تدين الأوهام
الخميس 30/يوليو/2015 - 05:57 م
طباعة
ركبت الحافلة ليلا من الرباط صوب مدينة وجدة منذ أزيد من 10 سنوات، ولما خلدت إلى النوم قبل آذان الفجر، مغتنما فراغ الأماكن بعد نزول كثير من الركاب، فكرت في صلاة الصبح وكنت لا أجد طريقا إلى الوضوء أو حجرا للتيمم.. وسرعان ما سقط بين يدي حجر تيمم أبيض.
ذُهِلْت وقلت إن في ذلك استجابة ربانية آنية وكرامة إلهية وعلامة ارتقاء إلى مدارج الأولياء، غير أني فكرت مليا ثم قلت إن ما انتابني وسوسة إبليسية وخطوة شيطانية قد تضعني على مسالك الأشقياء، ذلك أن ثمة تفسير منطقي راجح يكمن في وضع أحد الركاب حجره بين الكرسي وغشائه ثم نسيه عند الهبوط، وبعد كثير من الحركة سقط الحجر.
أسوق هذا الكلام عن تجربة عشتها لأنفذ إلى الحديث عن طغيان الجانب الوجداني عند بعض المتدينين والذي بلغ بهم حد الوهم والخرافة !
حين ترجع إلى كتب المناقب تجدها حبلى بالكلام عن خوارق الأولياء(الكرامات)؛ فهذا طيار يطير في السماء ويطوي الزمن والمسافات ثم يمشي فوق الماء ويفْتَكُّ الأسير وينجي الغريق، وذاك بدل يملك من الأبدان ما يجعله يحضر أكثر من مكان وفي نفس الآن، وآخر من جنسه يسمع ويرى ما نأى وتوارى من كلام الأناسي وحوادث الزمن، وغيره تخضع لعظمته ضواري الوحوش وتنزح عن سبيله أفتك الحيات.
بقدر ما أرفض هذا المنطق، وأتأوه من تأثيراته الوخيمة على الحضارة الإسلامية، أُكبر فيه خياله الواسع، وإثارته كمًّا هائلا من أسئلة المستقبل. إذ أن كل ما أنتجه هذا الخيال صار اليوم واقعا ملموسا عند كل البشر دون أن يختص به عارفا بالله. لكن ذلك لم يأت إلا بعد بحث علمي مضن ومتراكم، في زمن عاشت الأمة الإسلامية لحظات جزر قدمت فيها إجابات عن تلك الأسئلة وهي مقبلة على محراب التعبد ومدْبرة عن مختبر التجربة؛ بعيدة عن منطق العلم، قريبة من منطق الخرافة الذي يتوسل أسرار الذكر وفتوحات الكشف.
وإذا كان مبررا اتخاذ ذاك المسلك من قبل بعض السلف، فإنه لمن الغريب استمساك كثير من الخلف بهذه الأفكار منتهية الصلاحية، فقد جاء يوم الفصل بعد استجابة الإنسان المعاصر علميا لتطلعات الماضي، إذ نجح بغزو الفضاء وركب البحر على نحو غير مسبوق، وتواصل بالرغم من تباعد الديار، واستنسخ الصور والأبدال عبر الشبكات والفضائيات.
وبلغ الوهم منتهاه باعتقاد كثير من المتدينين القدامى والمحدثين السِرّ في الدين. وكلما سمعت كلاما عن السر والإذن ذكرت سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
إن أعظم خلل تسلل إلى النصرانية هو الاعتقاد بوجود أدعية وأذكار سرية توارثتها أجيال متعاقبة عن حواريي عيسى عليه السلام، وصارت تباع في أوروبا خلال القرن 15م في شكل وثيقة منجية من الأهوال سميت بصكوك الغفران.
ولو لم يكن دين الإسلام محفوظا لتطرق إليه ذات الخلل ولصار ركنا من ثوابت الدين عند عموم المسلمين. وبالرغم من ذلك فإن كثيرا من المسلمين يعتقدون بوجود أسرار في الدين.
حاورت أحدهم في ذلك فأخبرني بأن النبي صلى الله عليه وسلم أودع بعض الأذكار سرا عند علي رضي الله عنه وتوارثها بعده الأولياء جيلا بعد جيل، وهؤلاء الأولياء يملكون وحدهم "الإذن" بالتربية والارتقاء بالناس إلى أعلى مراتب التزكية والقرب من الله ! عن أي سر يتحدث؟ وأي وَهْم عظيم يعتقد؟
ألم يكمل الله لنا الدين، ألم يتركنا النبي صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء؟ ! قال بلى، ثم استدرك: إن ما تقول ذو صلة بالشريعة، بينما السر والإذن والكشف ذو صلة بالحقيقة، والشريعة علم بالظاهر، أما الحقيقة فهي علم لدني باطني، ألم تقرأ في القرآن الكريم قصة الخضر وموسى عليهما السلام، وكيف اضطرب حال نبي الله موسى حيال وقائع القتل والهدم وخرق السفينة؟ ذلك لأنه كان عالما بالشريعة فقط، أما الحقيقة فهي علم من لدن الله أكرم به وليه الخضر.
وهيهات أن يتخلص من الوهم إذا لم يأخذ عن العلماء المحققين حقيقة نبوة الخضر عليه السلام. وعوض أن يفيد هذا المتدين من هذه القصة فقه الموازنة بين المفاسد المؤقتة والمفاسد الدائمة وتفويت المصالح المؤقتة من أجل المصالح الدائمة، اختار تأسيس شريعة جديدة تهدي إلى الوهم.
سأواصل تناول أنماط التدين في الحلقة القادمة إن شاء الله بالحديث عن التدين العقلاني.