التوحش المُقَنَّع: كيف يُنتِج الإسلام السياسي منظومة العنف ضد النساء؟

الإثنين 20/يناير/2025 - 12:36 ص
طباعة التوحش المُقَنَّع: حسام الحداد
 
لطالما كان الجسد الأنثوي محورًا للصراعات الاجتماعية والأيديولوجية، حيث تتشابك فيه معاني الدين والسياسة، والتقاليد والأخلاق، والسلطة والرغبة في الهيمنة. عبر التاريخ، كانت المرأة ساحة لإثبات القوة والسيطرة، وغالبًا ما جرى تحديد دورها وفقًا لمعايير يضعها الرجال، سواء باسم الدين أو الثقافة أو الأعراف الاجتماعية. في هذا السياق، لا تقتصر التيارات الإسلاموية على فرض الحجاب أو النقاب كرمز للالتزام الديني، بل تعمل على إعادة هندسة الأدوار الاجتماعية بشكل جذري، بحيث تتحول النساء إلى كائنات خاضعة، بينما يُدفع الرجال نحو دور عدواني في فرض هذه المنظومة.
هذا التصور لا ينتج فقط نظامًا يقوم على القمع، بل يخلق بيئة اجتماعية تُغذي العنف الممنهج، حيث يصبح الرجل مشَرَّسًا والمرأة مُسَيطَرًا عليها، والمجتمع كله غارقًا في دوامة من التوحش. في هذه المنظومة، يتم تبرير العنف ضد النساء تحت غطاء الأخلاق والدين، مما يُحوّل التحرش والترهيب إلى أدوات ضبط اجتماعي، ويجعل التمييز الجندري ليس مجرد ممارسة، بل عقيدة راسخة تدفع المجتمع إلى إعادة إنتاج العنف جيلاً بعد جيل.

الفريسة والذئب: تقسيم النساء إلى "مباحة" و"محمية"
في المنظومة الإسلاموية، يتم تصنيف النساء وفقًا لمعيار وحيد هو مدى التزامهن بالزي والسلوك الذي تحدده الجماعة. يتم تقديم "الملتزمات" كنساء صالحات، محميات من الأذى بفضل خضوعهن لهذه المعايير، في حين تُعامل "المتبرجات" أو الخارجات عن الكتالوج الأخلاقي باعتبارهن مسؤولات عن أي عنف يتعرضن له. هذه النظرة تُحمل المرأة مسؤولية حماية نفسها من خلال الطاعة والاحتشام، بينما تُعفي الرجل من أي مسؤولية عن سلوكه العنيف، مما يخلق بيئة تبرر التحرش والاعتداء تحت ذريعة "الاستفزاز" أو "الإغراء".
الأخطر في هذه العقلية هو أنها لا تترك مجالًا لحياد المرأة، فهي إما داخل المنظومة وتستحق الحماية، أو خارجها وتُعامل كفريسة مشروعة. هذا التقسيم لا يحمي النساء "المحجبات"، بل يجعل سلامتهن مشروطة بمدى امتثالهن المستمر، ما يعني أن أي خروج ولو بسيط عن القواعد قد ينقل المرأة من فئة "المحمية" إلى فئة "المباحة"، ليظل الخوف هو الأداة الأساسية لضبط سلوك النساء جميعًا.

الراعي والذئب: السلطة الذكورية في ثوبين مختلفين
الجانب الأكثر تعقيدًا في هذه المنظومة هو أن الذئب والراعي في الواقع هما نفس الشخص، أي الرجل الذي يتولى دورين متناقضين ظاهريًا لكنهما متكاملان في جوهرهما. فمن ناحية، يلعب الرجل دور الذئب حين يتعلق الأمر بالنساء الخارجات عن المعايير الإسلاموية، حيث يصبح التحرش بهن، تهديدهن، بل وحتى الاعتداء عليهن سلوكًا مقبولًا بل ومرغوبًا اجتماعياً، لأنه يهدف إلى "تأديبهن" وإعادتهن إلى الحظيرة الأخلاقية المفروضة.
في المقابل، يتقمص الرجل دور الراعي حين يتعلق الأمر بالنساء "المُلتزمات"، فيُقدَّم كحامٍ لهن من اعتداءات الذئاب، وهو ما يضع النساء في موقف التبعية الدائمة، حيث لا يمكنهن تأمين أنفسهن إلا من خلال رجال العائلة أو الجماعة. هذا التناقض الواضح ليس عشوائيًا، بل هو جزء من استراتيجية تُحكم السيطرة على النساء من خلال خلق بيئة تجعل العنف واقعًا دائمًا، سواء كممارسة فعلية ضد "المتبرجات"، أو كتهديد مستمر يفرض على "المحجبات" التمسك بمعايير الطاعة والامتثال خوفًا من العقاب.

العنف كأداة اجتماعية لضبط النساء
في ظل هذه المنظومة، لا يصبح العنف ضد النساء مجرد ممارسات فردية معزولة، بل يتحول إلى دور اجتماعي مطلوب من الرجل الإسلاموي، حيث يُستخدم التحرش والترهيب كأدوات تأديبية تهدف إلى ضبط المجال العام وتأكيد السيطرة الذكورية. لا يتم تقديم هذه الأفعال باعتبارها انحرافات أو جرائم، بل يتم تبريرها دينيًا وأخلاقيًا كوسيلة لحماية المجتمع من "الفساد"، وهو ما يخلق بيئة تجعل العنف ضد المرأة ليس مجرد نتيجة، بل شرطًا أساسيًا لاستمرار المنظومة الإسلاموية نفسها.
هذا الاستخدام الممنهج للعنف يرسخ فكرة أن النساء لا يمتلكن حقوقًا ذاتية، بل تُمنح لهن "الحماية" فقط إذا التزمن بالقواعد المفروضة عليهن. أما من يرفضن هذا الامتثال، فمصيرهن التهديد الدائم أو الإقصاء، مما يضمن استمرار دورة العنف والتسلط التي تُعيد إنتاج نفسها جيلاً بعد جيل، تحت ستار الأخلاق والدين.
من مصانع المجاهدين إلى المصانع الاجتماعية للعنف: كيف يُعاد تشكيل المجتمع عبر قمع النساء؟

تحجيب النساء: العزل كوسيلة للهيمنة
لا يقتصر فرض الحجاب أو النقاب في الأيديولوجيا الإسلاموية على كونه مجرد التزام ديني، بل هو جزء من هندسة اجتماعية تهدف إلى عزل النساء عن المجال العام وإعادة تشكيل أدوارهن بما يخدم مشروع الجماعة. يُنظر إلى المرأة على أنها كائن يجب ضبطه ومراقبته باستمرار، ليس فقط من قبل الرجال، ولكن أيضًا من قبل النساء الأخريات اللاتي يتم توظيفهن كأدوات للقمع الاجتماعي. الهدف من ذلك ليس حماية المرأة، كما يُروَّج، بل تحويلها إلى كيان منزلي مهمته الأساسية الإنجاب وتربية الأطفال وفقًا للأيديولوجيا الإسلاموية، مما يجعلها غير فاعلة في المجال العام إلا ضمن الأدوار التي يحددها النظام الأبوي المتشدد.
هذا العزل لا يُفرض فقط عبر القوانين أو الفتاوى، بل يُمارس من خلال آليات اجتماعية تجبر المرأة على الامتثال خوفًا من العقاب أو الوصم. يتم تبرير ذلك من خلال خطاب ديني وأخلاقي يُقدّم بقاء المرأة في المنزل كأعلى درجات الطهارة والالتزام، في حين يُصوَّر خروجها إلى الحياة العامة كمصدر للفتنة والانحلال. وبهذا الشكل، يتحول المجتمع إلى سجن غير مرئي تُعزل فيه النساء تحت ستار الفضيلة، بينما يتم تكريس سيطرة الرجال على المجال العام دون مقاومة تُذكر.

تربية الرجال على العنف: من التسلط الأسري إلى العسكرة الدينية
بالتوازي مع عزل النساء، يتم تربية الرجال على ثقافة عدوانية تجعل العنف جزءًا أساسيًا من دورهم الاجتماعي. لا يُنظر إلى الرجل على أنه مجرد فرد في المجتمع، بل يُقدَّم كـمحارب مسؤول عن حماية الدين والأخلاق والأسرة، مما يغذي نزعة الهيمنة والتسلط منذ الطفولة. يُربى الفتيان على أن الرجولة تعني السيطرة والقوة والقمع، سواء داخل الأسرة أو في المجتمع الأوسع، مما يجعل العنف ضد النساء، سواء من خلال الترهيب أو القسر، سلوكًا طبيعيًا بل ومطلوبًا لضبط النظام الاجتماعي.
هذا النمط لا يقتصر على العلاقات الأسرية، بل يُستخدم كأداة لتجنيد الشباب في المشاريع الجهادية، حيث يُبرمج الرجال على أن العنف ليس فقط وسيلة للسيطرة على النساء، بل هو أيضًا أداة لخدمة الجماعة والمشروع السياسي الإسلاموي. وهكذا، يصبح المجتمع بأكمله مُصنَعا لإنتاج التسلط، حيث يُوجّه العنف داخليًا ضد النساء، وخارجيًا ضد الخصوم السياسيين والأيديولوجيين. في النهاية، تُنتج هذه المنظومة رجالًا مشبعين بثقافة القمع، ونساءً خاضعات لا يملكن إلا القبول أو العزلة، مما يضمن استدامة النظام القمعي دون الحاجة إلى أدوات قسرية مباشرة.

"إشمعنا إحنا؟": النساء كأدوات ضبط وقمع
لا يقتصر العنف ضد النساء على الرجال فقط، بل تُشارك فيه النساء الملتزمات أيضًا، من خلال منطقين متناقضين لكنهما متكاملان:

منطق الضحية: الانتقام من الحرية المحرمة
في المجتمعات التي تُفرض فيها معايير صارمة على النساء، لا يقتصر القمع على الرجال فقط، بل تُصبح النساء أنفسهن أدوات لقمع بعضهن البعض. أحد أبرز أشكال هذا القمع هو منطق "إشمعنا إحنا؟"، حيث تشعر النساء الخاضعات للقواعد الصارمة بالغضب تجاه أولئك اللواتي يتمتعن بحرية لم يُسمح لهن بها. عندما تُجبر المرأة على ارتداء الحجاب أو النقاب، أو على الالتزام بسلوكيات معينة تحت التهديد بالوصم الاجتماعي أو العقاب، فإنها ترى أي امرأة أخرى لا تخضع لهذه القواعد كتهديد شخصي، وكأنها تُذكِّرها بالقهر الذي تعيشه. ونتيجة لذلك، تتحول هذه النساء إلى أدوات لضبط الأخريات، حيث يُمارسن التنمر والترهيب على من لا يمتثلن لنفس المعايير، ليس دفاعًا عن الأخلاق كما يُروج، ولكن كرد فعل على إحساسهن العميق بالقهر.
هذا السلوك ينبع من ديناميكية نفسية معقدة، حيث يتم إعادة توجيه الغضب الذي كان ينبغي أن يُوجَّه إلى السلطة الذكورية نحو النساء الأخريات. بدلًا من التمرد على القواعد المفروضة عليهن، تختار النساء المقموعات معاقبة من يرفضن هذه القواعد، في محاولة لا شعورية لتبرير خضوعهن وجعل العالم أكثر "عدالة" وفقًا لواقعهن القاسي. وبهذا الشكل، يتحول القهر الشخصي إلى أداة جماعية لإخضاع النساء، حيث تصبح كل امرأة شرطيًا على الأخريات، مما يُكرس السيطرة الذكورية دون الحاجة إلى تدخل مباشر من الرجال.

منطق التفوق: الطاعة كوسيلة للهيمنة
على الجانب الآخر، لا ترى جميع النساء الخاضعات للمنظومة أنفسهن كضحايا، بل تتبنى بعضهن منطق التفوق الأخلاقي، حيث يعتبرن أنفسهن أكثر نقاءً وفضيلةً بسبب التزامهن بالمعايير المفروضة. في هذه الحالة، لا يكون الحجاب أو السلوك المحافظ مجرد التزام ديني، بل يتحول إلى رمز للتميّز والارتقاء الاجتماعي، مما يمنح هؤلاء النساء شعورًا بالتفوق على من لا يلتزمن بنفس القواعد. هذا الإحساس بالتفوق يُترجم إلى سلوكيات قمعية، حيث يُمارَس العنف اللفظي والمعنوي ضد النساء اللواتي يخرجن عن المعايير، تحت ذريعة "إصلاحهن" أو "إعادتهن إلى الصواب".
هذه العقلية تُستخدم كأداة فعالة في يد المنظومة القمعية، لأنها تجعل النساء يُشاركن طوعًا في إعادة إنتاج القهر الاجتماعي. بدلًا من أن تكون السلطة الذكورية هي المسؤولة الوحيدة عن ضبط النساء، يتم خلق بيئة تراقب فيها النساء بعضهن البعض، حيث يصبح القمع الأخلاقي أداة لإثبات التفوق والمكانة الاجتماعية. وبهذه الطريقة، لا يبدو قمع المرأة وكأنه فرض سلطوي من الخارج، بل يبدو وكأنه قرار جماعي نابع من النساء أنفسهن، مما يجعله أكثر تجذرًا في الثقافة، وأصعب في المقاومة.
هذا التكامل بين العنف الذكوري والقمع الأنثوي يُنتِج منظومة خانقة، حيث تصبح النساء أنفسهن أدوات في ضبط سلوك بعضهن البعض، مما يُخفف العبء على السلطة الذكورية، ويجعل قمع المرأة يبدو وكأنه قرار جماعي، وليس فرضًا سلطويًا.

الجنس كجوهر للعلاقة بين الرجل والمرأة
الخطاب الإسلاموي يسعى إلى تسطيح العلاقة بين الجنسين، بحيث يتم اختزالها إلى بُعدٍ واحد: الرغبة الجنسية. تتكرر في هذا الخطاب مفاهيم مثل:

"عصر السبايا وملك اليمين": امتلاك النساء كجزء من المجد الإسلامي
يروج الخطاب الإسلاموي لفكرة أن امتلاك النساء كان جزءًا طبيعيًا من التاريخ الإسلامي، ويتم استحضار مفهوم "ملك اليمين" باعتباره نموذجًا يُحتذى به في الفتوحات الإسلامية، حيث يُنظر إلى النساء في المجتمعات المهزومة كغنائم حرب. هذا التصور لا يعكس فقط نظرة اختزالية للمرأة كجسد قابل للامتلاك، بل يعيد إنتاج مفهوم العبودية الجنسية داخل الأيديولوجيا الدينية، مما يُضفي على السيطرة الذكورية شرعية تاريخية ودينية. وبهذا الشكل، يتم إضفاء طابع مقدس على فكرة أن المرأة يمكن أن تكون سلعة تُمنح للرجل أو تُسلب منه وفقًا للظروف السياسية والدينية.
الأخطر من ذلك هو أن هذه العقلية لا تقتصر على الماضي، بل تُستخدم كمرجعية تُغذي سلوكيات وممارسات معاصرة مثل زواج القاصرات، والاتجار بالنساء تحت غطاء الزواج الشرعي، وحتى تبرير الاغتصاب في سياقات معينة. يتم تسويق هذه الأفكار باعتبارها جزءًا من "الهوية الإسلامية الأصيلة"، مما يجعل انتقادها أو رفضها يُنظر إليه على أنه هجوم على الإسلام نفسه، وليس على ممارسات ذكورية قمعية. وهكذا، يتم تحصين الهيمنة الذكورية خلف درع المقدس، مما يجعل أي محاولة لمقاومتها صعبة ومعقدة.

"فقه النكاح": العلاقة بين الجنسين كمحور فقهي أساسي
عند النظر إلى الفقه الإسلامي التقليدي، نجد أن أحد أكثر المواضيع تناولًا هو ما يُسمى بـ"فقه النكاح"، حيث يتم التركيز على أحكام الزواج والجنس والعلاقة بين الرجل والمرأة من منظور قانوني دقيق. لكن المشكلة ليست في دراسة هذه القضايا بحد ذاتها، بل في حجم التركيز عليها مقارنة بقضايا أخرى أكثر أهمية تتعلق بالعدالة والمساواة وحقوق الإنسان. هذا الهوس بفقه النكاح يُعطي انطباعًا بأن العلاقة الأساسية بين الرجل والمرأة محصورة في الجنس، وليس في الشراكة أو التكامل الإنساني.
هذا التركيز الفقهي يؤدي إلى نتائج خطيرة، من بينها تشريع أشكال مختلفة من القهر الجنسي، مثل زواج الطفلات، وتعدد الزوجات دون قيود واضحة، وحق الزوج في "الاستمتاع" بزوجته حتى لو كان ذلك دون رضاها. وبذلك، يتحول الزواج من علاقة قائمة على التفاهم والاحترام إلى عقد يمنح الرجل حقوقًا جنسية غير مشروطة، في حين يُطالب النساء بالطاعة المطلقة. هذا المنطق يرسخ بدوره ثقافة تُعامل النساء كأدوات لإشباع الشهوة، مما يجعل أي خروج عن هذه المعادلة يُعتبر تمردًا يستوجب العقاب، سواء كان ذلك عبر العنف الجسدي أو النفسي أو الاجتماعي.

التصورات الإباحية عن الجنة: ترسيخ الذكورية عبر الدين
واحدة من أكثر الجوانب المثيرة للجدل في الخطاب الإسلاموي هي الطريقة التي يتم بها تصوير الجنة باعتبارها مكافأة جنسية للرجل المؤمن. يتكرر الحديث عن "الحور العين" كمكافأة أبدية، حيث يُقدَّم وعدٌ للرجال بأنهم سيحصلون على عدد لا يُحصى من النساء الجميلات، المبرمجات لإمتاعهم دون أي إرادة أو رفض. هذا التصور يُجرد العلاقة بين الرجل والمرأة من أي بعد إنساني، ويجعل المتعة الجنسية هي الغاية النهائية لكل رجل صالح، بينما لا يتم تقديم أي تصور مماثل للنساء.
هذا النوع من الخطاب لا يقتصر تأثيره على العالم الآخر فقط، بل يُلقي بظلاله على العلاقات في الدنيا، حيث يُعزز فكرة أن المرأة الجيدة هي تلك التي تُلبي رغبات الرجل بلا نقاش، وأن الامتناع عن الجنس أو التعبير عن عدم الرضا هو خروج عن دورها الطبيعي. كما يُستخدم هذا التصور لتبرير تعدد الزوجات وإباحة العلاقات غير المتكافئة، حيث يُنظر إلى النساء على أنهن مجرد أدوات مُتعة، وليس كأفراد مستقلين لهم رغباتهم وخياراتهم الخاصة.

المرأة ككائن جنسي: تسويغ العنف تحت غطاء الدين
كل هذه الأفكار تُرسخ صورة المرأة باعتبارها كائنًا جنسيًا بالدرجة الأولى، وليس ككيان إنساني له حقوق واستقلالية. هذه العقلية تجعل العنف ضد النساء يبدو وكأنه أمر طبيعي أو حتى ضروري، حيث يُستخدم "التحرش التأديبي" كوسيلة لمعاقبة النساء اللواتي يخرجن عن القواعد المفروضة، بينما يُبرر العنف الأسري تحت ذريعة "تهذيب الزوجة". حتى الاغتصاب الزوجي يُشرعن تحت اسم "الطاعة الزوجية"، حيث يُروَّج لفكرة أن للرجل حقًا مطلقًا في جسد زوجته، بغض النظر عن رغبتها أو موافقتها.
بالتالي، لا يمكن فصل العنف ضد النساء عن هذه المنظومة الفكرية، حيث يتم تقديم القهر الذكوري ليس فقط كحق، بل كواجب ديني وأخلاقي. هذه النظرة تجعل من الصعب على النساء المطالبة بحقوقهن أو الدفاع عن أنفسهن، حيث يتم تحويل الاستسلام للسلطة الذكورية إلى فضيلة، والمقاومة إلى خطيئة. وهكذا، تصبح المرأة عالقة في دوامة من القمع الذي لا يُمارس بالقوة فقط، بل أيضًا عبر الإقناع الأيديولوجي الذي يجعلها تتقبل دورها كأداة، وليس كشخص.
كل هذه الأفكار تُغذي عقلية ترى المرأة ككائن جنسي، وليس ككيان إنساني مستقل، مما يُسهِّل تسويغ العنف ضدها، سواء من خلال "التحرش التأديبي"، أو التبرير الشرعي للعنف الأسري، أو حتى تشريع اغتصاب الزوجة تحت مسمى "الطاعة الزوجية".

الفطرة والفضيلة: عندما يُقدَّم التوحش كحقيقة طبيعية
الأخطر من ذلك هو الطريقة التي يُقدَّم بها هذا النموذج الهمجي على أنه:الفطرة والفضيلة: عندما يُقدَّم التوحش كحقيقة طبيعية

الفطرة الإنسانية: تبرير القمع عبر البيولوجيا
إحدى أخطر الحيل الأيديولوجية التي يستخدمها الخطاب الإسلاموي هي تقديم التمييز الجندري القائم على القمع والعنف كأمر "طبيعي" و"فطري". يتم الترويج لفكرة أن المرأة، بطبيعتها البيولوجية، كائن ضعيف يحتاج إلى الحماية والضبط، مما يبرر فرض القيود الاجتماعية عليها باسم الحفاظ على أمنها وكرامتها. في المقابل، يُصور الرجل على أنه كائن جنسي شرس، غير قادر على التحكم في رغباته، مما يجعل ضبط النساء ضرورة لمنع الرجال من "الانحراف". هذه الثنائية تجعل المرأة مسؤولة عن ضبط سلوكها وسلوك الرجال في آنٍ واحد، حيث يُطالبها المجتمع بالتستر، والخضوع، وتجنب إثارة الرجال، وكأن التحرش والعنف ضدها نتيجة حتمية لطبيعتها الأنثوية، وليس لسلوكيات مجتمعية قابلة للتغيير.
هذا الطرح يجعل مقاومة القهر تبدو وكأنها مقاومة للطبيعة نفسها، حيث يتم تصوير أي امرأة تطالب بالمساواة أو الاستقلالية على أنها تتمرد على فطرتها، وتعرض نفسها والمجتمع للخطر. وهكذا، يتم تحصين القمع داخل مفهوم "الطبيعة البشرية"، مما يمنع إعادة النظر فيه أو انتقاده، لأنه لا يُقدَّم كخيار اجتماعي، بل كحقيقة علمية ودينية لا يمكن تغييرها. وبذلك، يتحول العنف ضد النساء من ممارسة يمكن رفضها إلى نتيجة "حتمية"، مما يُعيق أي محاولة لتفكيك المنظومة الذكورية القائمة.

قمة الفضيلة: القمع كأعلى درجات الأخلاق
لا يكتفي الخطاب الإسلاموي بتقديم التمييز الجندري كفطرة، بل يُصوره أيضًا على أنه أسمى أشكال الفضيلة والرقي الأخلاقي. يتم تسويق القمع الممنهج للمرأة على أنه نموذج مثالي للعفة والطهارة، بحيث يُصبح الالتزام بهذه المعايير دليلًا على الإيمان والتقوى، وأي خروج عنها يُعتبر انحرافًا أخلاقيًا يستوجب العقاب. بهذا الشكل، لا يُنظر إلى النساء غير الملتزمات بالقواعد الذكورية كأفراد أحرار، بل كمصادر للفتنة والانحلال يجب تأديبهن لحماية المجتمع من الانحراف.
هذه العقلية تجعل أي محاولة لمقاومة الظلم تبدو وكأنها مؤامرة ضد الأخلاق والدين، حيث يتم تصوير النساء اللواتي يطالبن بالمساواة على أنهن فاسدات يسعين لنشر الفجور والتدمير الأخلاقي. وبذلك، لا يُمارس القمع بالقوة فقط، بل أيضًا عبر التلاعب الأخلاقي الذي يجعل النساء أنفسهن يخشين المطالبة بحقوقهن، خوفًا من أن يُنظر إليهن كمتمردات على القيم والمقدسات. هذا التكامل بين التبرير البيولوجي والتبرير الأخلاقي يجعل المنظومة القمعية أكثر صلابة، حيث تصبح أي محاولة لكسرها ليست مجرد رفض لممارسات اجتماعية، بل تحديًا لفكرة "الخير" نفسها، مما يُصعب عملية التغيير ويجعل النساء عالقات في دوامة من القهر الذي يُقدَّم كأسمى درجات الفضيلة.
هذا الخطاب يجعل أي محاولة لمقاومة هذه العقلية تبدو وكأنها تمرد على الفطرة، مما يُصعب عملية تفكيك هذه المنظومة، لأنها تُقدَّم كحقيقة بيولوجية وأخلاقية في آنٍ واحد.

خاتمة: نحو تفكيك المنظومة العنيفة
ما نواجهه هنا ليس مجرد فرض للحجاب أو النقاب، بل هو بنية اجتماعية متكاملة تُعيد تشكيل العلاقات بين الجنسين بحيث يُصبح العنف ضد النساء جزءًا بنيويًا في المجتمع، وليس مجرد نتيجة جانبية. في هذا النموذج، يتم تحويل الرجال إلى أدوات قمع، والنساء إلى أهداف لهذا القمع، مما يخلق مسرحًا دائمًا للهيمنة والسيطرة. المشكلة لا تكمن فقط في القوانين أو الممارسات التي تقيد النساء، بل في الخطاب الذي يبرر هذه القيود ويُحوّلها إلى حقائق مقدسة لا يجوز المساس بها. لذلك، لا يمكن مواجهة هذه المنظومة بالاكتفاء برفض مظاهرها، بل يجب تفكيك الخطاب الإسلاموي ذاته، وكشف تناقضاته، وفضح كيف يتم التلاعب بالدين لإخضاع النساء وإعادة إنتاج مجتمع قائم على العنف المستدام.
في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل نحن أمام "إسلام أخلاقي" أم "إسلام سياسي"، أم أن الأول لم يكن سوى غطاء لتمرير الثاني طوال الوقت؟ إذا كان الإسلام الأخلاقي يقوم على العدل والمساواة، فلماذا يتم تبرير القمع باسم الفضيلة؟ وإذا كان الإسلام السياسي يدّعي أنه نموذج شامل للحياة، فلماذا يقوم على إخضاع نصف المجتمع؟ إن تفكيك هذه المنظومة لا يتطلب فقط نقد القوانين والممارسات، بل كشف الأسس الفكرية التي بُنيت عليها، وإعادة النظر في الطريقة التي يتم بها توظيف الدين كأداة لإدامة القهر، بدلاً من أن يكون وسيلة لتحقيق العدالة والكرامة الإنسانية.

شارك