رجل الدين في الأدب المصري -5.. يحيى حقي
الخميس 16/يوليو/2015 - 07:27 ص
طباعة
في سيرته الذاتية الروائية: "خليها على الله"، يتوقف يحيى حقي أمام تجربة مبكرة مريرة، عاشها في مطلع شبابه، وتنعقد فيها البطولة لإمام مسجد من المساجد التي يزدحم بها حي "السيدة زينب". لا يكشف الكاتب الكبير عن اسم الخطيب المفوه الذي يتحدث عنه، لكنه يشير إلى خطورة الدور الذي قام به في تشكيل أفكاره ورؤاه، عن الدين والدنيا معًا.
بعد جولة طويلة مع خطباء صلاة الجمعة في الحي الديني الشعبي العريق، يصل حقي إلى من يوقن أنه الأفضل والأجدر بالمتابعة: "واصطفيت لنفسي خطيبًا في مسجد كبير يقع قريبًا من دارنا، أواظب على صلاة الجمعة فيه ولا أجرؤ على التخلف عنه".
للخطيب الذي يتعلق به الكاتب الكبير ملامح شكلية توحي بمزيج من القوة والرجولة وموفور الصحة والعافية، فضلاً عن الأناقة اللافتة لملابسه المهندمة المتجانسة: "كان الخطيب رجلاً ضخم الجثة، مهيبًا، له لحية كثة بين الحمراء والصفراء إذا سقط عليها شعاع من الشمس تلألأت أنوارًا.. نظيفًا، متأنقًا، متعطرًا، شاش العمامة أبيض كالثلج، تقف فتله كأسنان المشط، وطيلسانه يخرخش كأنه خارج لتوه من رجل – لا يد- الكواء البلدي".
لا يستمد إمام المسجد قوة تأثيره وعظيم نفوذه من الإطار الشكلي وحده، فهو أيضًا رجل دين متمكن ذي حضور وجاذبية ذات شأن، وأسلوبه المتميز في الخطابة يحيله إلى ساحر يقع الجميع في أسره: "إنه يرتجل خطبته، لاشك عندي في ذلك، ولو أنه لا يتريث أو يتلجلج ولو في كلمة واحدة.. ما يكاد يفرغ من البسملة والحمد حتى تنحدر رأسه للوراء وترتفع لحيته وكأنه يسبح في بحور من الجلالة، أو أنه يرى الغيب.. وقعنا كلنا أسرى في قبضة سحره، صوته يدوي في أرجاء المسجد، عذبًا قويًا، يهز قلوبنا هزًا.. الناس صامتون كأن على رؤسهم الطير.. يمصمصون بين الحين والآخر شفاههم تحسرًا على انحدار المسلمين.. وإذا ذُكر اسم النبي "صلعم" ارتفعت موجة من الترجيع، كأنها شهقة واحدة، يخشع لها قلبي ويجف حلقي وتدمع عيناي..".
"رجل" كامل الرجولة، مهيب أنيق نظيف، وظيفته روحية سامية جليلة، وشعبيته طاغية بحيث يندفع الناس إلى الالتفاف حوله والتبرك به. لا ينجو حقي نفسه من الارتباط العاطفي المتطرف، والإجلال الذي يليق بمكانة الشيخ وقدرته على التأثير: "فإذا هبط الخطيب من المنبر تجمع حوله بعض المصلين يمسحون بيدهم على طيلسانه، ثم يمسحون بها على وجوههم، وهو مبتسم تواضعًا لا كبرياء.. كنت أقلدهم وأحذو حذوهم، كنت أكَّن لهذا الرجل محبة وإعزازًا وفوقهما احترامًا وتوقيرًا.. كم تمنيتُ لو وقعت نظرته عليَّ وحدثني ليعلم ما في قلبي نحوه".
لا يتطرق يحي حقي بشكل مباشر إلى مضمون الخطبة التي تترك مثل هذا الأثر الهائل، لكن المؤشرات جميعًا تنبئ عن أن الشيخ بارع متمكن في الإلقاء وجذب الأنظار والأسماع إليه، وتتمثل أسلحته في الصوت والإيماءة والقدرة على التغلغل في أعماق النفوس. لا غرابة إذن في أن يتعلق به الشاب ويحترمه ويوقره، ثم تأتي المفاجأة المؤلمة بغيابه عن إلقاء خطبته المعتادة التي يتطلع إليها الأحبة والمريدون، ويجدون فيها الزاد الروحي المشبع: "ذهبت كعادتي للمسجد يوم الجمعة ونودي للصلاة وتعلقت أبصارنا بالباب المؤدي إلى الميضة، إذ عودنا الخطيب أن يهل علينا منه في تلك اللحظة، فلم نر شخصه. ولا أدري من أين انفلت من بين الصفوف رجل قزم أجرد نحيل صعد المنبر وتلا علينا بصوت أخنف خطبة لم أعِ منها- لشد خيبة الأمل- كلمة احدة".
يفتقد الخطيب البديل كل مقومات الإمام الغائب، فهو قزم نحيل أخنف الصوت بلا هيبة، ولعل الجانب الأكبر من التقييم السلبي مرده إلى المقارنة الضمنية غير المتكافئة مع الإمام الضخم المهيب ذي الصوت العذب والأناقة التي يكتمل بها نفوذه غير المحدود. الحزن لغيابه لا يمثل شيئًا ذا بال بالحزن الذي يترتب على معرفة الأسباب الحقيقية للغياب: "وعدت إلى الدار وذكرت الأمر لوالدي، وكان موظفًا بوزارة الأوقاف وعنده علم بأخبار خطباء المساجد، فذكر لي- لا يعلم مبلغ وقع كلامه عليَّ- أن هذا الشيخ قد رُفت من عمله لأنه ضُبط في جريمة خلقية تزري برجولته وكرامه جنسه، ليته قال لي إنه ضُبط مع امرأة، أو مع مخنث. فنحن في الشرق نفرق بين الاثنين ونغفر لواحد دون آخر، ونصب عليه احتقارنا، أما في الغرب فالاثنان عندهم سواء، تصفهما كلمة واحدة لا تعرف أيهما تعني، وقع عليَّ هذا الخبر وقع الصاعقة وزُلزلت له نفسي زلزالاً شديدًا.. وانقطعت عن صلاة الجمعة زمنًا طويلاً لا أذكره.. ولما عدت كنت غير الذي كان.. خط سير حياتنا مرتبط بحوادث نقابلها قضاء وقدرًا".
ظاهر "الرجل" لا ينبئ إلا عن الرجولة الكاملة البعيدة عن شكوك وهواجس الانحراف الجنسي، فضلاً عن الشذوذ، لكن غيابه المفاجئ يكشف عن الحقيقة الصاعقة الصادمة غير المتوقعة. الشذوذ الجنسي جريمة خلقية مرذولة تدعو إلى الازدراء والاحتقار، وموقع الشيخ المبجل في الجريمة المزلزلة "سلبي" يستدعي المزيد من النفور والاشمئزاز. حقي، والمجتمع المصري كله، قد يغفر الخطيئة مع المرأة، لأنها انحراف في إطار سوي، وقد يختلف الاحتقار وتقل حدته إذا كان المدان بالشذوذ "إيجابيًا"، فاعلاً لا مفعولاً به، لكن "الرجل" لا يترك لمحبيه فرصة تبرير أو غفران!.
هذه الحادثة – الصدمة، تكشف عن عدة محاور جديرة بالتأمل والرصد والتحليل.
يشير المحور الأول إلى أن المظهر الخارجي البراق لا ينهض دليلاً يقينيًا على طبيعة السلوك الجنسي، فها هو رجل ورع، كامل الرجولة من الناحية الشكلية، يقع في براثن الداء المشين.
أما المحور الثاني، فهو الاختلاف الشاسع ين الشرق والغرب في أسلوب التعامل مع الشذوذ الجنسي. الشرق يميز بين الشواذ ويصنفهم درجات تبعًا للموقع الذي يحتله الفرد في الممارسة، والغرب يضع الجميع في سلة واحدة.
ويؤكد المحور الثالث أن الشذوذ الجنسي لا يقتصر على أوساط اجتماعية معينة، أو مهن دون أخرى، فالشيخ الذي يحكي عنه حقي رجل دين من أصحاب المكانة الاجتماعية المميزة، ووظيفته التي يرتزق منها هي الدعوة إلى الفضيلة والسمو الروحي والالتزام بالأخلاق الحميدة.
ليس بالمظهر الخارجي وحده تتضح ملامح الشذوذ، فالخطيب- الصدمة أبعد الناس عن إثارة الريبة والشك، لكنه في النهاية ليس إلا إنسانًا يخضع لما يسري على البشر جميعًا من مختلف الطوائف والمهن.
لا ينجو رجال الدين من داء الشذوذ الجنسي، المحرَّم المجرَّم دينيًا واجتماعيًا، ولا نجاة لهم أيضًا من محدودية الوعي وضحالة الرؤية. في سياق الحديث عن الشيخ الشاذ، يتطرق حقي إلى نمط لا يروق له من الأئمة، شذوذهم فكري عقلي وليس جنسيًا: "كأنما لا يحلو لهم إلا تقريعنا وسبنا وشتمنا، الكلام موجه إلينا. لقد ضاع الإسلام لأنكم أهملتم الصلاة (ألم نأتِ للصلاة!) ونسيتم الزكاة (وأغلب الحاضرين من الفقراء المستحقين للزكاة!) لماذا انطوت قلوبكم على المعاصي والإثم! إن جهنم لكم بالمرصاد.. يا أخي! لقد جئنا للمسجد طاعة لله سبحانه وطمعًا في رحمته ورضوانه. أناس كثيرون غيرنا لم يأتوا للصلاة، ولا نريد منك كلمة شكر، بل – على الأقل- اعفنا من السب"!.
المقبلون على الصلاة يتعرضون للتوبيخ والتقريع، والخطيب الذي يشتم لا يملك الحد الأدنى من الوعي، ولا بصر عنده أو بصيرة. في إحدى قرى منفوط، يقرأ خطيب الجمعة من كتاب قديم منقطع الصلة بالواقع، ويشيد بوفاء النيل ومجيئه لأرض مصر بالخير والخصب والبركات: "يصل إلى أسماعنا صراخ النسوة في القرية باكيات محاصيلهن التالفة، وجاموسهن الغارق، ونكبتهم الكبرى بفيضان النيل ذلك العام، اكتسح القرية وجسورها وأكل أرضها وأتلف محاصيلها وهدم بيوتها وزرائبها.. والخطيب ماض في خطبته والناس أمامه مطأطئون الرءوس مدفوسة بين ركبهم.. إن كان قلبي قد رق لهم، فقد رق رقة أشد لهذا الخطيب الساذج".
أنماط شتى من الشذوذ، والمحصلة النهائية هي الشعور الحاد بالفجوة الشاسعة بين الدين والدنيا. ينقطع حقي طويلاً عن الصلاة بعد صدمته في الشيخ الشاذ، ثم يعود كائنًا غير الذي كان. تغيب عنه لحداثة سنة حقيقة أن أحدًا لا ينهض حجة على الدين، وانحراف الفرد يدينه وحده، وكذلك الأمر عند من يرددون الأفكار سابقة التجهيز، ويكررون في بلادة بلا وعي ما في كتيباتهم البالية، ولا يكلفون أنفسهم عناء النظر إلى ما يحيط بهم في الواقع ومعطياته وهمومه المتراكمة!.