حين تنعطف الحركة الإسلامية إلى اليسار
لن
تنحو مقالتي تجاه تحليل اجتهادات حسن حنفي فقيه الإسلام اليساري، ولن أقف عند
إسقاطاتها أو تأويلاتها المتعسفة التي أفرغت الدين من بعديه الروحي والغيبي وطوعت
كل عقائده لأغراض المادة و الثورة. لكني سأقف متأملا السلوك السياسي للحركة الإسلامية
ومتسائلا عن بعض تمظهراته أهي قريبة من
عقيدة أهل اليمين أم هي أكثر انسجاما بفكر دعاة اليسار؟
عادة
ما يميل الإسلاميون إلى التَّيمُّن: يتطلعون إلى أصحاب اليمين، وإلى إتيان كتابهم
باليمين، وينفرون من أصحاب الشِّمال، ولا يشتهون طعاما يؤتى بالشمال، ويتهيبون
حركة تنطلق من الشِّمال. غير أنك تُفاجأ بطائفة من الإسلاميين ينجذبون إلى اليسار،
يغريها أنموذجه وتحاكي نهجه وتستلهم مواقفه.
ألا يدعو ذلك إلى الحديث عن
إسلام يساري كما شاع الحديث عن إسلام سياسي؟ ما مظاهر هذا "الإسلام"
الجديد/ القديم؟ وما سر التقارب المتنامي بين الإسلام واليسار، بالرغم من أن الأول
يدرج الثاني ضمن قاموس منبوذ؟
تجد نزعة "الإسلام
اليساري" مبرر وجودها -قديما أو حديثا- في رفض المعتاد اليومي وتكريس التمايز
السياسي، وتعميق البؤس الاجتماعي. وإذا شهد القرن الماضي تمكينا لليسار وانجذابا
نحو مفاهيمه، فإن الأوان قد حان للعودة إلى الأصل ورد الاعتبار لليمين وتعاليمه
خلال القرن الجاري.
أستهل بمسألة التمايز السياسي
لكونها تختزل مجمل خصائص "الإسلام اليساري"، وأذكر حوارا غابرا جمعني
وأحد دعاة هذا المنهاج. قال لي جازما أن ما جاء في باب الفتن من كتاب صحيح البخاري
كله يدعو إلى الخروج على الإمام(الحاكم)، لم أشك لحظة في صدقه إلا بعد اهتدائي بعد
حين إلى تصفح صحيح البخاري والتوقف منه عند باب الفتن، فذهلت لما وجدت من نصوص
متواترة كلها دعوة إلى الصبر على الطاعة، وحرص على التمسك بالبيعة.
بعدها لم تعد تسترعي
اهتمامي تنظيرات أمثاله عن البيعة
الشرعية، واستغراقاتهم في مواصفاتها وشروطها، فقد رجح عندي بأنهم يرفضون البيعة عن
سابق إصرار وترصد، ويؤثرون عليها وجهة أخرى أو إرثهم الثقيل في التمايز السياسي.
إن أهل الشِّمال لا يطمئنون إلا
إلى نظام يقيمونه بأنفسهم بعد الثورة، ثم يجعلونه فريدا ونهاية للتاريخ، تارة باسم
دكتاتورية البروليتاريا وأخرى باسم الخلافة الراشدة. فلم لا يقولوا بأنهم يريدونها
ديكتاتورية أو خلافة وليرجئوا الاتصاف بالبروليتاريا أو الرشد بعد النجاح في اختبار
ممارسة السلطة؟ !
ثمة مظاهر شتى تعكس حضور إسلام
يساري في المجتمعات الإسلامية السنية، فحين تبني جماعة من المسلمين موقف الولاء
والبراء من باقي الجماعات على أساس الموقف السياسي من الحاكم، فذلك إسلام يساري،
إذ ما الفرق بينها وبين جماعات اليسار التي لم يتوقف انشطارها وتشظيها بسبب
التمركز على الموقف من النظام الحاكم؟ أو ما الفرق بينها وبين شيعة إيران الذين
يجعلون من الحكم والإمامة ركنا يتقدم مباحث العقيدة؟ وإن تشابهت قلوب مريدي الإسلام
اليساري بقلوب معتنقي الإسلام الشيعي، فقد يصح الحديث أيضا عن تسلل إسلام إيراني
إلى بيت أهل السنة والجماعة.
وحين تمتعض جماعة من المسلمين
من تراكم خطوات الإصلاح لكونها تطيل عمر النظام، وتَقْلق لتراجع حدة الاحتقان
الاجتماعي، وتراهن على التوتر والأزمات، فلا شك في أنها جماعة إسلام يساري.
وإذا تردد هؤلاء في السعي إلى
قضاء حوائج الناس وحماية مصالح المؤمنين، وتركزت عنايتهم على صوارم السياسة وتهديد
إمارة المؤمنين، فاعلم أن مرد ذلك إلى عقيدة إسلام الشِّمال.
وكلما اشتد اهتمام القوم بإقامة
الدولة، وضمر فيهم حس إقامة الدين، أو تسلل إلى وجدانهم شرط إقامة الدين مقدمةً
لإقامة الدولة، كانوا أقرب فكرا إلى إسلام الشِّمال.
وإذا رأيت أناسا يؤثرون ظهورا
بالقضية على شرف إظهار القضية، أو بلغ بهم جنون التمايز إلى التضامن مع المستضعفين
راغبين عن مشاركة كافة أطياف المجتمع، ولم ينتبهوا إلى أن أكثر ما تحتاجه هذه
القضايا إظهار الإجماع لا تكريس الشرود، وإن لم نُقِم وزنا لباقي المتضامنين
وتشكّكنا نواياهم، فاعلم أنك أمام إسلام
يساري.
وإجمالا إذا سمعت كلاما محوريا عن الذات
وتهميشا غير مبرر للموضوع فلا تتردد بوصفه كلام إسلام يساري.
أعلم أن الدين عند الله
الإسلام، ولا يصح لي التصنيف فيه، وما دفعني إلى هذا المسعى الغريب جنوح بعض
المسلمين إلى نحت إيديولوجيا خاصة داخل البيت الإسلامي، إذ ليس بوسعي إقصاءهم من
دائرة الإسلام، لكن لا أتوقع في المقابل إنكارا يصادر رغبتي في نقد وتوصيف اختياراتهم
داخل هذا البيت الفسيح.