صيحات التجديد الديني (16)
الخميس 23/أبريل/2015 - 08:32 م
طباعة
وكان أكثر ما يقلق الإمام محمد عبده هو محاولة إغلاق عقول المسلمين بفرض مقولات مسبقة يتعين التسليم بها دون تفكير وتتراكم المقولات الخاطئة والأفكار المتأسلمة والخرافات لتحول العقل الجمعى إلى أداة معطلة. والعقل قرين العلم فلا علم حقيقى دون قدرة على إعمال العقل ومنحه حق الابتكار والإبداع والبحث ونقرأ لمحمد عبده "على المسلم أن يسبح في مملكة العلم ليتمتع عقله، ويسبح في بسيط الأرض ليكتسب رزقه، فالإنسان في الإسلام لم يخلق ليقاد بالزمام، بل فطر على أن يهتدى بالعلم، والمسلمون محفوزون أشد الحفز إلى طلب العلم وتلمسه في كل مكان، وتلقيه في أيه شفة ولسان، فإذا لقاهم عالم في أي سبيل هشوا له وبشوا وشدوبه خواصرهم، وعقدوا عليه خناصرهم، ولا يبالون ما تكون عقيدته، إذا نفعتهم حكمته" (الأعمال الكاملة – الجزء الثالث – صـ299).
ويدرك محمد عبده إدراكًا كاملًا خطر النقل غير الواعى من التراث فالعقل عنده نقيض النقل.. فالإنسان فطر على أن يهتدى بالعلم وعلى هذا فهو مطالب بأن يواكب الأحداث ومستجداتها والعلوم ومكتشفاتها والجديد المتلاحق وإلا صار بالنسبة للحاضر مجرد كم مهمل وانعزل وعزل وطنه عن ركب التقدم. ومن هنا حذر محمد عبده المسلمين "من التعلق بالأفكار والفتاوى والروايات التي احتوتها كتب التراث وإنما يجب إعمال العقل فيها وقبول ما يناسب المعقول وما يستجيب لمتطلبات العصر وما ينهض بالإنسان ذلك أن كتب الأقدمين ليست ملزمة لأحد وعليه أن يتقبل منها ما يلازم ذوقه وعقله ورؤيته ذلك أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان، ولا سلطان لعقول على عقول، ولا لأذهان على أذهان. فقد تم للإنسان المسلم بمقتضى دينه الحقيقى أمران عظيمان هما: استقلال الإرادة واستقلال الرأى والفكر". ووقف محمد عبده أمام مسائل أكثر تعقيدًا مثل الموقف من النص الدينى [القرآن والسنة المؤكدة] ومسائل العقائد والعبادات وما تواتر من أحكام الحلال والحرام في القضايا الحياتية ومستجداتها المتجددة دومًا. وتثور في هذا المجال مسائل النقل والتقليد واختلاف الفقهاء. وحسم الشيخ رأيه فقرر عدم التزام المسلم بالتقليد أو النقل دون أعمال للعقل. واستخدام العقل في التجديد والتأويل والاجتهاد المنفتح على متطلبات العصر والتقدم والمستجدات في مجالات العلم والحياة اليومية والمأكل والملبس، وهو يؤكد "أن الاجتهاد يجب أن ينبع من حالة العصر ومقتضيات الزمان والمكان، وليس هناك أي اجتهاد يلزم المسلم في جميع العصور، فمتى أنقضى العصر وزالت مقتضياته زال معها ما يخصه من الاجتهاد وما رافقه من أحكام. وعلى المسلم أن يتبصر دائمًا في القرآن والسنة ويجتهد في أعمال فكره بما يلائم عصره الذي يعيش فيه، وعليه ألا يتحرج من الاختلاف بين ما يصل إليه باجتهاده وعقله، وبين ما وصل إليه السابقون من المسلمين" [مختارات من أعمال محمد عبده – المرجع السابق – المقدمة – صـ14] واستمتع محمد عبده بحرية العقل والاجتهاد والتأويل في عمله كمفتى للديار المصرية، حيث تراكمت أمامه مسائل ملحة لمواكبة روح العصر وضرورات بناء دولة حديثه تتطلع للمستقبل وتنهض نحو التقدم..
• فأفتى بالسماح بارتداء الزى الأوروبى وبارتداء القبعة فما كان الملبس إلا زينة وأداة تختلف بحسب المقتضيات والمصالح.
• وأفتى بالسماح للمسلم بإيداع أمواله في البنوك والحصول على الفائدة فوضع بذلك الأساس للتعامل المصرفى كأساس للتطور الاقتصادى الحديث.
• وأفتى بجواز التصوير الفوتوغرافى وإقامة التماثيل..(وكان التصوير الفوتوغرافى ضروريًا لاستخراج بطاقات الهوية والجوازات).
• وأفتى بجواز الأكل من ذبائح المسيحيين واليهود فهم أهل كتاب.
• وأفتى بجواز التأمين على الحياة وعلى الممتلكات.
• وأفتى بأن طلب العلم فريضة على المسلم رجلا كان أو امرأة.. ففتح مجال التقدم ومجال تحرير المرأة.
وعشرات غيرها من الفتاوى فتح بها محمد عبده باب الرحمة أمام المسلمين في تعاملاتهم اليومية.. وفتح أمام مصر كلها أبواب الخلاص من قيود التأسلم الظالمة والمظلمة.. والانطلاق إلى الأمام.