الجمهورية السلفية: أموال السلفيين.. كيف بُنيت الإمبراطوريات الدينية؟

السبت 20/ديسمبر/2025 - 09:27 م
طباعة الجمهورية السلفية: حسام الحداد
 
المال يُعدُّ أساسًا عمليًا لتمكين الحركات السلفية من إنشاء وبناء شبكات مؤسسية واسعة تشمل المساجد، والمدارس، والمراكز الدعوية، والمعاهد الشرعية التي تُقدّم التعليم الديني والخدمات الاجتماعية. هذه المؤسسات تحتاج إلى موارد مالية ثابتة ليس فقط للبناء، بل أيضًا للصيانة ودفع رواتب العاملين فيها، وهو ما لا يمكن تحقيقه بفعالية دون رأس مال كافٍ. التمويل يوفّر قدرة تلك الحركات على الانتشار المكاني والاجتماعي بشكل أوسع من مجرد نشاط دعوي فردي أو عابر، مما يساهم في تعزيز حضورها في المجتمع عبر الزمن. دراسات عن الدعم المالي للسلفية تشير إلى أن الأموال التي تُقدَّم إلى هذه المؤسسات تُستخدم بشكل ممنهَج لتقوية بنيتها التنظيمية وإمكانات تأثيرها في المجتمع المحلي والعالمي. 
المال لا يقتصر دوره على بناء البنى التحتية فحسب، بل يدخل في الأنشطة الدعوية والاجتماعية التي تُستخدم لبناء علاقة وثيقة مع المجتمع. التمويل يمكّن من تنظيم دورات تعليمية، برامج اجتماعية، مؤتمرات، مساعدات للفقراء والمحتاجين، ما يكسب الحركات السلفية شرعية اجتماعية ويزيد من جاذبيتها لدى شرائح مختلفة من الناس. هذه المشاريع الاجتماعية تُحوِّل الحركة من مجرد تيار فكري إلى بنية مجتمعية فاعلة يمكنها التفاعل مع احتياجات الناس اليومية، وهو ما يوسع قاعدة التأييد والدعم الشعبي لها. 
علاوة على ذلك، يوفر التمويل موارد لتوظيف المدرِّسين والدعاة، ودفع رواتبهم، وإرسال بعثات للدراسة أو التدريس، وإصدار كتب ومنشورات، وإنتاج محتوى إعلامي. هذا يسمح للحركة السلفية ليس فقط بالاستمرار داخل حدود دولة واحدة، بل أيضًا بالتحول إلى حركة عابرة للحدود مع تأثير فكري في دول متعددة. في بعض الحالات، استُخدم التمويل لبناء مدارس وجامعات تدرّج الطلبة في مناهج الحركة نفسها، مما يخلق جيلًا جديدًا من الدعاة المموَّلين الذين يعززون الفكرة نفسها في مجتمعاتهم. هذا الجانب من التمويل يُعد جزءًا من استراتيجية أوسع لنشر المرجعية الدينية وفق رؤية فكرية محددة. 
أخيرًا، المال يتيح للحركات السلفية المشاركة في الحياة العامة والسياسية من خلال دعم حملات توعية، وتمويل منظمات مجتمع مدني مرتبطة بها، وتجهيز بنيتها التنظيمية للمنافسة السياسية عندما تتحول من نشاط دعوي فقط إلى نشاط مؤسسي وسياسي. وجود موارد مالية قوية يساعد هذه الحركات على الاستدامة المؤسسية والاستقلالية النسبية، خاصة في فترات الانتقال السياسي أو الانفتاح الاجتماعي (مثل ما حدث في بعض دول الربيع العربي). لذلك فإن تأمين التمويل لم يعد مجرد وسيلة دعم بنية تحتية، بل أصبح أداة نفوذ واستمرار وتوسع اجتماعي وسياسي. 

التمويل الخليجي منذ السبعينيات: أموال النفط وتحويلات «الزكاة» والوقف
منذ السبعينيات من القرن العشرين شهدت دول الخليج خصوصًا السعودية والكويت والإمارات ارتفاعًا كبيرًا في عوائد النفط، ما أدى إلى تراكم ثروات حكومية وخاصة ضخمة. هذا الارتفاع لم يقتصر أثره على الاقتصاد فحسب، بل امتدّ لتمويل نشاطات متعددة، من بينها دعم مشاريع دينية عبر مؤسسات حكومية وأهلية. هذا التمويل شمل تقديم موارد مالية لإنشاء برامج دعوية وبناء مؤسسات تعليمية وإغاثية، وهو ما عزز قدرة التيارات الدينية على التوسع خارج حدود تلك الدول. 
دخلت هذه الأموال إلى الحركات الدينية عبر عدة قنوات: أولًا الأوقاف التي تُعدّ من أهم مصادر التمويل المستدام، حيث تُخصّص ممتلكات أو إيرادات لمشاريع دينية وخيرية، وثانيًا التبرعات والزكاة التي تُجمع محليًا سواء من الأفراد أو من مؤسسات تجارية وأثرياء، وثالثًا المنح الدراسية والبعثات التعليمية التي تمّ إرسالها للدراسة في مؤسسات دينية بالخارج أو داخل المنطقة. كل هذه القنوات مكّنت الحركات الدينية من بناء بنية تنظيمية واسعة تشمل مساجد ومدارس ومراكز تعليمية. 
التمويل الخليجي تجاوز حدود الدعم المحلي، إذ لعب دورًا مهمًّا في بناء مساجد ومراكز دعوية في آسيا وأفريقيا وأوروبا وتمويل أنشطة إغاثية ودعوية في الدول التي كان فيها نشاط مناصر للسلفية أو تيارات سلفية محلية. هذا الانتشار لم يتوقف عند البنية التحتية فقط، بل امتدّ إلى دعم الجمعيات الخيرية والمنظمات الطلابية التي نشطت في بلدان أخرى، ما ساعد في نشر نمط دعوي يميل إلى السلفية. بحثات أكاديمية تؤكد أن موارد من جهات حكومية وأهلية خليجية ساهمت في تأسيس شبكات مدرّسة وشبكات مؤسساتية واسعة في بلدان غير خليجية عبر التبرعات والوقف. 
كان لتدفق التمويل أثران متداخلان: الأول توسيع البنى التنظيمية للدعوة بتأسيس مدارس ودور نشر وموارد إعلامية، والثاني نشر وتثبيت مرجعيات فكرية مرتبطة بجهة التمويل. بدعم هذه الموارد الغنية، أصبحت بعض الشبكات الدعوية المتصلة بالتمويل الخليجي قادرة على المنافسة مع المؤسسات الدينية المحلية في تلك الدول، ما أعاد تشكيل التوازنات الدعوية عبر مسارات التعليم والتأثير الاجتماعي. هذا الأمر لم يأتِ بصورة موحدة، لكنه كان عاملاً مهمًا في تعزيز حضور فكر معين داخل الساحات الاجتماعية والدينية في بلدان مختلفة.

تمويل الجمعيات الشرعية وأنصار السنة (نماذج وآليات)
في البدايات التاريخية (ما بعد سبعينيات القرن العشرين) تراكمت لدى دول الخليج إيرادات نفطية ضخمة دفعت قطاعات حكومية وخاصة لإعادة توجيه جزء من هذه الثروة نحو مشاريع دينية وخيرية خارج الحدود. سياسياً واجتماعيًا، كان هذا التمويل وسيلة لتمتين النفوذ الثقافي والديني عبر دعم بناء مساجد ومراكز تعليمية وإرسال بعثات طلابية، وهو أمر وثّقته دراسات تحليلية أوروبية والتي ربطت بين صعود عوائد النفط وانتشار تمويل مؤسساتٍ دينية عبر العالم الإسلامي. 
القنوات الرسمية وغير الرسمية للتمويل كانت متعدِّدة: أوقاف تُخصَّص كأصول تُدرُّ دخلاً مستدامًا، وتبرعات وزكوات تُجمع من مؤسسات وأفراد نافذين، ومنح مباشرة من مؤسسات خيرية أو حكومية إلى جمعيات محلية. هذه الآليات جعلت التمويل قابلًا للاستمرار (عن طريق إيرادات الوقف والإيجارات) وغير مرهون بدورات تبرع قصيرة الأجل، ما أتاح لمشروعات دعوية أن تبني برامج طويلة الأمد ومشروعات بنية تحتية. 
إلى جانب المؤسسات الرسمية، لعبت شبكات متبرعين خاصّين وداعمين شخصيين دورًا كبيرًا: رجال أعمال ومتبرعون أفراد مولّوا إنشاء مراكز دعوية، طباعة كتب، وتمويل بعثات تدريب ودورات، وغالبًا ما تمّ ذلك عبر قنوات غير شفافة أو عبر مؤسسات وسيطة. النتيجة أن جزءًا من هذه الموارد دخل في بناء شبكات محلية قوية من الولاء والامتنان الاجتماعي تجاه المؤسسات المموِّلة. 
الجانب العملي للتمويل تَرَجَم إلى نشاطات اجتماعية واسعة (مدارس، عيادات طبية متنقلة، صناديق زكاة، مساعدات غذائية)، وهي نشاطات تسبّب تلقائياً في تكريس شرعية شعبية للحركات السلفية في مناطق كثيرة: الناس يتعرّفون على الحركة ليس فقط كمرجعية فكرية بل كمزوِّد لخدمات يومية. دراسات ميدانية وتحليلية رصدت كيف أن تقديم الخدمات الاجتماعية يغيّر مواقف الناس ويزيد من قدرة التنظيمات الدينية على التأثير. 
امتدّ التمويل أيضًا إلى دعم بنى معرفية: تمويل كتب ودورات ودور نشر وترجمات ومراكز بحثية صغيرة — ما ساعد على تصدير مرجعية فكرية إلى أماكن لا توجد فيها تقاليد سلفية قبل ذلك. هذا النوع من الإنفاق عادةً ما يكون استراتيجيًا: ليس بناءً ماديًا فحسب بل صناعة خطاب، وتدريب دعاة محليين، وتمويل وسائل إعلامية صغيرة. دراسات تحليلية تناولت أمثلة محددة لهذه الاستراتيجية وتبعياتها. 
أخيرًا، أثر نقص الشفافية والرقابة في بعض الدول على مصير هذه الأموال: غياب قواعد محاسبية ومراجعة خارجية سمح بتحويل موارد من أنشطة خيرية إلى توسيع نفوذ سياسي أو إلى حسابات مُغلقة، كما أن تدخلات لاحقة من دول ومؤسسات أجبرت بعض القنوات على الاختفاء أو التغيّر. تقارير رسمية وتحليلية لاحظت هذا التحوّل في أنماط التمويل ودفعت إلى نقاشات حول ضرورة تنظيم الوقف والتبرعات الراغبة في تمويل نشاطات دينية عبر الحدود.

شيوخ رجال الأعمال: ظهور طبقة تموّل وتتحكم
ظاهرة «شيوخ رجال الأعمال» تعني تحالفات استراتيجية بين رموز دينية بارزة وفاعلين اقتصاديين يمتلكون موارد مالية كبيرة، حيث تسعى كل جهة للاستفادة من الأخرى: الشيوخ يستفيدون من المال والموارد والإمكانيات المؤسسية، ورجال الأعمال يستفيدون من الشرعية الاجتماعية والنفوذ الثقافي والسياسي الذي يُمنحه شيخ ذو تأثير ديني واسع. هذا النوع من التحالفات ليس عابرًا بل يأتي في سياق طويل في المجتمعات التي ينشط فيها التمويل الديني عبر الأوقاف والمؤسسات، حيث تُستخدم الموارد المالية لبناء واستدامة مشروعات دينية واجتماعية واسعة. دراسات حول الوقف والاستثمار الوقفي في العالم الإسلامي تشير إلى أن دمج الأموال الوقفية مع رؤوس الأموال الخاصة يجعل الدين جزءًا من آليات التمويل الاجتماعي والاقتصادي بشكل أوسع. 
إحدى الطرق الرئيسية التي تنشأ فيها هذه العلاقة هي تأسيس وإدارة الأوقاف باسم الشيوخ أو تحت إشرافهم، حيث تُحوَّل ممتلكات أو أصول مالية (عقارات، أراضٍ، مشاريع) إلى وقف يُدرّ دخلًا مستمرًا يُعاد توجيهه لأنشطة دعوية وخيرية. في السياق الحديث أصبحت بعض هذه الأوقاف تُدار بحرفية تجارية لاستدامة عوائدها بدلًا من الاعتماد فقط على التبرعات، مما يجعل للشيوخ دورًا في إدارة موارد مالية كبيرة ويضع رجال الأعمال في مواقع شراكة أو دعم مالي مباشر لهذه الوقفيات. 
جانب آخر من شيوخ رجال الأعمال هو الاستثمار في الإعلام والمنصات الرقمية، حيث يمول رجال أعمال حملات إعلامية أو منصات دعوية تُروِّج لرؤية الشيخ أو توجّهاته الفكرية والاجتماعية. هذه الاستثمارات قد تشمل إنتاج محتوى رقمي، قنوات تلفزيونية أو إذاعية، وإصدارات مطبوعة، وحتى فعاليات ومدارس تدريب. التمويل هنا ليس فقط لدعم نشر الفكر، بل لتوسيع دائرة التأثير الاجتماعي والسياسي للشيخ عبر الجمهور، وبهذا يكتسب كل من رجل الأعمال والداعية شبكة علاقات أوسع تعود بالنفع على الطرفين. 
في كثير من الأحيان لا يتوقف التمويل عند التبرع الخيري فقط، بل يتجه إلى مشروعات استثمارية مشتركة بين الدين ورأس المال مثل مشاريع عقارية أو مؤسسات تعليمية أو خدمات اجتماعية مربحة. هذه المشروعات لا تخدم فقط الأهداف الدعوية، بل تخلق دخلًا دائمًا يُعاد تدويره في أنشطة المؤسسة الدينية، ما يحول بعضها إلى ما يشبه صناديق استثمار اجتماعي-ديني. بحوث حول الاستثمار الوقفي الحديثة تؤكد أن دمج الوقف مع الاستثمارات المالية الحديثة يُمكن أن يكون وسيلة مستدامة لتوليد موارد بدلًا من الاعتماد فقط على التبرعات. 
وجود موارد مالية قوية يضفي على الشيوخ نفوذًا اجتماعيًا وسياسيًا؛ فالداعم المالي (رجل الأعمال) ينال بدوره شرعية اجتماعية من خلال دعمه للشخصيات الدينية، كما يمكن أن تُستخدم هذه العلاقات لتسهيل الدخول إلى أروقة صنع القرار أو التأثير في سياسات محلية وإقليمية. في بعض الحالات يصبح شيخٌ ما مرجعية تُستثمر اقتصاديًا واجتماعيًا، في حين يصبح رجل الأعمال مستفيدًا من شبكة علاقات اجتماعية واسعة عبر العمل مع المؤسسة الدينية. 
رغم الفوائد التي يمكن أن تنشأ من شراكات كهذه (استدامة موارد، خدمات اجتماعية، نشر فكر)، إلا أن نقص الشفافية والحوكمة الواضحة يشكّلان تحديًا كبيرًا. غياب الرقابة الرسمية أو معيار قياس موثوق لاستخدام الأموال في كثير من الحالات يفتح بابًا لـ تحول الموارد من دعم مشروعات خدمية إلى توسيع نفوذ شخصي أو شبكات اجتماعية خاصة. هذا الأمر دفع مؤسسات بحثية وأكاديمية إلى الدعوة لوضع أطر تنظيمية واضحة لإدارة هذه الشراكات بين رجال المال والشيوخ لضمان أن الخدمات المقدَّمة تخدم المجتمع ولا تتحوّل إلى أدوات نفوذ غير خاضعة للمساءلة.

بعد الثورة (2011) — دخول أموال جديدة وإعادة ترتيب المشهد
أدّت ثورات 2011، وفي مقدّمتها الحالة المصرية، إلى لحظة انفتاح سياسي ومؤسسي نادرة سمحت بتوسّع غير مسبوق في نشاط منظمات المجتمع المدني، بما فيها الجمعيات الدينية ذات المرجعيات السلفية. هذا الانفتاح ترافق مع تدفّق أموال جديدة تحت عناوين «دعم التحول الديمقراطي» و«التمكين المجتمعي» و«الإغاثة وإعادة الإعمار»، وهو ما وثّقته تقارير بحثية صادرة عن ETH Zurich (Islamic Movements Project) التي رصدت تنامي التمويل العابر للحدود عقب سقوط الأنظمة السلطوية في المنطقة.
خلال الفترة بين 2011 و2013، حصلت جمعيات دينية وخيرية، من بينها جمعيات محسوبة على التيار السلفي، على منح مباشرة وغير مباشرة من مؤسسات خليجية وغربية تعمل في مجالات التنمية والإغاثة. هذه الأموال لم تكن جميعها مخصّصة للعمل الدعوي، بل شملت مشروعات تعليمية وصحية وإغاثية، ما أتاح للجمعيات الدينية التمدد الاجتماعي تحت مظلة العمل الخيري. دراسات Carnegie Endowment for International Peace وBrookings Institution أشارت إلى أن هذا التمويل أسهم في تعزيز الدور المجتمعي للفاعلين الدينيين مقارنة بضعف الدولة في تلك المرحلة.
مع ضعف الأطر الرقابية خلال المرحلة الانتقالية، تحوّل جزء من التمويل المخصّص للعمل الاجتماعي إلى رأسمال تنظيمي: مقار، كوادر، شبكات توزيع، ونفوذ محلي في الأحياء والقرى. تقارير International Crisis Group لاحظت أن الجمعيات الدينية، ومنها السلفية، استطاعت استثمار العمل الإغاثي لتكريس حضور دائم في المجتمع، وهو ما جعلها أكثر جاهزية للدخول في المجال العام لاحقًا، سواء سياسيًا أو دعويًا.
في مصر، شكّل تأسيس حزب النور السلفي بعد 2011 نموذجًا واضحًا لكيفية انتقال تيار دعوي إلى العمل السياسي. هذا التحوّل تطلّب ميزانيات كبيرة لتغطية الحملات الانتخابية، إنشاء مقار حزبية، إدارة شبكات إعلامية، وتنظيم قواعد انتخابية. تحليلات صادرة عن Carnegie Middle East Center وFriedrich Ebert Stiftung أكدت أن هذا الانتقال لم يكن ممكنًا دون الاعتماد على شبكات تمويل سابقة (دعوية وخيرية) جرى تكييفها لخدمة العمل السياسي.
مصادر تمويل النشاط السياسي السلفي بعد الثورة كانت هجينة: تبرعات محلية من رجال أعمال متعاطفين، موارد متراكمة من العمل الدعوي والخيري، ودعم غير مباشر من شبكات خارجية عبر مؤسسات أو وسطاء. ملفّات ETH Zurich تشير إلى أن غياب الفصل الواضح بين الدعوي والسياسي سمح بانتقال الموارد بسهولة من المجال الخيري إلى المجال الحزبي، دون شفافية كافية أو مساءلة واضحة.
ابتداءً من 2013، ومع إعادة إحكام الدولة قبضتها على المجال العام، خضع التمويل الديني والسياسي لرقابة أشد، ما أدى إلى اختفاء جزء من التدفقات المالية أو إعادة توجيهها عبر قنوات أقل ظهورًا. تقارير Human Rights Watch ومبادرة الإصلاح العربي تشير إلى أن هذا التحول لم يُنهِ الشبكات التي تشكّلت بعد 2011، لكنه أعاد ترتيبها: تقليص العمل السياسي العلني، والعودة إلى العمل الاجتماعي والدعوي كمساحة أقل كلفة وأكثر أمانًا.

إلى أين اختفت الأموال؟ — الشفافية، الاحتواء، والصراع على الموارد
السؤال عن مصير الأموال التي تدفقت بعد 2011 لا يمكن فصله عن ضعف البنية المؤسسية والرقابية التي حكمت عمل كثير من الجمعيات الدينية والخيرية. عدد كبير من هذه المؤسسات لم يكن ملزمًا بنشر ميزانيات مفصلة أو الخضوع لمراجعة حسابات مستقلة، ما خلق بيئة تسمح بتسييل الموارد بعيدًا عن أهدافها المعلنة. تقارير Human Rights Watch ومبادرة الإصلاح العربي أشارت إلى أن غياب الشفافية في القطاع الأهلي الديني شكّل ثغرة مزمنة استُغلّت سياسيًا واقتصاديًا بعد الثورات.
في ظل هذا الغموض، تحوّل جزء من التمويل الموجَّه للعمل الخيري إلى رأسمال نفوذ: تمويل علاقات محلية، شراء ولاءات اجتماعية، أو دعم أنشطة سياسية غير مُعلنة. دراسات International Crisis Group رصدت كيف استُخدمت الجمعيات الدينية كوسيط اجتماعي بين المواطن والدولة، وهو ما منح القائمين عليها سلطة فعلية على توزيع الموارد والخدمات، بعيدًا عن الرقابة المؤسسية.
أحد أبرز أسباب “اختفاء” الأموال كان غياب الفصل بين النشاط الدعوي والنشاط السياسي. موارد جُمعت تحت لافتة الزكاة أو الإغاثة أُعيد توجيهها – بشكل مباشر أو غير مباشر – لدعم كيانات سياسية ناشئة أو حملات انتخابية أو بنى تنظيمية. تقارير Carnegie Middle East Center وETH Zurich (Islamic Movements Project) أوضحت أن المرحلة الانتقالية سمحت بانتقال سهل للأموال بين المجالات الثلاثة: الخيري، الدعوي، والسياسي.
مع انتهاء المرحلة الانتقالية وبدء إعادة بناء الدولة لسلطتها، لجأت حكومات عدة إلى إجراءات احتواء وتنظيم صارمة: تجميد حسابات جمعيات، فرض رقابة مالية، حلّ منظمات، أو سنّ قوانين تقيد التمويل الأجنبي. تقارير Freedom House وHuman Rights Watch وثّقت أن هذه السياسات أدت إلى توقف مفاجئ أو اختفاء علني لتدفّقات مالية كانت نشطة قبل سنوات قليلة.
غير أن هذه الإجراءات لم تؤدِّ إلى اختفاء المال بقدر ما أدّت إلى تغيير مساراته. جزء من التمويل انتقل إلى قنوات أقل وضوحًا: أفراد، شبكات غير رسمية، أنشطة اقتصادية صغيرة، أو أوقاف خاصة يصعب تتبعها. دراسات صادرة عن German Institute for International and Security Affairs (SWP) تشير إلى أن تشديد الرقابة غالبًا ما يدفع الفاعلين الدينيين إلى التحايل بدل الانسحاب الكامل من المجال.
أخيرًا، لا يمكن تجاهل أن جزءًا من الأموال “اختفى” بسبب صراعات داخلية بين تيارات دينية متنافسة أو بين الجمعيات نفسها، خاصة مع تقلّص التمويل واتساع الرقابة. تقارير بحثية لـ Brookings Institution تشير إلى أن إعادة ترتيب المجال الديني بعد 2013 لم تكن فقط بين الدولة والتيارات الدينية، بل أيضًا صراعًا داخليًا على من يملك الموارد، ومن يحتفظ بالقدرة على الاستمرار.

أمثلة ملموسة (مختصرة)
من أبرز الأمثلة الملموسة على توظيف المال في خدمة التيارات السلفية تمويل بناء المساجد والمراكز الدينية في دول عربية وأفريقية وآسيوية، عبر وقفيات خليجية أو تبرعات أثرياء. هذه المساجد لم تكن أماكن عبادة فقط، بل تحولت إلى مراكز تعليم غير رسمي تُدرَّس فيها مناهج سلفية محددة. تقارير البرلمان الأوروبي حول انتشار الوهابية والسلفية تشير إلى أن تمويل البنية التحتية الدينية كان من أكثر أدوات التأثير فاعلية في ترسيخ خطاب ديني بعينه داخل مجتمعات محلية فقيرة أو مهمّشة.
إلى جانب المساجد، جرى تمويل معاهد دينية ومراكز تحفيظ وتعليم شرعي، بعضها يعمل خارج الأطر الرسمية لوزارات التعليم. هذه المؤسسات أتاحت تخريج أجيال من الدعاة المحليين المرتبطين فكريًا بالجهة المموِّلة. دراسات Carnegie Endowment for International Peace تؤكد أن التعليم الديني غير الرسمي كان أحد المسارات الأساسية لتحويل التمويل إلى نفوذ طويل الأمد يتجاوز عمر المشروع نفسه.
في مناطق عديدة، ارتبط بناء المساجد والمراكز التعليمية بإنشاء عيادات خيرية، مراكز إغاثة، ومدارس منخفضة التكلفة، ما عزّز قبول المجتمعات المحلية لهذه المؤسسات. هذا النموذج – بحسب International Crisis Group – جعل التيارات السلفية حاضرة بوصفها فاعلًا خدميًا، لا مجرد تيار وعظي، وساعدها على بناء قاعدة اجتماعية متماسكة يصعب تفكيكها لاحقًا.
التحول من النشاط الدعوي إلى العمل السياسي تطلّب موارد ضخمة. في الحالة المصرية، مثلًا، تطلّب تأسيس حزب النور السلفي بعد 2011 تمويلًا لتجهيز مقار، إدارة حملات انتخابية، إنتاج مواد دعائية، وتنسيق شبكات دعم محلية. تحليلات Carnegie Middle East Center تشير إلى أن هذه الموارد لم تنشأ من فراغ، بل اعتمدت على شبكات تمويل دعوية وخيرية سابقة أُعيد توظيفها سياسيًا.
الموارد السياسية لم تأتِ فقط من الخارج، بل أيضًا من تبرعات رجال أعمال محليين رأوا في الأحزاب السلفية فرصة لبناء نفوذ اجتماعي أو حماية مصالحهم. في الوقت نفسه، لعب الدعم الخارجي غير المباشر (عبر جمعيات أو أفراد) دورًا في سدّ فجوات التمويل. تقارير ETH Zurich – Islamic Movements Project وثّقت هذا النمط الهجين من التمويل الذي يصعب تتبّعه أو فصله بوضوح بين المحلي والخارجي.
هذه الأمثلة الملموسة توضح أن المال لم يكن عنصرًا ثانويًا، بل شرطًا بنيويًا لتحوّل التيارات السلفية من مجموعات دعوية إلى فاعلين اجتماعيين ثم سياسيين. بناء المساجد، إدارة التعليم، تقديم الخدمات، ثم خوض الانتخابات، كلها مراحل احتاجت إلى تدفقات مالية منظمة. خلاصة دراسات Brookings Institution تؤكد أن من دون هذه الموارد، ما كان لهذا التحول السريع أن يتحقق خلال فترة قصيرة بعد 2011.

الخلاصة والتوصيات 
تعزيز الشفافية: إلزام المؤسسات الدينية والجمعيات الخيرية بنشر تقارير مالية سنوية ومصادر التمويل.
تقنين أطر الوقف: تحديث قوانين الأوقاف لتمنع استغلالها كقنوات تمويلية غير خاضعة للمساءلة، مع حماية الوظائف الخيرية الحقيقية. 
تنسيق رقابي دولي-إقليمي: التعاون مع شركاء دوليين لتتبع تمويلات قد تُستخدم لأغراض سياسية أو متطرفة، مع الحفاظ على المساعدات الإنسانية المشروعة. 
دعم المجتمع المدني المستقل: تمويل مشاريع محلية شفافة تعمل على التنمية والتعليم والحدّ من الفراغ الاجتماعي الذي تستغله الحركات المتشددة.

كيف بُنيت الإمبراطوريات الدينية

شارك