتعلق بالمجال الرقمي، الذي استكشفه الفصل الخامس، استفادت التنظيمات الجهادية أيضًا من الوصول السريع للإنترنت وعدم الكشف عن هويتها لنشر دعايتها، ونشر المعرفة والمبادئ التوجيهية لإلهام المجندين المستقبليين لإدامة الهجمات.
استغلال الفراغ السياسي
يركِّز الفصل السادس على كيفية استخدام القاعدة للفراغ السياسي، والفوضى الناجمة عن الربيع العربي لنشر معتقداته. وبفضل تبني استراتيجياتٍ مختلفة لمناطق مختلفة مع التزام الصمت بشأن نفوذه في المنطقة، أظهر تنظيم القاعدة المرونة الاستراتيجية للتنظيم وقدرته على التعلّم. وقد أُسيء تفسير هذه الاستراتيجية من قبل المحلِّلين الغربيين الذين تعاملوا في البداية مع الجماعات على أنها كيانات محلية، مستقلة عن الجماعة الجهادية.
يستكشف الفصلان التاليان بداية داعش، وكيف يختلف نهجه التعليمي التنظيمي عن نهج القاعدة. وفي حين يفضِّل تنظيم القاعدة العمليات السريّة، يبالغ تنظيم داعش في وجوده، لا سيّما عبر الإنترنت، مستخدمًا وسائل التواصل الاجتماعي في التجنيد وزيادة الهجمات لتعزيز التصوّر العام عن قوته، كما يشهد على ذلك وجوده في درنة بليبيا.
غير أن المنافسة بين هذه التنظيمات تتيح فرصة للتعلم المتبادل. على سبيل المثال، حاول تنظيم داعش محاكاة النموذج التنظيمي البارع لتنظيم القاعدة. من ناحيةٍ أخرى، استغل تنظيم القاعدة نهج داعش العدواني لإطلاق دعاية مناهضة لداعش في أوساط الجمهور المؤيد للجهاديين.
يتناول الفصل التاسع، بالتحليل كيف تمكّن تنظيم القاعدة من النجاة من كلِّ الضربات الأمريكية بعد 11/9 وتمرد داعش باستغلال كيفية تقليل الاستخبارات الأمريكية من حجم شبكة الجماعة الإرهابية، بسبب وجودها الهادئ في أفغانستان، وكذلك الدعم المحلي للجماعة، كل ذلك بفضل تعلّمه التنظيمي.
من ناحيةٍ أخرى، يركِّز الفصل العاشر على استخدام داعش المبتكر للمتآمرين الافتراضيين للحفاظ على استراتيجيةٍ مزدوجة، من خلال التعامل مع الأعداء، القريبين والبعيدين، ما أدّى إلى سوء تفسير من جانب إدارة أوباما، فيما يتعلق بطموحات التنظيم وعملياته.
الخاتمة
يختتم الكتاب بفصله الحادي عشر، ويخلص إلى كيف تعلّم تنظيم القاعدة وداعش كتنظيمين. في هذا الإطار، يقدِّم المؤلفان للحكومات ووكالات الاستخبارات النصحَ حول كيفية مواجهة هذه الجماعات في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، يستشهد المؤلفان بالذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيّرة، كتقنيتين ناشئتين يجب الانتباه إليهما في الاستراتيجيات الجهادية. ويشدِّدان على أنه يتعين على الحكومات فهم ديناميات التعلّم التنظيمي لهذه الجماعات من أجل فهم خططها القادمة، وتوقعها على نحوٍ أفضل.
ولهذا السبب، يشجّع جارتنشتاين-روس، وجوسلين، الحكومات على إنشاء وحدات مراقبة للجماعات الجهادية، يمكنها شنُّ حملاتٍ لدحض دعايتها. علاوة على ذلك، ينصح الأكاديميان بالتنفيذ الوقائي للاستراتيجيات لمواجهة استخدام الجهاديين للتكنولوجيا. وأخيرًا وليس آخرًا، ينبغي للحكومات أيضًا استهداف الإرهابيين الروّاد والقضاء على ملاذاتهم الآمنة. لكن أيًا من هذا لا يمكن تحقيقه دون فهم أكثر شمولًا لسلوك هذه الجماعات.
ويخلص المؤلفان إلى أنه من الأهمية بمكان أن تراجع الحكومات خطوط التحليل التي تعتمدها. إذ لا يمكن للمرء أن يفهم التعلّم التنظيمي الخاص بالآخرين وينجح في مواجهته ما يكن هو على دراية بما يفعله. وعليه، يجب الترحيب بوجهات النظر الجديدة في هذا المجال لتقليل أخطاء الإجماع الحالية.
الترحيب بمنظورٍ جديد هو بالضبط ما يقدِّمه المؤلفان في هذا الكتاب، وهذه الرؤية الثاقبة الجديدة هي ما تجعله كتابًا لا بُدّ من قراءته، للحكومات والوكالات والممارسين والأكاديميين، وأي شخص مهتم بهذا الموضوع.