رجل الدين في الادب المصري-6.. مكاوي سعيد
الأربعاء 22/يوليو/2015 - 08:30 م
طباعة
في "تغريدة البجعة"، يقدم مكاوي سعيد نموذجًا غير تقليدي لشيوخ التطرف. المهندس أحمد حامد الحلو، يبدأ حياته يساريًا متطرفًا، وينتهي بالاستقرار في محطة التشدد الديني المتشنج.
خلال سنوات دراسته الجامعية، في السبعينيات من القرن العشرين، ينشط الحلو في تأسيس خلايا شيوعية وتجنيد الزملاء والمعارف، ولا يحول الاعتقال والسجن لعدة أشهر دون تشبثه بالفكر الماركسي، وتتوتر علاقته مع صديقه الراوي مصطفى، الذي يرصد بعض ملامح شخصيته التي تنحو إلى الاستعراضية الاستفزازية والولع بالنجومية وشهوة الظهور: "أحمد الحلو أدمن الاعتقالات.. حتى الآن اُعتقل أكثر من خمس اعتقالات بعد حبستنا الأولى.. وكان يتهمني بالجبن وأتهمه بالعنترية وحب الظهور.. فهو دائم الاحتكاك بالأمن في التظاهرات.. كمن يقول لهم: اعتقلوني.. أحمد الحلو له أتباع ومريدون من الطلبة والعمال والبعض اعتبره قائدًا ومنظرًا عظيمًا..".
إدمان القيادة والعنترية من السمات الجديرة بالاهتمام في شخصية أحمد الحلو، ذلك أن هذه المفردات تصاحبه في مرحلة التحول إلى الفكر الديني، تلك المرحلة التي يتحقق فيها على الصعيد الذاتي، ويجد الكتلة الجماهيرية العريضة التي تطيع وتخضع وتشبع مشاعره النرجسية.
في النصف الثاني من السبعينيات ومطلع الثمانينيات، كان الغزو الوهابي لمصر هو العامل الموضوعي الأكثر حسمًا في التغيير الجذري الذي يطول المجتمع وقيمه، وبتعبير الراوي الذي يجسَّد الحالة في دقة بالغة: "فبعد أن استتب الغزو الوهابي على أرض مصر عن طريق حشود المدرسين والأطباء والموظفين وحتى العمال الذين عملوا لفترات طويلة بالمملكة السعودية ثم عادوا.. تغيرت أنماط الحياة بمصر كثيرًا. هجرنا تقريبًا سماع التلاوة الرائعة الجميلة لعبد الباسط ومحمد رفعت ومحمد صديق المنشاوي وغيرهم. وصار الناس يميلون بذوق عام تم إفساده إلى أصوات مفتعلة للحذيفي والسديسي والثميني وغيرهم. وبتنا نستمع إلى سرسعات خليجية ونهمل عبدالحليم وأم كلثوم ونجاة.. وغزت مطابخنا الكبة والتبولة والمقلوبة ولم يبق لنا إلا أن نأكل الجراد والضب".
الغزو الوهابي مزيج من الديني والاجتماعي والثقافي، وعندما يتفاعل مع الأوضاع السياسية والاقتصادية والتعليمية المتردية، يتهيأ مناخ مثالي للتطرف والتدين الشكلي. خلال هذه المرحلة، يسافر أحمد الحلو إلى السعودية: "عمل أحمد الحلو في إحدى شركات البترول العالمية العاملة هناك لأكثر من أربع سنوات ثم اشتبك مع خبير أجنبي في حوارات سياسية خاصة بالشرق الأوسط وصراع الدول العظمى على الهيمنة عليه، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بتأثير عملاء المخابرات المركزية الأمريكية وأنهم سيفعلون ذلك في الشرق الأوسط وسيجعلون من الإسلام فزاعة للغرب حتى يسهل عليهم السيطرة عليه.. هذه الحوارات أقلقت الخبير الأجنبي وجعلته يوصي بالحذر منه فأعادته الشركة إلى مصر شبه مُرحَّل".
يتغير أحمد الحلو جذريًا بفعل السنوات الأربع في المعقل الوهابي، ويتفاعل بطريقته الخاصة مع المخطط الأمريكي لإعادة تقسيم العالم وترتيب أوضاعه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. يعود إلى مصر شبه مطرود، ويواصل عمله كبيرًا لمهندسي ورشة الميكانيكا في شركة بترول، لكن العائد لا صلة تربطه بأحمد القديم، ووفق ما يقوله الحاج حامد الحلو: "عاد أحمد من السعودية بحمد الله ملتزمًا حريصًا على الصلاة وتأدية الفروض واستبدل البنطال والقميص بالجلباب القصير، وبدأ في إمامة العاملين في فناء الورشة وكان يعقد لهم دروسًا دينية عقب صلاة العصر من كل يوم.. حتى استدعاه أمن الشركة وطلبوا إليه التوقف عن الدروس الدينية، لكنه رفض".
لا يخفي الحاج حامد إعجابه بالتدين الشكلي لابنه، معبرًا بذلك عن عمق التغيير في المجتمع المصري، لكن المهندس العنتري الباحث عن الزعامة في مرحلتيه الفكريتين المتعارضتين، لا يتوقف عند هذا الحد من التشدد: "استند إلى فتوى لأحد الشيوخ تقول بأن نقود الحكومة حرام لأنها لا تأتي من مصارف شرعية مؤكدة، بل مصادرها هي أموال السياحة الواردة من أعمال التسرية عن الكفرة وبيع الخمور ولهوهم بألعاب الميسر والقوادة، كما تيسر لهم الحكومة رؤية المساخيط المجسمة التي حرمها الله.. ومن مصادرها أيضًا معونات من دول كفرها مؤكد وغير مقطوع به وهدفها الأوحد إبادة المسلمين والإسلام.. ولكي يكون أحمد الحلو قدوة صالحة لمن يستمعون إليه ويصلون وراءه ويهتدون بهديه وهو يعلمهم أمور دينهم.. قرر أحمد الاستقالة من الحكومة الكافرة ثم سعى إلى الكسب الشرعي.. وبدأ في بيع صواني البسبوسة والكنافة بالقطعة"!.
عبر مراحل التطور والانتقال من أقصى اليسار الماركسي إلى ذروة التشدد الإسلامي، كانت الزوجة شاهيناز تسير في ظله وتوافق على سلوكه، وهي التي كانت رفيقة يسارية متطرفة: "كانت تزايد علينا كلنا بمن فينا أحمد.. جرأتها مستفزة وهي تسير بالكاد حاملة تحت إبطها مجلد رأس المال لماركس منتقلة به من كافيتريا إلى أخرى داخل الحرم الجامعي".
في اللقاء بين أحمد وصديقه الراوي، الذي يستعين به الحاج حامد لإقناع ابنه بالعدول عن الاستقالة من عمله الحكومي، يكشف المهندس المتحول عن المزيد من آرائه المتطرفة، ولعل أخطرها ما يتعلق بالموقف العدائي المتشنج من غير المسلمين: "الإمام أحمد بن حنبل قال في حكم دفن النصرانية في مدافن المسلمين بأنها لا تُدفن في مقابر المسلمين فيتأذوا بعذابها. وإن كان في بطنها جنين مسلم لا تُدفن بمدافن الكفار فيتأذى ولدها بعذابهم، وإنها يجب أن تُدفن وحدها فقد أجمع علماء الأمة على أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحدث لروحه. لذا لزم التفريق في الدفن بين مقابر ومثوى المسلمين وغير المسلمين. كان الأب يبدو فخورًا بما يسمعه من ابنه ورأيت أن أنأى بنفسي عن الدخول في جدال عقيم".
اللافت للنظر أن الأب يبدو فخورًا بما يسمعه من أراء وفتاوى مسرفة في التطرف بلا ذرة من اعتدال وتسامح، فهو لا يعترض إلا على الاستقالة من العمل، لكن الأفكار الوهابية المتشنجة التي يرددها أحمد تروق له، مثله في ذلك مثل قطاع عريض من البسطاء محدودي الوعي والثقافة، الذين يجدون في التشدد الديني الأجوف علامة على الصلاح والتقوى والالتزام المحمود بأحكام الشريعة الإسلامية!.
يصل أحمد الحلو إلى اقتناع يقيني بجاهلية المجتمع وحتمية مخاصمته والقطيعة الشاملة معه، ولاشك أن الحشود التي تصلي وراءه وتستمع إلى دروسه من الموافقين على آرائه المسرفة في التطرف، وكذلك الحال مع الزوجة والأب، بل إن أفراد شرطة البلدية، السلاح الذي يستخدمه الأمن السياسي لمضايقة أحمد الحلو، لا يملكون النجاة من تأثير الشيخ المهندس: "استطاع أن يرهبهم باسم الدين ويحذرهم من قطع عيش المسلم المسالم وينبئهم بمصيرهم الأسود يوم القيامة.. فقل الاهتمام به من رجال البلدية الذين أصبحوا يصلَّون خلفه أحيانًا".
ليس مستغربًا أن ينعكس هذا النمط من السلوك المتطرف على أسلوب أحمد في تربية ابنته، الطفلة التي لا يتجاوز عمرها أربع سنوات. ترتدي الإسدال والحجاب، ويمنعها من السلام على صديقه القديم، فأي منحدر؟!. إنه لا يمثل ظاهرة فردية استثنائية، فالغزو الوهابي يحقق نتائج مماثلة مع غيره، والنظام المصري قصير النظر يبارك أو يتهاون، من منطلق الحسابات الخاطئة التي تحكمه. ما أكثر اليساريين الذين تحولوا إلى المعسكر الديني، وأفادوا من ثقافتهم القديمة لتحقيق حلم قيادة كتلة جماهيرية، لا تُقارن بالأفراد القلائل الذين كانوا يمارسون عليهم القيادة في سنوات المد اليساري.
في الرواية نفسها، يظهر شريف يوسف حلمي، ابن المنتج السينمائي الكبير. يرتدي الجلباب الأبيض، ويطلق ذقنه، وتتحصن زوجه بالنقاب. يتعاملان مع الأب العجوز الذي يعيش أيامه الأخيرة في جفاء وغلظة: "يلقي اللوم على والده بسبب عمله القديم في الوسط الفني (القذر!!) ويتهمه بأنه رباه وصرف عليه من مال حرام".
شيوخ التطرف هؤلاء، ليسوا من رجال الدين المحترفين الذين تلقوا تعليمًا دينيًا، لكنهم حصاد وثمار الغزو الوهابي لمصر.