رجل الدين في الأدب المصري- 9.. عبدالرحمن الشرقاوي
الخميس 13/أغسطس/2015 - 06:42 م
طباعة
الشيخ الشناوي، في رواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي: "فقيه القرية ومفتيها، وخطيب مسجدها ومأذونها الشرعي، ومعلم الأولاد فيها، وواعظ الكبار.
وهو رجل طويل عريض ضخم الجثة، غليظ القفا، عظيم الكرش، يحب الموالد والطعام، وكنا نحسب نحن الصغار أنه يستطيع أن يضع في بطنه بقرة.. وهو رجل يحبه الجميع ويضحكون معه ولا يكاد يوجد في القرية رجل لم يذق عصا سيدنا الشيخ الشناوي عندما كان يقرأ في الكتاب".
رجل دين متواضع الثقافة، محدود الوعي، بسيط إلى درجة السذاجة، نهم مرح، يحظى بالكثير من الحب، ولا شيء من الاحترام تقريبًا!.
العمدة والشيخ يوسف والشيخ حسونة، ممن درسوا في الأزهر مثله، يتفوقون عليه بدرجات متفاوتة في الثقافة الدينية والمكانة الاجتماعية وقوة الشخصية، لكنه الوحيد الذي يتخذ من العمل الديني مهنة يتفرغ لها، ويختلط أداؤه بمؤثرات النشأة الريفية فيبدو قريبًا من الخطاب الشعبي: "كان يروي الأحاديث بلغة أهل القرية ولا يعنى أبدًا بأن يقول الكلمات الصحيحة التي أوردتها كتب الأحاديث. وكان مولعًا بقصص موسى وفرغون وعاد وثمود يرويها كما لو أنها كانت قد وقعت في القرية تمامًا بنفس اللغة ونفس الإشارات".
يعتمد الشيخ الشناوي في إلقاء خطبة الجمعة على كتاب أصفر قديم، منقطع الصلة بواقع حياة الفلاحين ومشاكل القرية، أما عن مواقفه العملية فإنه ينحاز دائمًا إلى السلطة ويدافع عن مصالح الأغنياء وكبار الملاك، دون نظر إلى درجة ورعهم والتزامهم الديني. يتجلى ذلك بوضوح عندما تعاني القرية من أزمة الماء والري، فهو: "يتحدث في إجلال عن أمر الله الذي قضى بأن تُحرم القرية من الماء خمسة أيام لينعم به الباشا قريب محمود بك جزاء وفاقا لأنه يؤتي الزكاة والقرية تمنع الزكاة"!.
يتسم ما يقوله عبدالهادي بكثير من التحامل والمبالغة، ذلك أن ملكية الأرض هي المعيار الوحيد الذي يضعه الفلاح الشاب القوي نصب عينيه عند تقييم الآخرين، وفي هذا الإطار الضيق ينظر إلى الشيخ الشناوي كواحد من الغرباء الذين لا يحق لهم الزعم بالانتماء إلى عالم القرية: "لو كان سيدنا يملك قيراطًا واحدًا على الأقل.. ولو أنه أعمل فيه الفأس، وانحنى عليه وحفر له القنوات.. لما اعتقد أن أمر الله هو الذي حرم القرية من الماء لينعم به الباشا ولروى أحاديث أخرى.. ولآمن أن الحكومة – لا الله- هي التي تحرم أرض الفلاحين من الماء وتميت أعواد الذرة الغضة.. ولتأكد أن الحكومة وحدها- لا الله- هي التي تصنع المصائب.
إن سيدنا هو الآخر كخضرة: لديه شيء يبيعه للذين يملكون المال والجاه والكلمة.. ولا يعنيه إلا أن يبيع الشيء الذي يملكه.. ولتهلك بعد هذا أرض القرية.
إن الذين يملكون أرضًا في القرية يضعون أيديهم في النار.. أما سيدنا فهو كخضرة يده في الماء.. ولهذا فهو يقول كما يشاء. لو كان له أرض لالتهى!".
يتطرف عبدالهادي، بلا منطق متماسك، في الهجوم الضاري على الشيخ الشناوي، والتحليل الطبقي الذي يستخدمه يليق بوعي الروائي وثقافته، ولا يمت بصلة إلى فلاح بسيط، يتجاوز كل حدود المعقولية عندما يضع رجل الدين مع العاهرة الرخيصة خضرة في سلة واحدة، ولا مشترك بينهما إلا غياب ملكية الأرض!.
عندما تموت خضرة، يتحمس عبدالهادي لدفنها في مقابر "قريبها" الشيخ الشناوي، ثم يشير إل أختها زنوبة التي تملك خمارة في القاهرة، وهي من تزور القرية قبل سنوات لتجد كل الاهتمام والترحيب من الشيخ: "وأعطت للشيخ الشناوي جنيهين فقرأ الفاتحة على أرواح موتاها، ودعا الله لها أن يوسع عليها في الرزق.. ورزقها من الخمارة كما يعرف الجميع!".
هل يمكن لرجل ديني قروي، حيث التقاليد الأخلاقية الصارمة، أن يمارس سلوكًا كهذا؟!. المناخ الاجتماعي المحافظ، وليس الدين وحده، يحول دون التعامل الفج المباشر مع أمثال زنوبة، التي يتغير اسمها إلى إحسان هانم، لكن الشناوي لا ينكر شيئًا مما يقوله عبدالهادي، وينبري لدفاع متهافت يخلو من القدرة على الإقناع: "إحسان هانم ليست كخضرة، وقد غفر الله لها لأنها تصدقت وأقامت ليلة لأهل الله ومولدًا للنبي، وتبرعت للجامع.. وهم الشيخ الشناوي بأن يروي حديثًا عن امرأة مثلها دخلت الجنة.. غير أن عبدالهادي قاطعه وهو يضحك:
- فاهم!! مادام عندها دهب ومساغ وبتعمل مولد وبتدفع للفقها والجامع.. دي طبعًا لها في الجنة سراية وجنينة كمان! وما فيش مانع تبقى قريبتك.."!.
العداء المتطرف لأفكار الشيخ الشناوي لا يقتصر على عبدالهادي وحده، فما أكثر الذين يهاجمون الرجل ويتحاملون عليه ويسرفون في الانتقاص من شأنه. الأمر إذن يتعلق بالروائي نفسه، فهو لا يجد في رجل الدين القروي إلا عنصرًا رجعيًا جديرًا بالإدانة. الفلاحون العاديون يقاطعونه في المسجد ويسفهون مقولاته، ومحمد أبو سويلم والشيخ يوسف يسخران منه، بل إن مسعود أبو القاسم المهدد بفقد بقرته بعد سقوطها في الساقية، يتطاول عليه في عنف عندما يهم الشيخ الساذج برواية حكاية عن "بقرة سيدنا موسى" بغية التخفيف عنه، فيصيح غاضبًا: "ما تغور بقى يا سيدنا. يا شيخ غور. فاتحة ايه وبقرة سيدنا موسى ايه"!.
للدين مكانته الجليلة المقدسة في حياة الفلاح المصري، وتنعكس هذه المكانة بالضرورة على تقدير الفلاحين البسطاء للشيوخ من أمثال الشناوي، فكيف يصل الهجوم عليه إلى هذه الدرجة من الغلظة؟.
الشيخ الشناوي رجل يدين بالولاء المطلق للسلطة، المحلية والمركزية، ويكن الاحترام غير المنقوص للأثرياء والأقوياء. يطيع العمدة الخبيث الماكر فيقود حملة لجمع التوقيعات على عريضة مجهولة لا يعرف شيئًا عن مضمونها، وهي عريضة كارثية تفضي إلى نزع ملكية أراضي صغار الملاك لشق طريق زراعي:
"- اللي يحب الله ورسوله يروح بختمه عا الدوار. يا للا يا كفرة! يا بلد زنادقة.
واستطاع الشيخ الشناوي أن يجمع عددًا من الرجال ودفعهم بعصاه وشتائمه إلى الدوار".
موقفه هذا بمثابة الامتداد لفعل سابق في الانتخابات الهزلية لإسماعيل صدقي، رئيس الوزراء المستبد المعروف بعدائه للوفد والشعب: "جمع الناس ذات يوم من الحقول ليعطوا أصواتهم لهذه الحكومة، وقال إن بيدها الخير وإن قدومها قدوم سعد!!
وكانت الحكومة نحسًا على القرية".
لا يمكن القول إن الشيخ الشناوي شرير أو عميل للسلطة الفاسدة الظالمة، فهو رجل ساذج يتحرك وفق رؤية قاصرة تفتقد الوعي والإدراك الصحيح، وليس أدل على ذلك من تصوره عن العلاج الأمثل لأزمة الري التي تهدد الأرض والمحاصيل: "أمسك الشيخ شناوي سبحته.. ورفع يده بالمسبحة.. وقربها من عينيه وطلب من الموجودين أن يقرأوا عدية يس على من قصر مواعيد الري: أن ينتقم الله منه بحق جاه النبي!".
لاشك في حسن النية بطبيعة الحال، لكن السلوك العشوائي المندفع الأهوج يقود إلى المهالك دائمًا، فهو يُقاد ولا يقود. في سنوات التوهج والصعود والمد الثوري، يندمج الشيخ في التيار العارم ويتحرك وفق إيقاعه، كما هو الحال في ثورة 1919. يفكر الشيخ يوسف: "لقد كان الشيخ الشناوي نفسه في تلك الأيام الماضية من سنة 1919 يقف إلى جانبه في طرقات القرية، ويهز يديه هو الآخر ويقول "يحيا الوطن".. كانت له نفس اللحية الشيباء والوجه الأبيض المليء.. وكان يروي نفس الأحاديث والحكايات عن الأنبياء.. ولكنه في تلك الأيام كان يروي مع الأحاديث حكايات أخرى سمعها عن التل الكبير وكفر الدوار.. ومعارك عرابي ضد الإنجليز وحتى ضد الخديو من أجل الدستور الذي كان اسمه اللائحة!.
وعلى أية حال فلم يفكر أحد في أيام سنة 1919 في أن يطلب من الشيخ الشناوي قراءة عدية يس".
لا غرابة في أن يتغير الشيخ الشناوي بعد أكثر من عشر سنوات على اشتعال الثورة الشعبية، فالشيخ يوسف نفسه صاحب مواقف تتسم بالتذبذب والتأرجح بين الثورية والانتهازية.
الشيخ الشناوي رجل طيب بسيط، وعندما يهبط الهجانة إلى القرية المتمردة ويفرضون حظر التجول، يصر على الخروج لصلاة العشاء، قبل أن يتراجع مذعورًا: "لم يكد الشيخ الشناوي يسمع فرقعة الكرباج في الهواء ويرى منظر الشاويش عبدالله، حتى جرى عائدًا إلى داره وهو يلعن البلد وأهلها والجامع والصلاة.. والذين يصلون في الجامع"!.
مشهد كاريكاتوري لا يخلو من المبالغة الساخرة، لكنه يبرهن على أن الشناوي واحد من آحاد الفلاحين البسطاء، أولئك الذين ترعبهم فرقعة الكرباج، فتنطلق كلماتهم عفوية لا ينبغي التعامل مع مضمونها حرفيًا!.