صيحات التجديد الديني (18)
الإثنين 11/مايو/2015 - 08:14 م
طباعة
ونأتى إلى مفكر ومجدد إسلامى شجاع ضحى بحياته في سبيل معركته ضد الخلافة العثمانية، فقد أنكر مبدأ الخلافة وأنكر استبدادها العثمانى، إنه الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، والكواكبي من أسرة ذات حسب ونسب في مدينة حلب، وهو رجل دين اكتسب مهابة أسرة أغلبها شيوخ دين محترمين، وهو محام كرس مكتب المحاماة الخاص به لاستشارات مجانية للفقراء، وصحفي أصدر صحيفتين هما الشهباء (عام1878) والاعتدال (1889) وعلى صفحاتهما هاجم شيوخ عصره من الرجعيين والذين وضعوا أنفسهم في خدمة الخليفة العثماني وأعانوه على استبداده وظلمه، ورغم ثراء أسرته كرس كثيرًا من كتاباته دفاعًا عن الفقراء وهجومًا على الاستبداد والمستبدين. وقدم الكواكبى فهمًا ليبراليًا صافيًا للإسلام ودافع عن العقل وعن حرية الإنسان. واستمر الكواكبى في معركته من أجل التجديد في فهم الدين، نافيًا أيه سلطة أو حتى قيمة للشيوخ الذين يساندون الخلافة والخليفة ويعملون في خدمته وأطلق عليهم أسماء قاسية منها "عمائم السلطان" و"الجهلة المتعممين" حتى ضاقت به دار الخلافة ذرعًا، وأغلقوا صحيفتيه واحدة بعد الأخرى، ثم ساقوه إلى السجن عدة مرات غير مبالين بأنه سليل أكبر الأسر الكردية العريقة في حلب، ولا مبالين بأنه من الأشراف الذين يمتد نسبهم إلى الرسول، سجنوه مرات عدة، وطاردوه، وطاردوا أنصاره فقرر الهروب من ظلم الخليفة العثمانى كى يستطيع أن يقول ما يشاء ويكتب ما يشاء. وأتى إلى القاهرة لأنها كما قال "دار العلم والحرية". وفي القاهرة أصدر كتابين شهيرين "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" و"أم القرى". وكان الكواكبى يعرف أن معركة التجديد الديني طويلة الأمد، وأنها قد لا تثمر سريعًا وقد تكون خطابًا للأجيال القادمة.. وقد كانت كذلك، فأوضح الكواكبى ذلك على الغلاف وفي ذات العنوان فأتى عنوان الكتاب كما يلى:
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
كلمات حق وصيحة في واد.. إذا ذهبت اليوم مع الريح
لقد تذهب غدًا بالأوتاد
محررها هو "الرحالة ك"
كان الكواكبى فيما أسماه "دار العلم والحرية" لكنه كان يستشعر أنه محاط بجواسيس الخليفة العثمانى، وخاصة هؤلاء الذين كانوا يرتزقون من الدفاع عن دار الخلافة ويرفضون أية دعوة لاستقلال مصر أو حتى لإحياء روح الوطنية المصرية، مؤكدين "إن إضاعة الخلافة إضاعة للدين" وأنه "لا وطنية في الإسلام" ولهذا فإنه لم يذكر اسمه كمؤلف واكتفى باتخاذ اسم سرى هو "الرحالة ك" وكعادة أهل زمانه من العلماء المرموقين اتخذ لنفسه مجلسًا دائمًا في قهوة أسبلينديد بالعتبة حيث كان يلتقى كل يوم مع مريديه ليشرح لهم ما جاء في كتابه، متحدثًا عن معنى الاستبداد وما هي أعراضه والدواء لمواجهته؟ ولماذا يخشى الخليفة العثمانى شعوب دولة الخلافة؟ ولماذا ترفض الرعية استبداد الخلافة؟.. ورويدًا رويدًا تجمع حوله عديد من المفكرين الإسلاميين الباحثين عن ضوء التجديد ومنهم الشيخ رشيد رضا ومحمد كرد على وإبراهيم سليم النجار وطاهر الجزائرى وعبد القادر المغربى وآخرون. وكان "الرحالة ك" قد بدأ في نشر فصول كتابه وبدون توقيع في جريدة المؤيد لصاحبها الشيخ على يوسف ثم جمعها في كتاب. صدرت طبعته الأولى عام 1318 هجرية.
ونتابع ما كتب الكواكبي.