تفكيك خطاب العنف: قراءة نقدية في افتتاحية “النبأ” بعد هجوم سيدني

السبت 20/ديسمبر/2025 - 01:34 م
طباعة تفكيك خطاب العنف: حسام الحداد
 
تأتي هذه القراءة النقدية في سياق افتتاحية نشرتها صحيفة النبأ، الذراع الإعلامية لتنظيم داعش، في العدد 526 الصادر مساء الخميس 18 ديسمبر 2025، وذلك في أعقاب هجوم سيدني الذي حظي بتوظيف دعائي مكثف من قبل التنظيم. وكما هو معتاد في افتتاحيات النبأ، لا يقدَّم النص بوصفه تعليقًا خبريًا أو موقفًا عابرًا، بل كبيان أيديولوجي مكثف يسعى إلى توجيه الأنصار، ومخاطبة الخصوم، وإعادة تثبيت سردية التنظيم عن ذاته ودوره في لحظة إقليمية ودولية مضطربة.
تكتسب هذه الافتتاحية أهميتها ليس فقط من توقيت صدورها، بل من طبيعة الخطاب الذي تحمله، إذ تعكس محاولة واضحة لإعادة تفعيل الدور الدعائي للتنظيم بعد سنوات من التراجع الميداني، عبر الاستثمار في نموذج “الإرهاب الفردي” والتحريض العابر للحدود. كما تأتي في لحظة تشهد فيها الساحة الدولية تصاعدًا في التوترات المرتبطة بالحرب على غزة، وما رافقها من شحن عاطفي واستقطاب حاد، سعى التنظيم إلى توظيفه أيديولوجيًا من أجل إعادة إنتاج خطابه، وتقديم نفسه بوصفه الفاعل “الأكثر راديكالية” و”الأصدق” في التعبير عن هذا الغضب.
وتهدف هذه القراءة إلى تفكيك الافتتاحية بوصفها نصًا أيديولوجيًا لا مجرد مادة تحريضية، من خلال تحليل السياق السياسي–الأمني الذي صدرت فيه، وبنية الخطاب والدوافع الكامنة وراءه، والرسائل المعلنة والمسكوت عنها، وصولًا إلى الدلالات الفكرية والأيديولوجية، والآثار المستقبلية المحتملة على المستويين الإقليمي والعالمي، وتأثيرها في تنامي أنماط جديدة من التطرف والإرهاب. ولا تنطلق هذه القراءة من إعادة إنتاج خطاب العنف، بل من تفكيكه وكشف تناقضاته، بوصف ذلك شرطًا أساسيًا لفهم مخاطره، ومواجهة قدرته على التأثير والتجنيد في بيئات مأزومة وقابلة للاختراق.

الإطار العام والسياق السياسي-الأمني
تأتي افتتاحية صحيفة النبأ في لحظة شديدة التعقيد على المستويين الإقليمي والدولي، حيث تتقاطع أزمات مفتوحة وصراعات متراكمة أعادت إنتاج مناخ عام مشحون بالغضب والارتباك والاصطفاف الحاد. فالحرب الدائرة في غزة لم تظل حبيسة جغرافيتها، بل تحولت إلى حدث كوني أعاد تنشيط الانفعالات والهويات والاصطفافات الأيديولوجية العابرة للحدود، وخلق حالة تعبئة عاطفية كثيفة استثمرتها تيارات متطرفة متعددة، وفي مقدمتها التنظيمات الجهادية، التي رأت في هذه اللحظة فرصة لإعادة ضخ خطابها في فضاء عالمي مأزوم وقابل للاشتعال.
في هذا السياق، يحاول تنظيم “الدولة الإسلامية” استعادة موقعه داخل المشهد الجهادي العالمي بعد سنوات من التراجع الميداني، وانهيار مشروع “الدولة” جغرافيًا، وتآكل قدراته التنظيمية واللوجستية. ومن ثم، فإن الافتتاحية لا تعكس قوة فعلية بقدر ما تعبّر عن محاولة تعويض الخسارة الميدانية بحضور دعائي مكثف، يهدف إلى إعادة إنتاج صورة التنظيم كفاعل مركزي لا يزال قادرًا على المبادرة، ولو عبر تبنّي أو تثمير عمليات فردية محدودة التأثير العسكري لكنها عالية الصدى الإعلامي.
كما تتقاطع الافتتاحية مع تحولات عميقة في طبيعة التهديدات الأمنية عالميًا، حيث بات “الإرهاب الفردي” أو نمط “الذئاب المنفردة” هو التحدي الأكثر إرباكًا لأجهزة الأمن، نظرًا لانخفاض كلفته، وصعوبة التنبؤ به، واعتماده على التحريض الأيديولوجي أكثر من البنية التنظيمية الصلبة. ومن هنا، يركّز الخطاب على شرعنة هذا النمط من العنف، وتقديمه باعتباره المرحلة الأكثر نضجًا وفاعلية من “الجهاد”، بما ينسجم مع واقع التنظيم الحالي الذي لم يعد قادرًا على إدارة شبكات واسعة أو معسكرات تدريب تقليدية.
وعليه، فإن افتتاحية النبأ لا يمكن قراءتها بوصفها رد فعل ظرفي على حدث بعينه، بل كنص أيديولوجي مُصاغ بعناية ليؤدي وظائف متعددة في آن واحد: تعبئة الأنصار، وتبرير التحريض، وتوجيه الرسائل للخصوم، والأهم إعادة تعريف هوية التنظيم ودوره في مرحلة ما بعد “الدولة”. إنها محاولة لإعادة التموضع داخل بيئة دولية متوترة، عبر تحويل الفوضى السياسية والعاطفية إلى رأس مال دعائي، يُستثمر في إطالة عمر المشروع المتطرف، حتى في غياب شروط بقائه التقليدية.

بنية الخطاب والدوافع الكامنة
يقوم خطاب افتتاحية النبأ على محاولة واعية لإعادة تشكيل الإطار الأخلاقي الذي يُنظر من خلاله إلى العنف، بحيث لا يظهر التنظيم في موقع المنبوذ أو المعزول، بل في موقع “الطليعة” التي تُهاجَم لأنها تقول ما لا يجرؤ الآخرون على قوله. فالنص يسعى منذ بدايته إلى نفي العزلة الأخلاقية والسياسية المفروضة على التنظيم، عبر تصوير الرفض الشعبي والدولي للإرهاب لا باعتباره موقفًا أخلاقيًا، بل نتيجة “تدجين” و”نفاق” و”خيانة”. وبهذا، يتم قلب المعادلة: يصبح القاتل صاحب قضية، ويُصوَّر الرافض للعنف باعتباره متواطئًا أو مخدوعًا.
وفي هذا الإطار، يعمل الخطاب على تطبيع العنف بوصفه فعلًا طبيعيًا ومشروعًا، لا استثناءً أو انحرافًا. فبدل الدفاع عن العمليات أو تبريرها، يجري التعامل معها كحقيقة بديهية لا تحتاج إلى شرح، بينما يُلقى عبء التبرير على من يعارضها. هذه التقنية الخطابية تتيح للتنظيم الهروب من النقاش الأخلاقي والإنساني، وتحويله إلى صراع هويات مغلقة: “نحن” مقابل “الغثاء”، بما يخلق شعورًا زائفًا بالتفوّق الأخلاقي لدى المتلقّي المتعاطف.
الركيزة الثانية تتمثل في إعادة مركزية العداء لليهود والغرب، ليس بوصفه عنصرًا جديدًا في خطاب التنظيم، بل بوصفه إعادة توظيف انتقائية للثنائية القديمة (يهود/صليبيون) لخدمة حاجة راهنة. فالنص يبدو موجَّهًا بالأساس إلى جمهور داخلي جهادي، في محاولة للرد على اتهامات متداولة داخل هذا الوسط بأن داعش أهمل استهداف إسرائيل، أو انشغل بقتال أطراف “ثانوية”. ومن هنا، تحمل الافتتاحية طابعًا تبريريًا دفاعيًا، يهدف إلى ترميم صورة التنظيم داخل بيئته الأيديولوجية قبل مخاطبة الخصوم.
أما الركيزة الثالثة، فهي تعويض الهزيمة الميدانية بالبطولة الرمزية. ففي ظل غياب السيطرة الجغرافية، وتفكك الهياكل التنظيمية الكبرى، يلجأ الخطاب إلى تضخيم أي هجوم فردي، وتحميله دلالات استراتيجية تتجاوز حجمه الفعلي. يتم تقديم الفعل الفردي بوصفه دليلًا على “حيوية المنهج” و”فشل الأنظمة الأمنية”، بما يحوّل الضعف الواقعي إلى سردية صمود ومرونة. هذه الآلية ليست تعبيرًا عن قوة، بل عن محاولة مستمرة لإنكار الهزيمة وإعادة تدويرها رمزيًا.
ويتكامل ذلك مع الترويج لفكرة اللامركزية المطلقة، حيث يُصوَّر التنظيم ككيان غير قابل للاستئصال لأنه لم يعد بحاجة إلى قيادة واضحة أو بنية تنظيمية تقليدية. هنا، يتحول غياب القيادة إلى “فضيلة”، وتصبح الفوضى دليلًا على النضج، في عملية قلب مفاهيمي تهدف إلى التكيف مع واقع الملاحقة الأمنية والتفكك البنيوي. الخطاب، في جوهره، يبرّر العجز التنظيمي عبر تحويله إلى استراتيجية مقصودة.
الركيزة الرابعة تتمثل في استثمار الفوضى العاطفية المرتبطة بالحرب على غزة، حيث تحاول الافتتاحية مصادرة التعاطف الإنساني الواسع، وتقديم التنظيم بوصفه الممثل “الأصدق” لهذه القضية. يتم هنا نزع الشرعية عن أي موقف أخلاقي يرفض استهداف المدنيين أو العنف العشوائي، ووصمه بالتمييع أو الخيانة. وبهذا، لا تُستخدم غزة كقضية سياسية أو إنسانية، بل كأداة تعبئة، تُستغل لإعادة فرز العالم إلى معسكرين: معسكر العنف المطلق، ومعسكر “الخيانة”.
وفي المحصلة، تكشف بنية الخطاب عن دوافع مركبة تتجاوز الحدث محل التناول؛ فهي تعكس أزمة هوية يعيشها التنظيم في مرحلة ما بعد “الدولة”، ومحاولة دائمة لإعادة تعريف ذاته عبر الإنكار، والتبرير، والاستفزاز. الافتتاحية لا تعبّر عن ثقة بقدر ما تعبّر عن قلق، ولا عن توسّع بقدر ما تكشف عن انكماش، يُعوَّض عنه بالضجيج الأيديولوجي والتصعيد اللفظي، في مسعى يائس للحفاظ على القدرة على التأثير والتجنيد في عالم لم يعد يتسامح مع هذا الخطاب إلا على هوامشه الأكثر هشاشة.

الرسائل المعلنة والرسائل المسكوت عنها
تحمل افتتاحية النبأ جملة من الرسائل المعلنة التي لا تبذل جهدًا في إخفائها، بل تتعمّد صياغتها بصيغة صدامية مباشرة. في مقدمة هذه الرسائل الدعوة الصريحة إلى العنف ضد اليهود والمسيحيين، ليس بوصفه فعلًا تكتيكيًا مرتبطًا بظرف سياسي محدد، بل باعتباره جوهر الصراع ولبّ “المنهاج” الذي يروّج له التنظيم. هذا الوضوح المتعمد في التحريض يعكس رغبة في كسر أي التباس أخلاقي، وفرض قراءة ثنائية للعالم لا تحتمل مناطق رمادية، بما يحوّل النص إلى أداة تعبئة لا خطابًا تفسيريًا.
وتتوسع الرسائل المعلنة لتشمل التحريض الواضح على تنفيذ هجمات فردية داخل أوروبا، مع تركيز لافت على دول بعينها مثل بلجيكا، بما يكشف عن إدراك التنظيم لخصوصية البيئات الهشة اجتماعيًا، حيث تتقاطع أزمات الاندماج، واللجوء، والتهميش، مع خطاب المظلومية. هنا لا يقدّم النص توجيهًا تنظيميًا تقليديًا، بل يكتفي بإشارات عامة، تُلقي بالمسؤولية كاملة على الفرد، وتحوّله إلى أداة تنفيذ مستقلة، في انسجام مع نمط “الإرهاب منخفض الكلفة” الذي بات التنظيم يعوّل عليه في هذه المرحلة.
كما تروّج الافتتاحية بوضوح لنموذج ما يمكن تسميته بـ“الجهاد الرقمي”، حيث يجري تقديم الفضاء الإلكتروني بوصفه البديل الوظيفي عن المعسكرات والقيادات والاتصال المباشر. ويُصوَّر تلقّي التعليمات أو “الإلهام” عبر الإنترنت كصيغة كافية ومشروعة للفعل العنيف، في محاولة لتكييف الخطاب مع واقع المراقبة الأمنية المشددة. هذه الرسالة المعلنة تهدف بالأساس إلى خفض العتبة النفسية للانخراط في العنف، عبر الإيحاء بأن الفعل لا يتطلب انتماءً تنظيميًا أو استعدادًا طويل الأمد.
أما على مستوى الرسائل المسكوت عنها، فإن النص يكشف – من حيث لا يقصد – عن اعتراف ضمني بالعجز التنظيمي. فالإلحاح على نموذج “المجاهد الفرد” الخالي من البنية واللوجستيات ليس تعبيرًا عن تطور استراتيجي بقدر ما هو إقرار بفقدان القدرة على العمل الجماعي المنظم. كما أن الهجوم اللفظي الحاد على المنتقدين، واتهامهم بالخيانة والنفاق، يعكس خوفًا حقيقيًا من تآكل التأثير الدعائي وفقدان القدرة على الإقناع. والأخطر من ذلك، أن الافتتاحية تسعى إلى جرّ المجتمعات المسلمة في الغرب نحو مواجهة وجودية مع دولها ومحيطها الاجتماعي، بما يغذّي سردية “الاضطهاد” التي يعيش عليها التنظيم، حتى وإن كان ثمن ذلك تعريض هذه المجتمعات لمزيد من العزلة والاشتباه والعقاب الجماعي.

الدلالات الفكرية والأيديولوجية
تكشف افتتاحية النبأ عن تحريف عميق وممنهج لمفهوم “منهاج النبوة”، حيث يجري استدعاء المرجعية الدينية لا بوصفها إطارًا أخلاقيًا ضابطًا للفعل، بل كأداة تبرير جاهزة لعنف مطلق منزوع السياق. يتم اقتطاع المفهوم من سياقه التاريخي والإنساني، وإعادة تحميله دلالات قتالية صِرفة، تُفرغه من أي بعد قيمي أو مقاصدي. هذا النمط من التديّن الأداتي ليس جديدًا في أدبيات التنظيمات المتطرفة، لكنه هنا يبلغ درجة أكثر فجاجة، إذ يتحول “المنهاج” إلى شعار تعبوي يعلو فوق أي نقاش أخلاقي أو فقهي، ويُستخدم لإسكات كل اعتراض بوصفه خروجًا عن الدين ذاته.
ومن خلال هذا التحريف، يكرّس الخطاب ما يمكن تسميته بـتقديس الفوضى، حيث يتم تفكيك كل المعايير الأخلاقية التي تميّز بين الأهداف المشروعة وغير المشروعة، وبين الفعل السياسي والعنف الأعمى. فالافتتاحية لا تميّز بوضوح بين مدني وعسكري، ولا بين صراع مسلح ومجازر عشوائية، بل تتعامل مع العنف كقيمة في حد ذاته، وكدليل على “الصدق” و”النقاء العقائدي”. هذا الانزلاق إلى العدمية يعكس غياب أي أفق سياسي أو اجتماعي، ويحوّل القتل من وسيلة – مهما كانت إشكاليتها – إلى غاية قائمة بذاتها.
وتتجلى إحدى أخطر الدلالات الأيديولوجية في توسيع دائرة “الخيانة” إلى حدّ غير مسبوق. فبحسب منطق النص، لا يقتصر وصف الخيانة على الخصوم التقليديين، بل يشمل كل من يرفض العنف أو يتحفظ عليه، بما في ذلك مسلمين، وناشطين، وثوار، ولاجئين، بل وحتى متعاطفين مع قضايا إنسانية كغزة إذا لم يمرّ تعاطفهم عبر بوابة التنظيم. هذه اللغة الإقصائية تؤسس لشرعنة عنف داخلي دائم، حيث يصبح المجتمع ذاته ساحة اشتباه مستمرة، ويغدو الاختلاف – لا التواطؤ – هو الجريمة.
وفي المحصلة، تعكس هذه الدلالات الفكرية أزمة بنيوية في خطاب التنظيم، حيث يُستبدل الدين بالأيديولوجيا، والأخلاق بالانضباط الأعمى، والمعنى بالفعل العنيف المجرد. إنها أيديولوجيا لا تسعى إلى بناء مجتمع أو تغيير واقع، بل إلى إعادة إنتاج الصراع بلا نهاية، عبر تفريغ المفاهيم الدينية من مضامينها، وتوظيفها كوقود لاستدامة العنف. وبهذا، لا يشكّل الخطاب تهديدًا خارجيًا فحسب، بل خطرًا داخليًا على النسيج الفكري والاجتماعي للمجتمعات الإسلامية نفسها، لأنه يعمل على تفكيك أي إمكانية للتعايش أو الإصلاح أو حتى الاختلاف السلمي.

الآثار المستقبلية المحتملة
على المستوى الإقليمي، من المرجّح أن يسهم هذا النوع من الخطاب في تعميق الانقسام داخل المجتمعات العربية والإسلامية، ليس فقط بين تيارات سياسية أو أيديولوجية متباينة، بل داخل النسيج الاجتماعي ذاته. فالتقسيم الحاد بين “رافضي العنف” و”مبرريه” يخلق استقطابًا أخلاقيًا حادًا، يُضعف المساحات الوسطى، ويقوّض أي إمكانية لنقاش عقلاني حول قضايا المقاومة، والعدالة، والحقوق. ومع الوقت، يتحول هذا الاستقطاب إلى صراع هويات داخلي، يستهلك المجتمعات أكثر مما يواجه خصومها الخارجيين.
وفي السياق ذاته، يوفّر تصاعد هذا الخطاب ذريعة جاهزة للأنظمة ذات المقاربة الأمنية الصلبة لتوسيع دوائر القمع تحت شعار “مكافحة الإرهاب”. فغياب التمييز بين العنف العابر للحدود والعمل السياسي السلمي يسمح بتسويغ إجراءات استثنائية، وتقييد الحريات، وتجريم المعارضة، بما يخلط عمدًا بين النقد المشروع والتطرّف العنيف. وبهذا المعنى، يصبح خطاب التنظيم – من حيث لا يدّعي – شريكًا موضوعيًا في إضعاف المجال العام، وإغلاق مسارات الإصلاح السلمي.
كما يترتب على هذا الخطاب تشويه ممنهج لأي خطاب مقاومة سياسي مشروع، إذ يجري ربطه تلقائيًا بالإرهاب العابر للحدود، سواء في الوعي الدولي أو حتى في بعض البيئات المحلية. هذا الخلط لا يخدم سوى الأطراف التي تسعى إلى نزع الشرعية عن أي شكل من أشكال المقاومة أو المطالبة بالحقوق، ويقوّض قدرة الفاعلين السياسيين غير العنيفين على الدفاع عن قضاياهم. ومع تكرار هذا النمط، تصبح القضايا العادلة نفسها رهينة لخطابات متطرفة اختطفتها وأفرغتها من مضمونها الأخلاقي.
أما على المستوى العالمي، فمن المتوقع أن يؤدّي استمرار هذا النوع من التحريض إلى تعزيز موجات الإسلاموفوبيا والاشتباه الجماعي بالمسلمين، خصوصًا في المجتمعات الغربية. ويترافق ذلك مع تشديد قوانين اللجوء والهجرة، وتوسيع صلاحيات المراقبة، وزيادة الضغوط على الجاليات المسلمة، التي تجد نفسها عالقة بين عنف التنظيمات المتطرفة من جهة، وسياسات الشك والإقصاء من جهة أخرى. وفي الوقت نفسه، يرسّخ الخطاب نموذج “الإرهاب الفردي” بوصفه التهديد الأمني الأكثر إرباكًا، لا لقوته الفعلية، بل لعدم قابليته للتنبؤ، وهو ما يدفع الدول إلى تبنّي مقاربات أمنية أكثر شمولًا وأقل تمييزًا، بما يحمله ذلك من كلفة إنسانية وسياسية بعيدة المدى.

التأثير على تنامي التطرف والإرهاب
تمثّل افتتاحية النبأ نموذجًا بالغ الخطورة لما يمكن تسميته بـالتطرف الدعائي، وهو نمط من التطرف لا يعتمد على التنظيم الهرمي أو البنية الصلبة بقدر ما يرتكز على الخطاب بوصفه أداة تعبئة مستقلة بذاتها. في هذا النموذج، لا يكون الهدف بناء تنظيم واسع أو السيطرة على أرض، بل خلق مناخ نفسي وفكري يجعل العنف خيارًا “مفهومًا” أو “مقبولًا” لدى أفراد معزولين. الخطورة هنا لا تكمن في القدرة العملياتية، بل في القدرة على إعادة تعريف العنف كاستجابة طبيعية للواقع.
ولا تُنتج مثل هذه الخطابات جيوشًا منظّمة بقدر ما تُنتج قابلية للعنف، وهي حالة نفسية-ذهنية تسبق الفعل الإجرامي وتسهّله. هذه القابلية تتشكّل خصوصًا لدى فئات تعيش على هامش المجتمع أو تشعر بانقطاع عن محيطها، مثل شباب يعانون العزلة النفسية أو فقدان المعنى، أو أفراد يختبرون شعورًا متراكمًا بالاغتراب والظلم دون قنوات صحية للتعبير أو الفهم. الخطاب لا يمنح هؤلاء حلولًا، بل يقدّم لهم تفسيرًا تبسيطيًا للعالم وعدوًا جاهزًا، وهو ما يمنحه جاذبية مضللة.
كما تستهدف الافتتاحية شريحة واسعة من المتلقين المتأثرين بمشاهد الحروب والعنف، خصوصًا في سياقات مثل غزة، دون امتلاك أدوات تحليل عقلاني أو سياسي تمكّنهم من فهم التعقيدات المحيطة بهذه الصراعات. في هذه الحالة، يتم اختزال المأساة الإنسانية إلى وقود تعبوي، ويُستثمر الغضب الأخلاقي المشروع ليُعاد توجيهه نحو عنف عشوائي منفصل عن أي أفق سياسي أو إنساني. وهنا يتحوّل التعاطف إلى انفعال خام، يسهل توظيفه في اتجاهات مدمّرة.
وبهذا المعنى، فإن خطر النص لا يكمن في قوته الإقناعية العميقة أو في تماسكه الفكري، بل في بساطته التحريضية وقدرته على اختصار الطريق بين الشعور بالغضب والفعل الدموي، دون وسائط تنظيمية أو نقاشات داخلية أو مراجعات أخلاقية. هذا الاختصار هو ما يجعل الخطاب بالغ الخطورة، لأنه يقلّل العتبة النفسية لارتكاب العنف، ويحوّل الفرد من متلقٍ سلبي إلى فاعل محتمل، في سياق عالمي باتت فيه الكلمات – حين تُصاغ بهذا الشكل – قادرة على إحداث أثر تدميري يفوق أحيانًا أثر السلاح نفسه.

خاتمة
افتتاحية النبأ ليست إعلان قوة، بل وثيقة قلق أيديولوجي، تحاول عبر الضجيج اللفظي إخفاء مأزق عميق: تنظيم بلا دولة، وبلا حاضنة شعبية، وبلا أفق سياسي.
هي محاولة أخيرة لإعادة تعريف الإرهاب بوصفه “فضيلة”، والقتل بوصفه “تدينًا”، في عالم بات – رغم كل تناقضاته – أكثر وعيًا بخطر هذا الخطاب.
إن مواجهة هذا النوع من التطرف لا تكون فقط أمنيًا، بل فكريًا وإعلاميًا، عبر تفكيك لغته، وكشف تناقضاته، وحرمانه من أخطر أسلحته: القدرة على ادّعاء المعنى.

شارك