استغلال القضية الفلسطينية.. كيف يوظف داعش معاناة الشعوب لخدمة أجندته؟

الجمعة 07/فبراير/2025 - 03:51 م
طباعة استغلال القضية الفلسطينية.. حسام الحداد
 
رغم أن تنظيم داعش يروج إعلاميًا لخطاب عدائي ضد اليهود والنصارى، مستخدمًا القضية الفلسطينية كأحد محاور دعايته، إلا أنه لم يقم بأي عمل فعلي يخدم هذه القضية أو يسهم في المقاومة الحقيقية للاحتلال. بل يكتفي بإصدار البيانات التحريضية والدعوات العامة للجهاد ضد إسرائيل، دون أن ينفذ عمليات ذات تأثير ملموس في الأراضي الفلسطينية أو يوجه موارده لدعم المقاومة الفعلية. وبدلًا من ذلك، يركز جهوده على استهداف المسلمين المخالفين له، سواء من الفصائل الفلسطينية الأخرى أو من المدنيين في الدول العربية والإسلامية.
إن استخدام داعش للقضية الفلسطينية في دعايته لا يعدو كونه وسيلة لكسب التأييد واستقطاب المجندين، مستغلًا مشاعر الغضب الشعبي تجاه الاحتلال الإسرائيلي. فهو يوظف هذه القضية في خطابه الدعائي لإظهار نفسه كمدافع عن الأمة الإسلامية، رغم أن ممارساته الفعلية لا تعكس أي التزام حقيقي بالنضال الفلسطيني. وفي الوقت الذي يهاجم فيه الفصائل الفلسطينية الأخرى ويتهمها بالعمالة أو التقاعس، لم يقدم أي دعم مادي أو عسكري يمكن أن يسهم في تعزيز المقاومة، بل على العكس، هاجم فصائل إسلامية أخرى تعمل في الساحة الفلسطينية، كما حدث مع حركة حماس التي اتهمها بالكفر والتخاذل.
كما أن استراتيجية داعش تعتمد على تحويل الأنظار عن فشله في تحقيق مكاسب حقيقية على الأرض، فيلجأ إلى تبني قضايا كبرى مثل فلسطين لتبرير استمراره. لكنه في الحقيقة، لم يوجه جهوده العسكرية نحو الاحتلال، بل استنزف طاقات المجاهدين في معارك داخلية ضد المسلمين أنفسهم، في العراق وسوريا ومناطق أخرى. فبينما تواجه غزة الحصار والعدوان الإسرائيلي المستمر، لم يوجه داعش عملياته نحو الاحتلال، بل فضل شن هجمات ضد المدنيين في العواصم العربية والإسلامية، مما يكشف تناقضاته ويؤكد أن خطابه لا يتجاوز الدعاية الإعلامية.
إن حقيقة موقف داعش من القضية الفلسطينية تبرز مدى استغلاله للمظلومية الفلسطينية لخدمة أهدافه الخاصة. فهو لا يسعى إلى تحرير الأرض أو دعم المقاومة، بل يستخدم معاناة الفلسطينيين كأداة لاستقطاب الشباب وتبرير أفعاله الإرهابية. وهذا يوضح أن التنظيم، رغم شعاراته الرنانة، لا يمثل مشروعًا حقيقيًا لمواجهة الاحتلال، بل هو كيان يسعى إلى الهيمنة على المجتمعات الإسلامية، حتى لو كان ذلك على حساب القضايا العادلة التي يدعي الدفاع عنها.

مقدمة
في العدد 481 من صحيفة "النبأ"، الناطقة باسم تنظيم داعش، قدّمت الافتتاحية مفهومًا جديدًا أطلقت عليه "المقاتل المتسلسل المسلم"، في محاولة لإضفاء بُعد شرعي على عمليات القتل الفردية التي تستهدف مدنيين يهود داخل إسرائيل. يسعى التنظيم، من خلال هذا المصطلح، إلى إعادة صياغة نموذج "الذئاب المنفردة" في إطار أكثر تنظيمًا واستمرارية، مقدمًا هذه العمليات باعتبارها جزءًا من استراتيجية جهادية مشروعة، وليست مجرد أعمال فردية عشوائية.
تهدف هذه المقالة إلى تحليل هذا الخطاب من منظور نقدي، عبر تفكيك الحجج التي استخدمها التنظيم لتبرير أعمال العنف، مع التركيز على الأبعاد الأيديولوجية والدينية التي يستند إليها، بالإضافة إلى استكشاف الدوافع الاستراتيجية وراء تبني هذا الطرح. كما سيتم تسليط الضوء على التناقضات في المنطق الذي يعتمده داعش، ومدى اتساق هذا الخطاب مع التحولات التي طرأت على أساليب التنظيم بعد تراجع نفوذه الميداني.

أولًا: التلاعب بالمفاهيم الدينية
تحاول افتتاحية "النبأ" إضفاء شرعية دينية على عمليات القتل المتسلسل من خلال الاستناد إلى نصوص قرآنية وأقوال علماء المسلمين، لكنها تتجاهل السياقات الصحيحة لهذه الأدلة، وتوظفها بشكل انتقائي لخدمة أيديولوجية التنظيم. على سبيل المثال، استشهدت الافتتاحية بآية "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ" (البقرة: 191)، لكنها أغفلت أن هذه الآية نزلت في سياق حرب دفاعية بين المسلمين وقريش في صدر الإسلام، حين مُنع المسلمون من دخول مكة وأوذوا في دينهم. ولم تكن الآية دعوة عامة لقتل أي شخص ينتمي إلى ديانة معينة، بل كانت جزءًا من تشريعات الحرب التي قيدتها الشريعة بضوابط صارمة، تتجاهلها الجماعات المتطرفة عمدًا.
علاوة على ذلك، تتجاهل الافتتاحية مقاصد الشريعة الإسلامية في الجهاد، والتي شددت على ضرورة وجود سلطة شرعية تقود القتال، وأكدت على تحريم استهداف المدنيين. فتعاليم النبي محمد ﷺ واضحة في هذا الشأن، إذ ورد في الحديث الصحيح أنه نهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ غير المقاتلين، كما أكد الفقهاء أن الجهاد في الإسلام يخضع لاعتبارات أخلاقية وقانونية صارمة، ولا يُترك لمبادرات فردية أو دوافع شخصية. لكن تنظيم داعش يعمد إلى تحريف هذه الضوابط، عبر إعادة تأويل النصوص بما يخدم مشروعه العنيف، متجاهلًا الضوابط الفقهية التي تمنع الفوضى وتحدّ من انتشار العنف العشوائي.
إضافة إلى ذلك، تحاول افتتاحية "النبأ" الترويج لفكرة أن الدافع الأساسي للقتل هو الامتثال "لأمر إلهي"، متجاهلة أن الأحكام الشرعية لا تُفهم بمعزل عن سياقاتها وأهدافها، وأن الإسلام شدد على العدل في التعامل مع غير المسلمين، سواء في الحرب أو السلم. بل إن العديد من الآيات التي يستشهد بها التنظيم جاءت في سياقات دفاعية أو كانت مشروطة باعتداء الطرف الآخر، وليست أوامر مفتوحة لقتل من يختلف في الدين أو العقيدة. وهذا التشويه المقصود للنصوص الدينية يعد أحد أخطر أدوات الجماعات المتطرفة في تبرير العنف ونشر خطاب الكراهية.
والأخطر من ذلك أن هذه التأويلات المغلوطة لا تقتصر على الجانب النظري، بل تُستخدم كأداة تحريضية لاستقطاب الأفراد الذين يفتقرون للمعرفة الدينية العميقة، مما يجعلهم أكثر عرضة لتصديق هذا الخطاب دون تمحيص. وهذا ما يجعل تصحيح هذه المغالطات أمرًا ضروريًا، من خلال إبراز التفسيرات الصحيحة للنصوص، وإعادة التأكيد على المبادئ الإسلامية التي ترفض العنف غير المنضبط، وتدعو إلى ضبط النفس والعدالة حتى في أشد الظروف.

ثانيًا: صناعة بطل إرهابي جديد
تحاول افتتاحية "النبأ" تقديم "المجاهد المتسلسل" كنموذج مثالي للجهاد الفردي، من خلال إبراز قدرته على تنفيذ عمليات قتل متفرقة ضد مدنيين دون أن تتمكن أجهزة الأمن من تعقبه بسهولة. يسعى كاتب المقال إلى رسم صورة بطولية لهذا النوع من المقاتلين، حيث يركز على قدرتهم على التخفي، واختيار الأهداف بعناية، وتنفيذ العمليات دون ترك أثر يدل عليهم. كما يشيد بمهاراتهم في إرباك أجهزة الاستخبارات وإرهاقها، معتبراً أن نجاحهم في الإفلات من الملاحقة الأمنية يعكس تفوقًا تكتيكيًا ينبغي الاقتداء به، وهو ما يجعل المقال أقرب إلى دليل تحريضي على كيفية تنفيذ عمليات إرهابية فردية دون كشف الهوية.
لكن اللافت في هذا الطرح أن التنظيم، من حيث لا يدري، يقدم تعريفًا يتطابق تمامًا مع مواصفات "القاتل المتسلسل" كما تصفه الدراسات الجنائية. فالمجاهد المتسلسل، وفقًا للصحيفة، هو شخص ينفذ عمليات قتل متعددة، بفواصل زمنية بين كل جريمة وأخرى، ويعتمد على التخفي والسرية، ويختار ضحاياه بدوافع "عقائدية" تجعله يكرر الفعل نفسه مرارًا. هذه الخصائص هي نفسها التي يعتمدها علم الإجرام في توصيف القاتل المتسلسل، الذي يُعرّف بأنه شخص يرتكب جرائم قتل متعددة، في أوقات متفرقة، مع سبق الإصرار والتخطيط، وعادةً ما يكون لديه دافع نفسي أو أيديولوجي محدد يدفعه لمواصلة القتل.
هذه المفارقة تكشف عن ازدواجية الخطاب لدى تنظيم داعش، فمن ناحية، يرفض التنظيم وصف مقاتليه بالإرهابيين، مدعيًا أنهم "مجاهدون" ينفذون أوامر شرعية، لكنه في الوقت ذاته يعترف بأن أفعالهم تتطابق مع الأنماط الإجرامية التي يصنفها العلم الجنائي ضمن فئة القتل التسلسلي. هذا التناقض يوضح كيف يحاول التنظيم تطبيع العنف وتقديمه في صورة بطولة، رغم أنه في جوهره لا يختلف عن الجرائم التي تُرتكب بدوافع إجرامية بحتة، سواء كانت عنصرية أو انتقامية أو حتى اضطرابات نفسية.
علاوة على ذلك، فإن تصوير القاتل المتسلسل على أنه "نموذج مثالي" يهدف إلى استقطاب أفراد لديهم استعداد نفسي للعنف، أو ممن يشعرون بالغربة والعزلة داخل مجتمعاتهم، في محاولة لإقناعهم بأن القتل يمكن أن يكون وسيلة مشروعة لتحقيق غاية "دينية". وهذا ينسجم مع استراتيجية داعش في استقطاب الذئاب المنفردة، التي لا تحتاج إلى تدريب عسكري منظم، بل تعتمد على نشر أيديولوجيا تبرر القتل الفردي دون ارتباط تنظيمي مباشر. وبهذه الطريقة، يحاول التنظيم إيجاد بيئة حاضنة جديدة بعد تراجع نفوذه العسكري، عبر تحويل "الإرهاب الفردي" إلى أسلوب قتالي ممنهج، معتمدًا على تضليل ديني وإعادة تأويل النصوص بما يخدم أهدافه.

ثالثًا: البعد الاستراتيجي والدعائي
لا تقتصر افتتاحية العدد 481 من صحيفة "النبأ" على تأصيل شرعي مزعوم لفكرة "المجاهد المتسلسل"، بل تأتي ضمن استراتيجية دعائية أوسع ينتهجها تنظيم داعش لاستقطاب الذئاب المنفردة وتشجيع العمليات الفردية التي لا تحتاج إلى بنية تنظيمية معقدة. بعد الضربات العسكرية التي تعرض لها داعش في العراق وسوريا، وتراجع سيطرته على الأرض، بات التنظيم يعتمد بشكل متزايد على نموذج العمليات غير المركزية التي يصعب التنبؤ بها، حيث لم يعد بحاجة إلى تمويل أو تدريب مباشر للمنفذين، بل أصبح يركز على نشر خطاب تحريضي يستهدف الأفراد القابلين للتطرف، ودفعهم نحو تنفيذ هجمات دون ارتباط تنظيمي مباشر.
في هذا السياق، تعد هذه الافتتاحية جزءًا من الحرب الإعلامية التي يشنها التنظيم، حيث تتجاوز مجرد التبرير الديني إلى تقديم تعليمات عملية للمنفذين المحتملين. فالمقال يقدم توجيهات دقيقة حول كيفية اختيار الأهداف، وإخفاء الأدلة، والتخفي عن أعين الأجهزة الأمنية، ما يجعله أقرب إلى "دليل عمليات" موجّه للذئاب المنفردة الراغبين في تنفيذ هجمات إرهابية. هذا الأسلوب في التحريض ليس جديدًا على داعش، بل هو امتداد لاستراتيجياته الإعلامية السابقة التي ركزت على نشر مواد تحريضية في مجلاته مثل "رومية" و"النبأ"، بالإضافة إلى الفيديوهات التي تبثها أذرعه الإعلامية، والتي تهدف إلى تجنيد أفراد دون الحاجة إلى انضمامهم الفعلي إلى التنظيم.
كما أن التركيز على العمليات الفردية يعكس تحولًا تكتيكيًا في أسلوب داعش القتالي، حيث يدرك التنظيم أن الهجمات التقليدية التي تتطلب تخطيطًا جماعيًا باتت أكثر عرضة للإحباط من قبل الأجهزة الأمنية، خاصة مع تطور تقنيات المراقبة والتجسس. لذلك، أصبح يروج لنموذج "الجهاد الفردي"، الذي يعتمد على مهاجم واحد يستخدم وسائل بسيطة مثل الطعن أو الدهس أو إطلاق النار، مما يجعل هذه العمليات أكثر صعوبة في التنبؤ والإحباط، وأقل تكلفة من الناحية اللوجستية، لكنها تحقق تأثيرًا إعلاميًا كبيرًا.
ورغم الانحسار الميداني لداعش، إلا أن مثل هذه المقالات تكشف أن التنظيم لا يزال يسعى إلى الحفاظ على نفوذه عبر الحرب النفسية والدعائية. فبدلًا من التركيز على استعادة الأراضي التي خسرها، أصبح يركز على نشر الفوضى وبث الخوف في المجتمعات المستهدفة، من خلال خلق حالة من عدم اليقين والقلق الأمني. وبذلك، يراهن التنظيم على أن استمرار عملياته الفردية، حتى لو كانت صغيرة ومتفرقة، سيضمن بقاءه حاضرًا في المشهد الأمني والإعلامي، ويثبت لأنصاره أنه لا يزال قادرًا على التأثير رغم هزائمه العسكرية.

رابعًا: الافتتاحية في سياق الخطاب الداعشي العام
لا تختلف افتتاحية العدد 481 من صحيفة "النبأ" عن الخطاب التقليدي لتنظيم داعش، الذي يقوم على تبرير العنف وإضفاء الشرعية الدينية عليه، مع التركيز على المفاصلة التامة مع التيارات الإسلامية الأخرى. فمنذ ظهوره، حرص التنظيم على التمييز بين "منهجه الجهادي" وبين أساليب الجماعات الإسلامية الأخرى، سواء تلك التي تتبنى المقاومة وفق ضوابط شرعية محددة، أو التيارات التي تضع قيودًا على استخدام العنف. يتجلى هذا في الانتقادات الحادة التي يوجهها داعش باستمرار إلى الفصائل الإسلامية الأخرى، متهمًا إياها بالخضوع للقيود السياسية أو الدولية، وهو ما يتكرر في هذه الافتتاحية التي تصور التنظيم على أنه الوحيد الذي يطبق "أحكام الجهاد الصحيحة"، بينما تتهم غيره بالتخاذل أو الانحراف عن العقيدة الصحيحة.
لكن ما يميز هذه الافتتاحية عن الخطابات السابقة هو أنها تحاول إعادة تقديم نموذج "الذئاب المنفردة" بأسلوب جديد، لا يقتصر على العمليات الفردية التقليدية، بل يطرح فكرة "المقاتل المتسلسل"، الذي ينفذ عمليات متعددة دون أن يتمكن العدو من تعقبه. هذا التغيير في الخطاب يشير إلى محاولة داعش إعادة تدوير استراتيجياته لتتلاءم مع الظروف الحالية، حيث لم يعد التنظيم قادرًا على شن عمليات عسكرية منظمة كما في السابق، لكنه يسعى إلى الإبقاء على تأثيره من خلال هجمات فردية مستمرة يمكن أن تشكل تهديدًا طويل الأمد لأعدائه.
إضافةً إلى ذلك، تعكس هذه الافتتاحية تحولًا في تركيز التنظيم من مجرد التحريض على الهجمات العشوائية إلى تقديم نموذج أكثر تعقيدًا من العمليات الفردية، حيث يُطلب من المنفذين الالتزام بنمط محدد من التخطيط، والتخفي، واختيار الأهداف بعناية، ما يجعل الهجمات أكثر احترافية وأشد خطورة. فبدلًا من تنفيذ هجوم واحد، يتم تشجيع الأفراد على تكرار الهجمات عبر فترات زمنية متباعدة، مما يحقق تأثيرًا نفسيًا وأمنيًا أوسع. هذا الأسلوب الجديد يشير إلى أن داعش يحاول الاستفادة من تجارب سابقة، حيث نجحت بعض الهجمات الفردية المتسلسلة في خلق حالة من الرعب وعدم الاستقرار في المجتمعات المستهدفة.
كما أن هذا التطور في الخطاب يعكس إدراك داعش لأهمية الإعلام في بقائه، فحتى في ظل خسائره الميدانية، لا يزال التنظيم قادرًا على التأثير من خلال دعايته التي تستهدف فئات محددة من جمهوره. وبدلًا من التركيز على العمليات العسكرية واسعة النطاق، أصبح التنظيم يوجه جهوده نحو بناء صورة جديدة للمجاهد الفردي، الذي يعمل باستقلالية، ويواصل القتال رغم الظروف الصعبة، في محاولة لإبقاء جذوة فكره مشتعلة لدى أنصاره، حتى في ظل غياب كيان مركزي واضح يقودهم.

خاتمة
تؤكد افتتاحية العدد 481 من صحيفة "النبأ" أن تنظيم داعش لا يزال مستمرًا في استغلال النصوص الدينية لتبرير العنف، مستخدمًا التأويلات المشوّهة للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية لتضليل أنصاره وإضفاء شرعية زائفة على أفعاله. لكن اللافت في هذا الخطاب أنه لم يعد يركز على العمليات الجماعية أو السيطرة الميدانية، بل يحاول إعادة ابتكار أسلوب جديد من الإرهاب يعتمد على الأفراد الذين يتحركون بمعزل عن التنظيم المركزي. وهذا يعكس تغيرًا في استراتيجياته، حيث أصبح أكثر اعتمادًا على العمليات الفردية التي يسهل تنفيذها دون الحاجة إلى بنية تنظيمية معقدة، مما يجعله أكثر قدرة على الصمود في وجه الحملات الأمنية التي استهدفت مراكزه التقليدية.
ورغم أن هذا التحول قد يبدو تكتيكًا جديدًا، إلا أنه في جوهره يعكس حالة الضعف التي يمر بها التنظيم، بعد فقدانه مناطق نفوذه في العراق وسوريا وتراجعه في عدة ساحات أخرى. فلم يعد بإمكانه تجنيد المقاتلين كما في السابق، أو تنظيم عمليات عسكرية واسعة، مما اضطره إلى تبني نهج العمليات الفردية المتسلسلة كبديل عن الاستراتيجيات القديمة. لكنه، في المقابل، يحاول تسويق هذا النهج على أنه أسلوب جهادي مشروع، سعيًا للحفاظ على جذوة فكره متقدة، ولإقناع أنصاره بأن التنظيم لا يزال موجودًا وقادرًا على التأثير رغم انحساره الميداني.
ومع ذلك، فإن هذا الخطاب لا يزال يشكل تهديدًا حقيقيًا، نظرًا إلى قدرته على استقطاب أفراد غير منتمين تنظيميًا، وتحريضهم على تنفيذ هجمات إرهابية بأساليب يصعب تتبعها أمنيًا. فتقديم صورة "المقاتل المتسلسل المسلم" كقدوة جهادية قد يدفع بعض الأفراد المتأثرين بدعاية التنظيم إلى تنفيذ عمليات مستوحاة من هذا النموذج، دون الحاجة إلى تلقي تدريب مباشر أو الحصول على دعم لوجستي. وهذا يجعل مواجهة هذا الخطاب ضرورية، ليس فقط من خلال التدابير الأمنية، ولكن أيضًا عبر تفكيك الأيديولوجيا التي يقوم عليها، وكشف زيف مبرراته الدينية والشرعية.
إن التصدي لمثل هذا الطرح يستلزم فضحه على مستويين رئيسيين: الديني والإعلامي. فمن الناحية الدينية، ينبغي توضيح أن تأويلات داعش للنصوص الإسلامية تتناقض مع مبادئ الشريعة التي تحرم استهداف الأبرياء وتؤكد على العدل والسلم. أما من الناحية الإعلامية، فيجب تسليط الضوء على تناقضات التنظيم، وفضح استغلاله للدين من أجل تبرير العنف، وإبراز نتائجه الكارثية على المجتمعات الإسلامية نفسها قبل غيرها. فقط من خلال تفكيك هذا الخطاب، وكشف زيفه أمام جمهوره المستهدف، يمكن تقليل تأثيره والحد من قدرته على استقطاب أتباع جدد.

شارك