رجل الدين في الأدب المصري -11.. مصطفى عبيد
الجمعة 28/أغسطس/2015 - 06:54 ص
طباعة
عصمت المكي، في رواية "انقلاب" لمصطفى عبيد، ينخرط في منظومة الدعاة الأدعياء، الذين يمثلون ظاهرة شائعة ذات آثار سلبية وخيمة في الواقع المصري، على الصعيدين الديني والدنيوي.
ينتمي عصمت حسانين خلاف إلى بيئة ريفية موغلة في الفقر، وقد ولد في بيت طيني بقرية الكوامل، محافظة سوهاج. يأتي إلى الدنيا ضعيفًا ميئوسًا من بقائه، لكنه يعيش ويحفظ القرآن الكريم في الكتاب، ثم يلتحق بالمعهد الأزهري، ويسافر إلى الحجاز ليواصل الدراسة ويعود بلقب المكي: "تغيرت الدنيا أكثر مما تمنيت وعدت إلى مصر بخيوط مع نجوم المجتمع الباحثين عن علاج روحي لأزماتهم النفسية أو مبررات شرعية لتجاوزاتهم الأخلاقية. فتحت خزائن الفقه وفتشت مذاهب السابقين لأطرح على كل صاحب حاجة أو سؤال الأيسر والأنسب، وهو ما أهلَّني أن أعمل مستشارًا إسلاميًا لعدد من رجال الأعمال الكبار، وان تتعاقد معي قنوات جمال الريدي الفضائية لأقدم فيها برنامجًا أسبوعيًا بعنوان "الدين يسر".
في سنوات ست نقلت عائلتي من الجبل إلى المدينة، وفتحت لهم محلات لتجارة الفاكهة، وتزوجت ثلاث مرات، وسافرت نصف الدنيا محاضرًا ومكرمًا، وغمرتني أنهار الخير حتى صرت واحدًا من أثرياء الدعوة".
يعي عصمت المالكي حقيقة الدور الذي يقوم به في خدمه نجوم المجتمع، وليس أدل على ذلك من تفتيشه النفعي في بطون الكتب الفقهية للبحث عما يرضيهم ويتوافق مع نزواتهم وخطاياهم. عنوان برنامجه: "الدين يسر"، لا ينطبق عمليًا إلا على الصفوة والقادرين من أصحاب الملايين، أولئك الذين يغدقون عليه بالعطايا حتى يكوَّن ثروته الطائلة التي تفوق الخيال. رفعت الديب، الرجل الأقوى في نظام مبارك، يقرأ له كشفًا تفصيليًا بممتلكاته، ثم يتساءل:
"- من أين لك هذا يا شيخ عصمت؟
وأجاب بنفسه:
- من سهم العاملين عليها في الزكاة التي كنت تجمعها في مسجد 6 اكتوبر"!.
إنه لص يتستر بظاهر النص القرآني ليبرر سلوكًا لا يمت إلى جوهر الإسلام بصلة، وليس صحيحًا ما يقوله المكي عن ضغوط أجهزة الدولة التي حولته إلى مخبر وخادم ذليل لشلة من الفاسدين، فالصحيح الأكثر دقة هو ما يواجهه به رفعت الديب، الذي يعرض عليه بالصوت والصورة تسجيلاً فاضحًا لا يمكن أن يُغتفر، لرجل دين ثري متعدد الزوجات، يحترف نشر الفضيلة وخداع البسطاء الذين يصدقون براعته التمثيلية الكاذبة:
"- شذوذ يا شيخ. لواط يا صاحب الفضيلة. أعوذ بالله منك ومن أفعالك.
- سقطة والله، لم أكن في حالتي الطبيعية، لقد كنت تحت تأثير الحشيش.
- يا شيخ عصمت. لا.. يا عصمت، والله كنت سأكذب رجالي لولا جاءوني بهذا الشريط. لم أكن أتصور أبدًا أن تمارس الرذيلة مع شاب عربي في فندق. أنت يا رجل؟ لا أصدق.
لم يجبني وانسابت قطرات العرق على جبينه، فواصلت:
- كيف تعتدي على عِرض شاب عمره 17 عامًا؟
دموع كاذبة حلبها عصمت المكي من عينيه ثم قال:
- هو الذي طلب يا باشا. زلة شيطان. لقد دعاني لأدخن الحشيش ولم أشعر بعدها بما أفعل. استر عليَّ يا سيدي. استر عليَّ ولا تفضحني. أنا خادمك المطيع. ما تريده سأنفذه دون تفكير".
الابتزاز الذي يتعرض له عصمت المكي فعل منطقي مبرر، فهو لص محترف وشاذ جنسيًا وخادم لأصحاب الملايين. لماذا لا يسخره النظام لخدمة مصالحه، مستثمرًا ما يحظى به من شعبية زائفة لا يستحقها؟. إنه شيخ "أفاق" كما يصفه رفعت الديب، ولاشك أنه يعبر عن طبيعة المرحلة الحافلة بالاضطراب والارتباك وهيمنة الأدعياء الكذبة في المجالات كافة: "كنت محبوبًا بقدر اعتدالي المصطنع وسماحتي المفتعلة، وكان برنامجي بفضائية جمال الريدي من أعلى البرامج الدينية مشاهدة وهو ما أهلني كي أصبح نجمًا لامعًا يتم دعوته للمشاركة في أي احتفال ديني أو ثقافي، فضلاً عن سعي مرشحي الانتخابات للتقرب مني كسبًا للشعبية".
الداعية الدعي منافق أصيل للسلطة، ونسبة المشاهدة العالية مردودة إلى براعته التمثيلية، ولا فضل فيها لعلم أو ثقافة رفيعة. غاية ما في الأمر أنه يمتلك أدوات الخداع ومهارة المراوغين، ويتجلى ذلك بوضوح عندما تستضيفه قناة فضائية عربية، تدفع لضيوفها مبالغ طائلة، وعندما يُسأل عن حكم الدين في تزوير الانتخابات، يقول: "إن نظام الانتخابات مستحدث وليس هناك حكم في الإسلام لذلك. فواصل المحاور توريطي وسألني عن حكم الإسلام في الثورة ضد الحاكم الظالم واافاجر فقلت إنه لا يجوز واستعنت بفتوى قديمة نصها كالآتي "حكم غشوم ولا فتنة تدوم". وسألني المحاور الماكر عن علاقاتي برجال الأعمال والفنانات فقلت إنني لا أبخل بأي وقت أو جهد في سبيل هداية البشر. وسئلت عن السياسة فكررت مقولة الإمام محمد عبده "أعوذ بالله من السياسة ومن سائس ويسوس"، وقلت لهم إنني أهب حياتي للدعوة إلى الله فقط".
كاذب محترف يحول الدين إلى تجارة وسلعة، ولا حرج عنده في أن يستنبط من تراثه ما يتوافق مع مصالحة الدنيوية الذاتية التي ترتبط باحتياجات السادة من أصحاب الثروات والنفوذ. في هذا الإطار، تتوالى آراؤه الغرائبية التي لا ترى في التزوير جريمة شرعية، وتدين ثورات الشعوب ضد ظالميها وقاهريها ناهبي ثرواتها، وتختصر المجتمع في قطاع ضئيل العدد والنسبة من رجال الأعمال والفنانات. لم يهب حياته للدعوة إلى الله كما يقول، فهو يهبها للثراء غير المحدود وتلبية الشهوات التي يصعب عليه أن يروضها، تحت راية الشعار الذي يتخذ منه عنوانًا لبرنامجه الفضائي: "الدين يسر"!.
يقول رجل الأعمال جمال الريدي: "لقد أفتى لي صديقي الشيخ عصمت المكي بجواز تتبع أخبار الخصوم والأعداء لحماية مصالحي المشروعة، كما أفتى لي من قبل بجواز تقديم الهدايا ودفع العمولات للحصول على ما يخصنا من أرباح وحقوق.
- إذا كنت مجبرًا، فلا إثم عليك.
هكذا قال لي بعد أن لاحظ ضيقي بعرض مشاركة إلزامي لمشروع جديد تحت الدراسة".
من أين يستمد عصمت المكي فتاواه التي تحلل كل حرام ينهى عنه الدين؟. التجسس مشروع، والرشاوى مباحة، ولا ضير في السرقة أيضًا!. يقول لجمال الريدي في حماس:
"- أنا أفتيك.. سرقة هؤلاء حلال. كم يريدون نسبة في الأرباح؟
- الثلثان.
- إذن.. غير الأرباح حسابيًا إلى النصف. أعرف محاسبًا متقنًا في ذلك، وحتى لو علموه لن يتحدثوا. إنهم يأخذون أرباحًا دون وجه حق. أيًا كان الشركاء فهذا غبن وسرقتهم واجبة"!.
فتواه غير المسبوقة بإباحة السرقة، التي تتحول عند الشيخ الكاذب إلى واجب!، ليست خدمة مجانية بطبيعة الحال. بعدها مباشرة، يطلب زيادة حصته من الإعلانات في برنامجه الفضائي. عندما يحاصره رفعت الديب بعد واقعة الشذوذ، ينقلب عصمت على الرجل كما يليق بانتهازي محترف مراوغ أناني لا يعبد إلا مصالحه، "يريد أن يعبث بحسابات الشركة حتى لا يدفع للباشا الكبير حقه"، وإذ يسأله رفعت عن الذي افتى له بذلك، يرد من يسمي نفسه شيخًا وداعية: "والله كنت سأخبر سيادتك. كنت أتحايل لكي أعرف نواياه وأخبركم بها".
عصمت المكي، وهذه منظومة قيمه الفاسدة، رجل لكل العصور، وخادم غير أمين للأنظمة جميعًا. بعد ثورة 25 يناير، وما يترتب عليها من تغيير في الخريطة: "أجرت جريدة "الشروق" حوارًا مع الداعية الشهير الشيخ عصمت المكي قال فيه إن تطبيق شرع الله هو الحل لكل مشكلاتنا. وقال أيضًا إن الثورة إسلامية وإن بقاء العلمانيين على الساحة يعد بقاء للفساد"!.
أي فساد يفوق فساده؟. تطبيق الشريعة شعار جديد يتاجر به، فهل تغيب عنه حقيقة متاجرته بالدين؟، وهل يعرف العقوبة التي يستحقها، بمقاييس الشريعة، جراء جرائمه التي لا شبيه لها أو مثيل؟!.