السلفيون والأمن.. من الاحتواء السياسي إلى الضبط الاجتماعي

الخميس 25/ديسمبر/2025 - 12:33 ص
طباعة السلفيون والأمن.. حسام الحداد
 
تمثل العلاقة بين الأجهزة الأمنية والتيارات السلفية في المنطقة العربية، ومصر على وجه الخصوص، واحدة من أكثر الملفات إثارة للجدل في تاريخ السياسة والاجتماع المعاصر. هذه العلاقة التي بدأت ملامحها تتشكل بوضوح منذ سبعينيات القرن الماضي، لم تكن يوماً علاقة عفوية، بل كانت "هندسة أمنية" دقيقة خضعت لحسابات موازين القوى وصراع الشرعيات بين السلطة والمعارضة.
على مدار عقود، انتقل السلفيون من خانة "الملاحقين" إلى خانة "المسموح لهم"، وفي أحيان أخرى إلى "الحلفاء الضروريين". هذه السيولة في العلاقة تعكس براجماتية متبادلة؛ فالأمن يرى في السلفية أداة لتفتيت الكتل الإسلامية الصلبة، بينما يرى السلفيون في التفاهمات الأمنية مظلة تحمي وجودهم الدعوي وتمنحهم مساحة للحركة في الفضاء العام مقابل ثمن سياسي محسوب.
إن تحليل هذا الملف يتطلب تجاوز النظرة السطحية التي ترى السلفية مجرد حركة دينية، إلى رؤية أعمق تعتبرها متغيراً سياسياً تم استخدامه بوعي في "لعبة التوازنات". لقد كانت السلفية، ولا تزال، بمثابة "صمام أمان" أحياناً، و"قنبلة موقوتة" أحياناً أخرى، وفقاً لبوصلة الأجهزة الأمنية التي حاولت تدجين هذا المارد واستخدامه في مواجهات كبرى ضد خصومها.
يسعى هذا المقال إلى تفكيك هذه العلاقة المعقدة عبر أربعة محاور أساسية، تبدأ بأساس التمدد السلفي، مروراً بملفات التعاون الأمني، وصولاً إلى الانقسامات داخل الأجهزة السيادية حول هذا الملف، وانتهاءً ببحث مدى فاعلية السلفية كأداة للضبط الاجتماعي والسيطرة على الجماهير.

أولاً: لماذا "سُمح" بتمدد السلفية في بعض الفترات؟
كان قرار السماح بتمدد السلفية في السبعينيات، في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، نابعاً من رغبة السلطة في إيجاد "بديل عقدي" يواجه تمدد التيارات اليسارية والناصرية في الجامعات والمصانع. رأت الأجهزة الأمنية حينها أن السلفية التقليدية، التي تنكفئ على العقيدة والعبادات، هي الترياق الأنسب لمواجهة "الأيديولوجيات الثورية" التي كانت تهدد استقرار النظام السياسي الناشئ بعد الحقبة الناصرية.
وفي الثمانينيات والتسعينيات، ومع اشتعال المواجهة بين الدولة والجماعات الجهادية العنيفة، سُمح للسلفية بالانتشار كنوع من "التنفيس الديني" الآمن. كان المنطق الأمني يقوم على أن السلفي الذي ينشغل بتقصير الثوب وتربية اللحية وتفاصيل الفقه الفرعي، أقل خطورة بكثير من "الإسلامي الحركي" الذي يسعى للوصول إلى مقعد الحكم أو الانقلاب على مؤسسات الدولة.
لعبت المساجد والزوايا السلفية دور "المستوعب" للشباب المتدين، حيث وفرت لهم هوية إسلامية واضحة بعيداً عن التنظيمات السرية. هذا السماح كان مشروطاً بـ "الصمت السياسي"، وهو ما التزم به السلفيون لعقود تحت شعار "عدم الخروج على ولي الأمر"، مما جعلهم في نظر الأمن حليفاً سلبياً مفيداً يمتص الشحنات الدينية الغاضبة ويحولها إلى قضايا عقائدية مجردة.
ساهم التمويل الخليجي والنموذج السلفي القادم من المملكة العربية السعودية في هذا التمدد، حيث غضت الأجهزة الأمنية الطرف عن تدفق الأموال لبناء الجمعيات والمساجد والمستشفيات السلفية. كان الهدف هو ملء الفراغ الذي خلفته الدولة في الخدمات الاجتماعية، ومنع جماعة الإخوان المسلمين من احتكار هذا الفضاء الحيوي الذي يشكل خزان الأصوات الانتخابية والولاءات الشعبية.
خلال العقد الأخير من حكم مبارك، وصل هذا التمدد إلى ذروته عبر الفضائيات الدينية السلفية. لم تكن هذه القنوات لتستمر لولا "موافقة أمنية" صريحة، حيث استُخدمت هذه المنابر لمهاجمة الفكر الشيعي، ومواجهة الخطاب الليبرالي، وحتى انتقاد الإخوان المسلمين في عز قوتهم، مما جعل السلفية شريكاً "غير رسمي" في صياغة الوعي الديني العام بما يخدم استقرار النظام.
بشكل نقدي، يمكن القول إن "السماح" لم يكن مجانياً، بل كان "مقايضة"؛ مساحة للدعوة مقابل الولاء أو الحياد السياسي. هذا التمدد المحمي أمنياً خلق "دولة داخل الدولة" في بعض المناطق الشعبية، حيث أصبح المشايخ هم المرجعية الوحيدة، مما أدى لاحقاً إلى صعوبة السيطرة على هذه القواعد حين انفجرت الأوضاع في يناير 2011، وتداخلت الخطوط بين ما هو دعوي وما هو سياسي.

ثانياً: ملفات التعاون الأمنية في مواجهة الإخوان والجماعات الجهادية
تمثل العلاقة بين السلفية والأمن في مواجهة "الإخوان المسلمين" ذروة التوظيف السياسي للدين. تاريخياً، ترى السلفية في الإخوان جماعة "مبتدعة" تغلّب السياسة على العقيدة، وهو خلاف منهجي استغلته الأجهزة الأمنية ببراعة. استُخدم الخطاب السلفي لتفكيك أطروحات الإخوان حول "الحاكمية" و"الخلافة"، وتصويرهم كمغامرين يسعون للسلطة على حساب استقرار الأمة.
في المواجهة مع الجماعات الجهادية (مثل القاعدة وحركات العنف المحلّي)، لعبت السلفية العلمية دور "خط الدفاع الفكري الأول". اعتمدت الأجهزة الأمنية على شيوخ السلفية لإجراء "مراجعات فكرية" داخل السجون، وإقناع المقاتلين السابقين بأن العنف ليس من المنهج السلفي. هذا التعاون كان حيوياً للأمن لأنه يضرب "التطرف" بسلاح "الأصولية"، مما يجعل الحجة الدينية أقوى تأثيراً.
برز دور "السلفية المدخلية" كأحد أهم ملفات التعاون الأمني؛ فهذا التيار الذي يرى في طاعة ولي الأمر (حتى لو كان ظالماً) واجباً شرعياً، تحول إلى أداة للهجوم الشرس على أي حراك معارض. كانت التقارير الأمنية تشيد بهؤلاء لقدرتهم على اختراق المجموعات الإسلامية وتقديم معلومات دقيقة حول التوجهات الحركية داخل المساجد، مما جعلهم "عيوناً" غير معلنة للأجهزة الأمنية.
بعد أحداث يونيو 2013، ظهر التعاون في أبهى صوره عبر "حزب النور". كان وجود الحزب في مشهد 3 يوليو ضرورة أمنية وسياسية لإظهار أن الصراع ليس مع "الإسلاميين"، بل مع "الإخوان". هذا الدور كسر العزلة الدولية عن النظام الجديد ووفر له غطاءً شرعياً محلياً، مقابل استمرار النشاط السلفي في القرى والمدن تحت مراقبة أمنية لصيقة وموجهة.
على صعيد "المعلومات"، وفرت القواعد السلفية المنتشرة في أطراف الدولة للأجهزة الأمنية رصداً دقيقاً للتغيرات في الشارع. فالسلفيون بحكم تواجدهم اليومي في المساجد، كانوا أول من يلحظ تحركات خلايا "داعش" أو "الإخوان" في المناطق النائية. هذا النوع من "الاستخبارات الشعبية" جعل الأمن يغض الطرف عن بعض التجاوزات السلفية في مقابل الحصول على الأمن المعلوماتي الاستراتيجي.
ومع ذلك، يظل هذا التعاون محفوفاً بالمخاطر؛ فالأجهزة الأمنية تدرك أن السلفيين "حلفاء بالضرورة" وليسوا "حلفاء بالهوية". هذا التوجس الدائم يجعل التعاون خاضعاً لمنطق "القطعة"، أي التعاون في ملفات محددة (مثل مواجهة الإرهاب) مع الحفاظ على قيود صارمة تمنع السلفيين من التحول إلى قوة سياسية مستقلة قادرة على فرض شروطها على الدولة.

ثالثاً: الصراع داخل الأجهزة حول السلفيين
لم تكن نظرة الأجهزة السيادية (أمن الدولة، المخابرات العامة، المخابرات الحربية) تجاه السلفيين موحدة أبداً، بل خضعت لصراع رؤى وأولويات. تاريخياً، كان "جهاز أمن الدولة" يميل إلى سياسة "الاحتواء والتوظيف"، حيث يرى في السلفيين أداة توازن. بينما كانت هناك أصوات داخل أجهزة أخرى تحذر من أن السلفية هي "الحاضنة" التي تفرخ المتطرفين، وأن الفوارق بين السلفي الهادئ والجهادي العنيف هي فوارق في "التوقيت" لا في "الجوهر".
هذا الصراع ظهر بوضوح بعد ثورة 2011؛ فبينما كانت بعض التقارير الأمنية توصي بدمج السلفيين في العمل الحزبي لترويضهم (نموذج حزب النور)، كانت هناك أجنحة أمنية أخرى ترى في ذلك خطراً وجودياً على مدنية الدولة. هذا "الارتباك المؤسسي" سمح للسلفيين بالحصول على مكاسب سياسية كبيرة في دستور 2012، حيث استغلوا التنافس بين الأجهزة لفرض رؤيتهم.
داخل "جهاز الأمن الوطني"، يدور نقاش دائم حول "جدوى السلفية المدخلية". يرى فريق أنها صمام أمان يضمن طاعة الجماهير، بينما يرى فريق آخر أنها تخلق حالة من "الاحتقان المكتوم" الذي قد ينفجر في أي لحظة بشكل غير متوقع. هذا الصراع ينعكس في كيفية التعامل مع الشيوخ؛ فبينما يُسمح للبعض بالخطابة، يُمنع آخرون من نفس التيار بناءً على تقديرات أمنية متضاربة.
برز الصراع أيضاً حول ملف "الاختراق السلفي لمؤسسات الدولة". كانت هناك تقارير تحذر من تغلغل الفكر السلفي داخل القضاء، والشرطة، والجيش، عبر روابط قرابة أو تأثيرات دعوية. هذا التخوف دفع بعض الأجهزة إلى تشديد الرقابة على "التدين الظاهري" داخل مؤسساتها، مما خلق نوعاً من التوتر المكتوم بين "الولاء الوظيفي" و"الانتماء العقدي".
أيضاً، هناك تباين في التعامل مع "السلفية القطبية" أو "الحركية". فبينما تميل بعض الأجهزة إلى القمع الشامل لها، ترى أجهزة أخرى ضرورة إبقاء "شعرة معاوية" معها لاستخدامها كقناة تواصل مع المجموعات الأكثر راديكالية. هذا "اللعب على الحبال" يجعل السياسة الأمنية تجاه السلفيين تبدو أحياناً متناقضة، حيث يُقبض على كادر سلفي في مدينة، ويُكرم شيخه في مدينة أخرى.
ختاماً، يمكن وصف العلاقة بأنها "إدارة للأزمة" وليست "حلاً لها". فالصراع داخل الأجهزة يعكس حقيقة أن الدولة لم تحسم بعد موقفها النهائي من السلفية: هل هي "شريك وطني" أم "تهديد مؤجل"؟ هذا التردد المؤسسي هو ما يمنح السلفية قدرة على البقاء والمناورة، مستغلة الثغرات في الرؤية الأمنية الموحدة.

رابعاً: هل السلفية كانت أداة ضبط اجتماعي؟
تعتبر السلفية، من وجهة نظر سوسيولوجية وأمنية، واحدة من أقوى أدوات "الضبط الاجتماعي" في المجتمعات الفقيرة والمهمشة. فمن خلال خطاب يركز على "الأخلاق الفردية"، و"الحجاب"، و"السمت الديني"، و"الزهد"، تساهم السلفية في تحويل الغضب الطبقي والسياسي إلى "طاقة تعبدية". بدلاً من أن يطالب الفرد بحقوقه السياسية، ينخرط في معارك "الفضيلة" داخل حارته أو قريته.
لعب السلفيون دور "شرطة الآداب الشعبية"، وهو ما وفر على الأجهزة الأمنية عبء ملاحقة الجرائم الأخلاقية في المناطق المكتظة. وجود السلفيين في منطقة ما غالباً ما يعني انخفاضاً في معدلات الجريمة العادية (مخدرات، مشاجرات)، لأن الوازع الديني السلفي يمارس رقابة اجتماعية صارمة على الأفراد، مما يخلق نوعاً من "النظام" الذي يريح الأجهزة الأمنية.
من الناحية السياسية، تكرس السلفية مبدأ "الاستقرار مقدم على التغيير". فتاوى "تحريم المظاهرات" واعتبرها "بدعة" أو "خروجاً"، كانت أداة فتاكة في يد الأمن لإجهاض أي حراك شعبي. لقد نجحت السلفية في إقناع ملايين الشباب بأن الانشغال بالسياسة هو "مضيعة للوقت" وإفساد للقلب، مما ساهم في خلق حالة من "الخمول السياسي" المفيد للأنظمة السلطوية.
كذلك، تعمل السلفية كأداة لـ "تفتيت الهوية الجمعية". فبدلاً من صراع "شعب ضد نظام"، يتحول الصراع إلى "سلفي ضد صوفي"، أو "مسلم ضد مسيحي"، أو "أهل سنة ضد مبتدعة". هذا الانقسام الأفقي في المجتمع يجعل من الصعب تشكيل جبهة وطنية عريضة، ويترك السلطة والأمن في وضع "الحكم" الذي يدير الخلافات بين هذه المكونات المتناحرة.
بشكل نقدي، نجد أن السلفية تساهم في "تغييب الوعي النقدي". فالمصادرة على العقل لصالح النقل، والتبعية المطلقة للشيخ، تخلق شخصية "انقيادية" يسهل السيطرة عليها أمنياً إذا ما تم التحكم في "رأس الهرم" السلفي. هذا الضبط الاجتماعي هو في الحقيقة "تسكين للأوجاع" وليس علاجاً لها، حيث يبقى الاحتقان الاجتماعي موجوداً ولكنه مغلف بغلاف ديني يمنعه من الانفجار السياسي.
ومع ذلك، تظل هذه الأداة "ذات حدين". فعندما تضعف قبضة الدولة، يتحول هذا الضبط الاجتماعي السلفي إلى سلطة بديلة قد تتحدى الدولة نفسها. لقد رأينا في فترات الانفلات الأمني كيف شكل السلفيون "لجاناً شعبية" وفرضوا قوانينهم الخاصة، مما يثبت أن أداة الضبط التي صنعها الأمن قد تنقلب عليه إذا ما تغيرت الظروف أو فقد السيطرة على "أدوات التوجيه".

الخاتمة
في الختام، يظهر ملف "السلفيين والأمن" كرحلة طويلة من المناورات والرهانات المحفوفة بالمخاطر. لم تكن السلفية يوماً مجرد ظاهرة دينية بريئة، كما لم يكن الأمن يوماً حارساً محايداً للفضاء العام. لقد كانت علاقة "تبادل وظيفي" حاول فيها كل طرف استنزاف الآخر لصالح أهدافه الخاصة، في ظل غياب مشروع وطني مدني يستوعب الجميع.
لقد نجحت الأجهزة الأمنية في توظيف السلفية لمواجهة خصومها السياسيين والجهاديين، لكنها في المقابل ساهمت في "سلفنة" المجتمع وتغيير هويته الوسطية لصالح رؤى أكثر انغلاقاً. هذا الثمن الذي دفعته الدولة من رصيدها الثقافي والاجتماعي، يطرح تساؤلات جدية حول جدوى هذه السياسة الأمنية على المدى الطويل، ومدى قدرة المجتمع على التعافي من آثارها.
إن الصراع المكتوم داخل الأجهزة السيادية حول هذا الملف يؤكد أن العلاقة وصلت إلى "طريق مسدود"؛ فلا الدولة قادرة على الاستغناء عن السلفيين كأداة ضبط اجتماعي ومواجهة سياسية، ولا هي قادرة على الوثوق بهم كشركاء حقيقيين. هذه الحالة من "اللا سلم واللا حرب" تجعل الملف السلفي جرحاً مفتوحاً في جسد الدولة الوطنية، مرشحاً للالتهاب مع كل أزمة سياسية جديدة.
أخيراً، يبقى الرهان الحقيقي على بناء "دولة القانون والمواطنة" التي لا تحتاج إلى توظيف الدين في الأمن، ولا إلى توظيف الأمن في الدين. إن استمرار رقصة الأفاعي هذه بين المشايخ والضباط، لن يؤدي إلا إلى مزيد من تآكل المجال العام، وسيبقى السلفيون "ورقة ضغط" في يد السلطة و"لغزاً محيراً" في يد المجتمع، حتى يقرر الجميع العودة إلى قواعد السياسة العادلة بعيداً عن صراعات العقيدة ودهاليز الأمن.

شارك